مفكّر وكتاب/آب 2019 حوار ثانٍ مع العالِم جاك فينيو
حاوره البروفسور لويس صليبا
د. جاك فينيو Jacques Vigne
د. فينيو موقّعاً كتبه
د. فينيو محاضراً في مؤتمر اليوغا وعلم النفس
مجموعة من مؤلّفات فينيو Vigne
كانت لنا في العدد السابق من مجلّة الأمن جلسة حوار مطوّلة مع العالِم الفرنسي والطبيب ومعلّم اليوغا والتأمّل البروفسور جاك فينيو Jacques Vigne. وقد تمحورت حول الأبحاث العلمية وآخر المكتشفات في مجال الاستخدامات العلاجية النفسية والجسدية لليوغا والتأمّل. وهي موضوع بحثه المقدّم في المؤتمر العلمي الدولي الأول اليوغا وعلم النفس Yoga Psy 1 الذي عُقد في الجامعة اللبنانية الفرنسية ULF ديك المحدي/المتن في 25/5/2019. بيد أن الجلسة هذه لم تكن الوحيدة مع البروفسور فينيو. فزيارة شخصية علمية من هذا المستوى للبنان حدثٌ بحدّ ذاته. لذا عقدنا معه جلسة حوار أخرى تحت عنوان اليوغا وما يسمّيه “التأمل العلماني” وفوائد هذا الأخير وإمكانات استخدامه في وطننا. وننقل في التالي أبرز وقائع هذا الحوار مترجمة إلى العربية.
-بروفسور فينيو أهلاً بك ضيفاً عزيزاً على لبنان ومشاركاً في مؤتمر التأمّل وعلم النفس.
إنني لسعيد اليوم أن أكون بينكم، وأن أشارك في هذا المؤتمر العلميّ والبحثي المهمّ.
–أين تكمن أهمّية هذا المؤتمر برأيك؟
إنّه الأوّل من نوعه في لبنان وسائر دول الشرق الأوسط. وهو يواكب آخر البحوث والمستجدّات العلمية والسيكولوجية على صعيد اليوغا والتأمّل، ويضمّ نخبة من الباحثين الجدّيين في هذا المجال، ويستشرف الأبحاث اللاحقة ومن شأنه، إذا صار تقليداً سنوياً، أن يستقطب خيرة العلماء في هذا المجال.
-ما المطلوب كي يصير المؤتمر كذلك؟
قامت الجامعة اللبنانية الفرنسية ULF بمجهود مشكور في رعاية هذا المؤتمر واستضافته في حرمها في ديك المحدي/المتن. وأبدى رئيسها البروفسور محمد سلهب اهتماماً ملحوظاً بنجاح هذا المؤتمر ومن جميع النواحي: التنظيمية والأكاديمية وغيرها. وإذا تتابعت هذه الجهود وتتالت في السنوات المقبلة فستصل المؤتمرات التالية حتماً إلى المستوى العلمي الرائد والمميّز الذي ننشده.
-بروفسور فينيو ما هي مجالات أبحاثك في السنوات الأخيرة؟
ركّزت أبحاثي الأخيرة على العلاقة بين اليوغا والتأمّل، وبين علاجات النفس والجسد. والرابط بين اليوغا، بالمعنى العام بما في ذلك التأمل، وبين طرق العلاج الغربية كان محور دراساتي، ولا سيما في مؤلفاتي التي بلغ عددها اليوم 17 كتاباً. والتقاربُ المؤكّد بين اليوغا والعلاجات الغربية يمكن، بل يجب، أن يُفهم في إطارٍ أوسع بين الشرق والغرب، وعلى صعيدِ طرقِ الاستبطان التطبيقية، ولا سيما في العلم والتراث.
