قراءة نقدية لكتاب محمد مجيب “تاريخ حضارة الهند”/منتدى المعارف-بيروت، بقلم لويس صليبا

قراءة نقدية لكتاب “تاريخ حضارة الهند”/منتدى المعارف-بيروت، بقلم لويس صليبا

تاريخ حضارة الهند تأليف المؤرّخ الهندي محمد مجيب (1902-1985)، عرّبه عن الأردية د. محمد نعمان خان، صدر عن مؤسّسة الفكر العربي ومنتدى المعارف في بيروت في 400ص.

مقالة بقلم لويس صليبا، نشرت في مجلّة الأمن، عدد نيسان 2023.

 

يَعتبر المترجم في مقدّمته أن هذا الكتاب (ص7): “من أهمّ الإصدارات التاريخية في المجال الحضاري الهندي، وقد اتّبع المؤلّف فيه منهجاً نقديّاً وتحليليّاً، وللتعويض عن النقص في المصادر من منتصف ق5م إلى بداية ق7م اعتمد على شهادات الرحّالة”.

أما المؤلّف نفسه فيبدو أكثر واقعيّة وتواضعاً، إذ يقول (ص24): “كتبتُ القصّة الناقصة هذه لحضارة الهند على أمل أن يرى قرّاؤها تاريخهم فيها، وأن يتفكّروا في الأحوال التي جاء ذكرها بوصفها أحوال حياتهم”.

وممّا استوقفنا بداية طرح المؤلّف لإشكالية العلاقة بين حضارات ثلاث هي الأقدم والأعرق: الفرعونية والرافدية والهندية. يقول استناداً إلى بحوث أركيولوجية (ص42): “عندما تمّ العثور على النماذج الأوّلية للخطّ السومري تبيّن أن خطّ اللغة السندية والخطّ السومري يشبهان أيضاً الخطّ المصري الصُوَري الأقدم. ويبدو أن الخطوط الثلاثة هي من أصلٍ واحد، وأن الاختلاف بينها ازداد مع مرور الزمن. أمّا أسباب ذلك، فهي أن المصريين كانوا يكتبون على أوراق البردي، فيما كان السومريّون يكتبون على لوحات طوبيّة بقلم مربّع الحدّ”.

وعن العلاقة الوثيقة بين العراق القديم والهند يقول (ص41): “وجدَتْ في سومريا [سومر] وبابل أختام السند وأوانيها، وذلك في عمقٍ يُثبت أن العلاقة بين السند وسومريا كانت قديمة ووطيدة”.

بيد أن الخطّ السندي لم يتوصّل العلماء حتى اليوم إلى فكّ رموزه، ما يحول دون الجزم بشأن هذه العلاقة (ص42): “وليس بوسعنا الآن سوى القول إن السند وسومريا كانتا مركزَين لحضارة متماثلة، وكانت بينهما علاقات تجارية، فضلاً عن أن بعض التماثيل كشفت أن الرجال فيهما كانوا يرتدون اللباس نفسه. والسومريّون برأي أحد الباحثين كانوا هنوداً على صعيد الشكل. (…) وإله السند يشبه كثيراً جلجامش البطل السومري”.

وينقل عن الأركيولوجي مارشال أن (ص46): “مدّة الحضارة السندية كانت نحو 500سنة. وقد أكّد بعد دراسة أقدم آثار موهنجو دارو وسومريا أن هذه الحضارة بدأت نحو 3250ق م ثم اندثرت نحو 2750ق م”.

وكان قدماء الهنود كما بوذا وغاندي مسالمين لاعنفيين (ص48): “أمّا الأسلحة فلم توجد في موهنجو دارو وهارب إلا بكمّية قليلة جدّاً. ويبدو أن حكّام المدينتَين لم يملكوا جيشاً كبيراً، ولم يكن من أهدافهم احتلال بلدٍ ما أو السيادة [السيطرة] عليه. ويبدو كذلك أن أهل المدينتَين تجنّبوا النزاع والقتال في معظم الأحوال، ولم يهتمّوا بفنّ الحرب.”