-ما الذي قاد طبيب نفساني مثلك إلى الاهتمام باليوغا والتأمّل؟
من ناحيتي، فقد قادتني مسيرتي إلى العمل ربع قرنٍ مع يوغيّ فرنسي مقيمٍ في الهند هو سوامي فيجاينندا. وكان قد عمل طبيباً في فرنسا سحابة عقدٍ من الزمن قبل أن يسافرَ إلى الهند، ويقيمَ فيها طيلة ستّين عاماً متواصلاً. وكان سوامي فيجاينندا ذا تنشئة علمية، ويعتبر أن اليوغا علمٌ، بمعنى أننا إذا أجرينا التجاربَ نفسها في نفس الظروف، فسنحصلُ على نفسِ النتائج.
-من هم أبرز العلماء الذين يشاركونك مجالات البحث هذه؟
أذكر أولاً فرنسيسكو ڤاريلا Francisco Varela، وكان باحثاً في الثمانينات والتسعينات من القرن 20 في باريس وأمريكا. وتعاونَ مع الدلاي لاما لتنظيمِ لقاءاتٍ بين متأمّلين وعلماء في معهد فكر وحياة Mind and Life Institute. وقد طوّر هذا التيّار مفهومَ العلم بضمير المتكلّم حيث يكون العارف هو نفسه موضوع المعرفة كما في التأمّل. وإذا مورس التأمّل بطريقة صحيحة، فيمكنُنا الوصولُ إلى مستوى جيّد من الموضوعية تجاه الذات، ومن هنا مفهوم العلم بضمير المتكلّم. وكذلك ألان والَس B. Alan Wallace أحد أفراد هذا التيّار، وهو في آن واحد ممارس للتأمّل وفيزيائي ودكتور في فلسفة العلوم. وقد ألّف بالإنكليزية كتاباً يندرج في هذا السياق عنوانُه: “كي ننتهي من محرّم الموضوعية”.
-ماذا عن التأمّل العلماني الذي تدعو إليه وتعلّمه؟
منذ نحو عشرين عاماً ظهرَ مفهومُ التأمّل العلماني. وهو موضوعُ كتابي الأخير، والذي نُشر في باريس في شباط 2017. وقد وصلَ عددُ ممارسي التأمل العلماني في أميركا إلى نحو عشرين مليون.
هل نفهم من هذه التسمية أن هذا التأمّل منافٍ للدين؟
بالطبع لا فالتأمّلُ العلماني ليس بتاتاً مضادّاً للدين. ولكنه مستقلٌّ عنه. وثمة عمل يجب القيام به داخل الطرق التقليدية، ويكمن في أن نستخرجَ من مجموعةِ ممارساتِها في التأمل وفي التطوّر الداخلي ما يصلحُ لكلّ إنسان أيّاً تكن عقيدتُه. وهذا تحديداً ما فعله الدلاي لاما في واحد من أواخر مؤلّفاته، وفيه يشدّد على “فيما يتعدّى الدين”. ومن ناحيتي، فقد مارستُ نمطاً من التأمّل العلماني عندما علّمته في الطبّ النفساني، وفي السجن، ومؤخّراً في المدرسة.
-ما دور الانتظام في ممارسة التأمّل في جني فوائده؟
مسألةُ الالتزام الشخصي في الممارسة تبقى أساسية: فأكثرُ البحوث في التأمل أظهرَ أن هذا الأخير ليس فعّالاً إلا عندما يُمارَس بانتظام. وهذا ما نلاحظه كذلك في مناهج التأمّل الديني.
-من هم ممارسو التأمل العلماني في الغرب؟ وإلى أي شريحة اجتماعية ينتمون؟
في الغرب، بيّنت الدراسات السوسيولوجية بشأن التأمّل العلماني أن من يمارسُه من ذكور وإناث هم على درجة من التحصيل العلمي تتخطّى المستوى العاديّ. ويعرفونَ غالباً كيف يتجاوزون المرحلة الأولى من البحث عن الرفاهية والسعادة في سبيلِ البحثِ عن جوهر الحياة. وبهذا المعنى تحديداً، فهم يرغبون في المضيّ قدماً إلى ما يتعدّى الأشكال والتقاليد الدينية.
-ولكن هل نجا هذا التأمّل العلماني من النقد؟
قد ينتقدُ بعضُهم التأمّلَ العلماني بدعوى أنه لا يمكن أن يكون جدّياً، لأن من يمارسوه ليسوا مستعدّين للاستشهاد في سبيله. بيد أنّنا نستطيع أن نقلب هذه الحجّة رأساً على عقب، فنقولَ إن هذا تحديداً أحدُ أبرز منافع التأمّل العلماني، ألا وهو فصلُ الممارسة الفردية عن ضرورة الاستشهاد في سبيل عقيدة أو جماعة. والنظرُ إلى هذه المسألة من هذه الزاوية يمثّل تطوّراً حقيقيّاً للبشرية. ولنذكّر هنا أن أديان الهند أي الهندوسية والبوذية والجاينية لا تعتقدُ أن الموتَ في سبيل عقيدة من شأنه أن يؤكّد صحّتَها وصدقَها. وحتى داخل المسيحية نفسِها، فقد أسقط البروتستانت مسألة تكريمِ الشهداء والتعبّدِ لهم، لأنهم لاحظوا أن هذا الأمر من شأنه أن ينحرف بسهولة إلى شيء غير سليم سيكولوجيّاً مثل تنمية أفكار الاضطهاد التي تكوّن، على المدى البعيد، ركنَ جنونِ العظمة الديني.
-ماذا الآن عن مفاعيل هذا التأمّل المبرهَنة علمياً؟
يمكن أن نقول عن البحوث العلمية في مفاعيل التأمّل: عالمَان يلتقيان
وكما ذكرتُ في مؤتمر اليوغا وعلم النفس، فقد شاركتُ في مؤتمر دونڤر Denver 2012، وموضوعُه التأمل وعلوم الأعصاب. وقد دعا إليه ونظّمه معهد الفكر والحياة Life and Mind Institute الذي يتولّى إدارة علاقات الدلاي لاما مع رجال العلم، وينسّق ويحثّ على البحث العلميّ في التأمّل.
-ما الذي استوقفك في ماجريات مؤتمر دونفر؟
افتتح المؤتمر جون كابات-زين Jon Kabat-Zin وهو الذي طوّر تقنيّة “تأمّل الوعي التامّ”. واختتمه ريشار داڤيدسون Richard Davidson من أكاديمية العلوم الأميركية. وهو متخصّص في الروابط بين الدماغ والانفعالات، وكذلك بين الدماغ والتأمّل. وقد رأى في هذه الأخيرة نموذجاً بيّناً لجراحة ترميم الأعصاب الدماغية، وأضاف: «هذه الأبحاث تُبيّن أن الدماغ يمكن أن يُمرّن ويُغيّر تغيّراً مادّياً بطريقة لم يتخيّلها سوى القليل من العلماء.
-هل يمكن أن تضرب لنا مثلاً على ما تقول؟
من الأمثلة على ذلك أن متأمّلاً مارسَ التأملَ ردحاً طويلاً من الزمن، بإمكانه أن ينتج كمّيات كبيرة من موجات Gamma أي موجات الانتباه والتركيز، وأن يزيدَ بالتالي من مقدرتِه على التعلّم والحفظ. وهو أمرٌ لم يسبَقْ أن لوحظَ أو شوهدَ في علوم الأعصاب.
لماذا برأيك؟
لأننا لم نهتمّ بتاتاً في السابق بإجراء بحوثٍ ودراساتٍ علمية على أفرادٍ مارسوا التأمّل بانتظام خلال عشرات السنوات. وبفضل الصور الدماغية استطاع العلماء رسمَ خارطةِ القارة المجهولة في الدماغ خلال التأمل.
-ما هي أبرز نتائج هذه الأبحاث؟
يمكن أن نلخّص نتائج هذه الأبحاث بالنقاط التالية:
1-أثر التأمل ومفاعيله لا يمكن أن تُلحظ إلا إذا كانت ممارستُه منتظمة.
2-يغيّر التأمّل تغييراً دائماً طريقة عمل الدماغ، وذلك بخفضِ نشاط لوزة الدماغ Amygdale، وهي أحد أبرز مراكز التشنّج Stress والخوف والقلق في الدماغ. (دراسة أنجزها باحثون في مشفى مسّاشوست حيث يعمل جون كابات-زين. ونشرت في ت2، 2012 في مجلة علمية طبّية Frontiers in Human Neurosciences).
3-يزيد المادّة الرمادية Matière Grise ناحية اليسار من الحصين Hippocampe في الدماغ وهو المسؤول عن آليات الذاكرة. (مجلّة Psychiatry Research Neuroimaging، ك2، 2011).
-ماذا عن المفاعيل الفيزيولوجية والطبّية للتأمّل؟
-يؤثر التأمّل في جهاز الهرمونات وفي الشرايين: ينخفضُ الضغطُ المرتفع عند الفتيان المراهقين بنسبةِ خمس نقاط بعد ثلاثة شهور من ممارسة التأمّل. (دراسة أنجزت في معهد Augusta في جورجيا).
-التأمّل يساعد في معالجة مشاكل الأرق. (دراسة في مشفى Northwestern Memorial).
-ينشّطُ القشرة الحزامية الأمامية Cortex cingulaire antérieur، ويخفّض بالتالي الإحساس بالوجع، ويزيدُ من قدرةِ المقاومة في الجسم. (دراسة أجريت في جامعة كيبك UCAM، 2010).
-كيف يمكن للتأمل وهو تمرين فكري وذهني أن يؤثّر في المادّة ولا سيما في جسم الإنسان وبنيته؟
سأضرب لك مثلاً بسيطاً ومعبّراً في آن. فقد أثبتت الأبحاث العلمية أن التأمّل يضخّمُ جهاز العضلات: إذا طلبنا من أفراد في حالة استرخاء أن يتصوّروا أنهم يرفعون ثقلاً بذراعهم، نلاحظُ أن عضلةَ الساعد biceps تتضخّمُ عندهم مقايسةً بمجموعةٍ أخرى لا تفعل ذلك. التأمّل إذاً يقوّي العضلات نفسها، وليس الدماغ وحسب، وذلك من دون تمارين رياضيّة. (مصحّ كليفلاند/أوهايو).
-هل صحيح أن للتأمّل أثرٌ إيجابي في مقاومة الأمراض؟
-التأمّل يقوّي جهاز المناعة. ومن آليات ذلك زيادة إنتاج الأندُرفين endorphins والأوكسيتوسين ocytocine، وهذه بدورها تزيدُ من المناعة. وقد تبيّنَ في عددٍ من البحوث أنه بعد ثمانية أسابيع من التأمّل يُنتِج اللقاح المضادّ للرشح Grippe المزيد من الأجسام المضادّة Anticorps ومن اللمفاويات Lymphocytes T عند حاملي فيروس السيدا. (Claude Berghams).
-ولكن لبعض الأمراض استعدادات وراثية وجينية، فأي أثر للتأمّل في هذه الحال؟!
التأمّل يحسّن وضع الجينات. فقد أثبتَ هربرت بنسون Herbert Benson، من جامعة هارفارد أن ممارسةً منتظمة للتأمل تعيقُ ظهورَ بعض الاستعدادات الجينية والوراثية.
-يبقى أن الأمراض المزمنة كالسرطان وغيره هي معضلة الإنسان المعاصر الصحّية الكبرى، فهل له أن ينتظر من التأمّل أثراً إيجابياً في هذا المجال؟
أظهرت الأبحاث تحسّناً واضحاً ومنتظماً لمستوى الحياة ونوعيّتها عند الأفراد المصابين بأمراض مزمنة مثل مرض تصلّب الأنسجة المتعدّدة Sclérose en plaques، والالتهاب الرئوي، وسرطان الثدي، ومختلف أنواع الآلام الطويلة الأمد. ولوحظ عند المصابين بأمراض السرطان تدنّي أعراض التشنّج Stress، والشعورُ بالتعب وتحسّنٌ ملحوظ في المزاج. Michael
Speca, University of Calgary, Canada
-يتحدّث البعض عن أثرٍ للتأمل في إعكاس مسار الشيخوخة! فما مدى صحّة ذلك؟
بالفعل، فالتأمل يصونُ التيلوميرات Télomères، وهي أطراف الكروموزوم، والتي يُعتبر تناقصُها مؤشراً للشيخوخة. فقد أثبت فريق كليفورد سارون Clifford Saron في كاليفورنيا أن عمليةَ تناقصِ أعدادِ التيلومرات يكبحُها التأمّل. وبرهنت Perla Kaliman من برشلونة أن يوماً واحداً من تأمّل الوعي التامّ يخفّض من ظهورِ الجينات المسؤولة عن الالتهاب. وهكذا فنحن نلمسُ لمسَ اليد سرّ الشباب الدائم الذي حلمت به البشرية منذ البداية.
-هل لأنماط التأمّل وتقنيّاته المختلفة تأثيرات مختلفة بدورها على المتأمّل؟
أجرت العالِمة تانيا سينجر Tania Singer، (وهي وزوجها من كبار الأخصّائيين في علم أعصاب فيزيولوجيا الوعي، في معهد ماكس بلانك في ليبزيغ). بحثاً على الراهب والمفكّر البوذي المعروف ماتيو ريكار Mathieu Ricard وهو يمارس أنواعاً ثلاثة من التأمّل: 1-تأمّل الرحمة الشاملة. 2-الانتباه المركّز. 3-الحضور المنفتح.
ولاحظت أن التأثيرات العصبية Neurologiques لهذه التأمّلات مختلفة. وقد سجّلت وهي المتخصّصة في Empathie أي التعاطف ومعرفة الغير أن مراكزَ الألم التي ينشّطها التعاطف لا تنشَط بتأمّل الرحمة الشاملة في حين ينشطُ ال Insula وهو مركز محرّك. وهذا ما يبيّن أن المتأملَ يواجهُ ألمَ الآخرين بإطلاق جهازه العضلي المقابل، ولكن من دون أن يشعرَ بألم. وهو بالتالي قادرٌ على هذا التمييز.
ويتحدّث ماتيو ريكار عن “الوعي التامّ الطيّب” للفت الانتباه إلى ظواهر مشابهة. ويضرب مثلاً على ذلك: المنحرف المشغّل manipulateur يكون شديد الانتباه للشخص الذي يرغب بتضليله، في حين ينقصُه الشعورُ بالغيرية، فيكونُ عملُه بالتالي سلبياً عموماً. وبوذا كان يميّز عموماً بين نوعين من الانتباه: Yonisoو Ayoniso، أي الخصب والعقيم.
-ماذا الآن عن التأمل العلماني والتطوّر الخُلقي للفرد؟
المبدأُ الأخلاقي الأساسي مبنيٌّ على وجوب أن نعي أننا مرآةٌ للآخرين، وأنه لا يجب أن نفعلَ بهم، ما لا نرغبُ أن يفعلوه بنا. وهذا ما نسمّيه القاعدة الذهبية المبنية على ما يمكن أن ندعوه التناظر الخلقي Symétrie Ethique. وفي ما يتعدّى ذلك، فإن المقاربة الروحية أو الصوفية إذا ما فُهمت تماماً، فمن شأنها أن تمكّنَ من التخطّي التامّ للأنا، أياً يكن الاسم المعطى لما يتعدّى الأنا.
والخُلُقية والتطوّر الشخصي مواضيعُ بالغة من الأهمّية بمكان، بحيث لا يحسنُ أن تُترك متعلّقة كلّياً وحصرياً بالمقاربة الدينية والاعتقادات المتعدّدة المرافقة لها، والتي لا يمكنُ التحقّق منها.
-هل تعني بذلك أن لعلم النفس وللتأمّل دور ما مهمّ في التطوّر الروحي للإنسان؟
هذا النمط من الوعي هو في أساس تيّارات عديدة في علم النفس ما وراء الشخصي Psychologie Traspersonnelle. والطرق الروحية أكانت تؤمنُ بالله، أم هي غير مؤمنة به مثل البوذية والجاينية، تريدُ أن تذهبَ إلى ما هو أبعد من الأنا. فعندما نراقبُ أنفسَنا، ونلاحظُ كيف يقعُ الأنا مراراً وتكراراً في العادات القديمة المتأصّلة، نتعبُ منها ونودُّ تركَها. وهذا ما يحفّز ممارسة الجانب الماوراء الشخصي للتجربة البشرية. وهذا التوق هو أحد أبرز أسباب انتشار اليوغا ومناهجِ التأمل مثل تأمّل الوعي التامّ.
-ها نحن قد قادنا الحوار إلى علم النفس الروحيّ، فما هي أبرز نتائج أبحاثك في هذا المضمار؟
العلاقة بين اليوغا والتأمّل وعلم النفس الروحي كانت دوماً ولا تزال الخيطَ الموجّهَ لعملي. وفي كتبي الأساسية تناولتُ هذه المسألة من مختلف جوانبها. وأركّزُ عليها في كتابي الأخير، حيث أسترسل في الحديث عن التنفّس من أجل إعادة التوازن للجهاز العصبي المستقلّ بذاته، وبالتالي إعادة التوازن إلى الأساس الانفعالي للشخصية البشرية.
-هل يمكن أن تذكر لنا باختصار أهمّ كتبك هذه، ومحاور دراساتها؟
1- كتاب “المعلّم والمعالج” في مقارنة علاقة المعلّم/المريد في الهندوسية بعلاقة المعالج والمريض.
2-كتاب “مداواة النفس”. ويتناول تأثيرات التأمّل العديدة على جهازنا الداخلي، إن على المستوى الجسدي أو النفسي، أو الروحي.
3-كتاب “جوع الفراغ”: وهو يشرحُ كيف يمكن لليوغا والتأمل والتمارين النفسية-الجسدية عموماً أن تساعد في الخروج من الحلقة المفرغة لفقدان الشهية الفكري. كما أنني كتبتُ فصلين في الموضوع عينه في كتاب عن اضطرابات التصرّف الغذائي في سلسلة في طبّ الأطفال لطلاب الطبّ اسمها Pédia.
وفي كتابي الأخير: “ممارسة التأمّل العلماني”، تناولتُ مواضيع عديدة بالغة الأهمّية في مسألة العلاج، بما في ذلك العلاج الذاتي.
-لك بحوث بارزة في مجال العلاجات النفسية الجسديّة، فهل يمكن أن توجز لنا آخر إسهاماتك فيه؟
تناولت بالبحث في كتابي الأخير اكتشافات د. ستيفن بورج Stephen Porges. ويقول إننا إذا أخذنا على محمل الجدّ تهدئة الجهاز العصبي المستقلّ ذاتيّاً بالعلاجات والممارسات النفسية-الجسدية، فقسم كبير من أمراض الطبّ النفسي يمكن أن تُعالج حتى لو كانت أسبابها منفصلة. فالألم النفسي يُفضي إلى عنق زجاجة اضطراب الجهاز العصبي المستقلّ ذاتيّاً. وإذا عملنا مباشرة على هذا الاضطراب فإنّنا نحسّن سمة دلالات هذه الأمراض، ما يتيح لنا فهماً عميقاً لأسبابها.
-تحدّثتَ في مؤتمر اليوغا وعلم النفس عن إيقاع ضربات القلب وعلاقته بالتنفّس، فهل يمكن أن توجز لنا ما عرضته بشأنه؟
تغيّر إيقاع ضربات القلب variabitité cardiaque يكمن في ظاهرة أن ضربات القلب تتسارع عند الشهيق، وتخفّ سرعتها عند الزفير. واحترام تغيّر إيقاع القلب بواسطة طرق تنفّس خاصّة له تأثير وقائي وعلاجي موثّق. وإذا اختفى هذا التغيّر عند المولودين قبل أوانهم، وعند الرضّع، فسيعانون من العديد من الأمراض الصحّية والنفسية.
-ماذا عن تقنيّات التنفّس اليوغيّة، وتأثيراتها العلاجية التي تُكثر الحديث عنها؟
أشير في كتابي الأخير إلى أهمّية النفَس عموماً في التحوّل العميق للشخصية. ولا سيما تقنية مراقبة النفَس الطبيعي. وثمة اختلاف بين نمطيّ الممارسة هذين. فالنفس الإرادي أي براناياما هو أكثر ظهوراً ووضوحاً. ويُستخدَم بنجاحٍ واضح في مجموعات خاصّة مثل المدمنين على المخدّرات. والبراناياما فعّال في التأثير السريع، وقد استخدمتُه في عملية إزالة سموم المخدّرات في المشفى.
-ما هي الفوائد العلاجية لتأمّل مراقبة النفَس؟
شاركتُ مرّة في مؤتمر دوليّ للعاملين في مجال التنفّس Breath workers، وقد اختاروا الهملايا مكاناً لمؤتمرهم في بادرة رمزية للاقرار بفضل اليوغا. وكان نشاطُهم ينصبُّ في اتجاه تمارين حيويّة للنفَس من منظور غربي إذا صحّ التعبير. فشرحتُ لهم أهمّية مراقبة النفَس الطبيعي بطريقة مختلفة، وذلك في سبيل إعادة التوازن إلى مقاربتهم: فمراقبة النفَس مهدّئ خفيف في البداية، ولكنّه محرّر مهمّ على المدى الطويل، وذلك لأننا نتحرّرُ من ضرورةِ العمل المستمرّ. وفي البوذية فالتركيز يتعلّقُ بمناهج التأمّل Shamata والاسترخاء والمراقبة مثل Vipasana، والرؤية الداخلية الواضحة. أما في الهندوسية فاليوغا تتحدّث عن التركيز، في حين تشدّدُ الڤيدانتا على المراقبة.
-كيف يمكن تفعيل التأمّل وجعله أكثر عمقاً؟
لجعل التأمّل أكثر عمقاً، من المفيد دعم الحوافز الغيرية لتحسين الممارسة. والتأمّل يمكن أن يُقارَن هنا بعمليةِ تنظيفِ الأسنان. فهي لا تعودُ بفائدة ذاتية وحسب، بل إن الفائدة هذه تشملُ الآخرين كذلك. إذ يكونون عندها بمنأى عن رائحة فمِنا الكريهة المحتلَمة. وبهذا المعنى يُقال عادة إن أفضلَ الديانات هي تلك التي تجعلُنا في وضعٍ أفضل. وهذا ما ينطبقُ أيضاً على التأمّل. لذا أتمنّى لكلّ قارئ أن يجد نمطَ التأمّل الذي يجعلُه في حالٍ أفضل، وأن يمارسه بانتظام.
-بروفسور جاك فينيو، هل من كلمة أخيرة لك؟
أودّ في ختام هذا اللقاء، وهو الثاني مع مجلّتكم، أن أعبّر عن شكري وامتناني لمجلّة الأمن لما أبدته من اهتمام بمؤتمر اليوغا وعلم النفس. وأتوّجه بالشكر خصوصاً إلى رئيس تحريرها العقيد الركن شربل فرام الذي شرّفنا بحضوره في هذا المؤتمر، وأمّن له تغطية إعلامية لائقة. والاهتمام المميّز هذا دليل على حرص هذه المجلّة الرصينة على اطلاع قرّائها على ما يفيدهم في أمور صحّتهم الجسدية والنفسية. والصحّة تاجٌ على رؤوس الأصحّاء كما يقول المثل. وإذ أشكركم على هذه اللفتة الكريمة تجاهي أتمنّى لمجلّتكم دوام التألّق ولقوى الأمن النجاح المستمرّ في المهمّات الجسام الملقاة على عاتقها.