ويبدو المؤلّف أكثر تبحّراً وتعمّقاً في التاريخ منه في أديان الهند. فهو في دراسته للبوذية يروي وقائع مغلوطة، أو أقلّه غير دقيقة، ويطلق أحكاماً يطيش سهمه فيها، وفي التالي بعض الأمثلة. فعن سبب وفاة بوذا يروي (ص121) أنّها جاءت إثر أكله اللحم في مأدبة عند مريده الحدّاد تشاندا. ومعروفٌ أن بوذا كان نباتيّاً، أمّا ذاك الطبق الذي تسمّم به فكان من الفُطريّات، كما تروي أوثق المصادر وأقدمها.

ويورد عن والد بوذا وزوجته وابنه (ص120): “والرواية التي تقول إن والده كان ملكاً، وإنّه أراد أن يخلفه ابنه في الحكم غير صحيحة. والحقيقة أن الأب كان غنيّاً وكان يريد أن يكون ابنه أغنى منه. وكذلك [زوجته] ياسودهارا، فقد أرادت أن تعيش عيشة الأثرياء. وذات مرّة وصل بوذا إلى بلدته في سبيل نشر ديانته، فأرسلت ياسودهارا ابنها راهول إليه لكي يسأله عن نصيبه في الإرث ولعلّها أرادت بذلك إهانته لأنّه أصبح متسوّلاً بعد أن كان ثريّاً. ولكن بوذا جعل ابنه متسوّلاً مثله”

حوت هذه الأسطر القليلة كمّاً هائلاً من الأخطاء والمغالطات. فأقدم الروايات وأحدثها تتفّق كلّها على أن بوذا كان ابن ملك أراد أن يخلفه ابنه! فكيف ينفي المؤلّف هذه الرواية الموثّقة بجرّة قلم، ودون أن يذكر أي مصدر أو تعليلٍ لما يزعم!!

أما زوجة بوذا فكانت تكنّ له احتراماً فائقاً وانتهت بأن صارت راهبة متسوّلة في الرهبنة النسائية التي أسّسها، فكيف يقول الكاتب أنّها أرادت أن تعيش ثريّة وهي التي رجت زوجها السابق وألحّت عليه أن يقبلها في سلك الراهبات، ثمّ يضيف أنّها أرادت إهانته بإرسال ابنه إليه مطالباً بنصيبه من الإرث؟! وكان قصدها بالأحرى الإرث الروحي. وهي التي تدرك تماماً أن بوذا أختار أن يكون متسوّلاً وعلّم رهبانه أن يكونوا كذلك محقاً للأنا، وليس بنتيجة إفلاسٍ أو فشلٍ كما يوحي نصّ المؤلّف!!

وبوذا جعل ابنه راهباً مثله، فكان من كبار الرهبان الذين وصلوا إلى التحقّق لا مجرّد متسوّل!! كما يروي المؤلّف.

ومن شطحات المؤلّف الأخرى قوله (ص130): “بوذا لم يهدِ أتباعه إلى ما ينبغي عمله في المرض والمصيبة وإلى التدابير الكفيلة بتحريرهم من الهواجس المادّية، فضلاً عن طرق التسلية في وقت المصائب والهموم العامّة”.

والحقيقة أن بوذا لم يفعل حصراً سوى ذلك. إذ علّم كيف يمكن للمرء أن يواجه المعاناة والآلام النفسية والجسدية والتوتّرات والهموم. وكان من كبار المعالجين النفسانيين عبر التاريخ!!

وعن تلامذة بوذا يروي المؤلّف (ص140): “ومن الناحية التاريخيّة يمكننا القول إن البوذيين نسوا تعاليم بوذا الأصلية وتنحّوا عنها تدريجيّاً”.

والوقائع التاريخيّة تثبت نقيض ذلك. فتلامذة بوذا كانوا أحرص الأتباع على حفظ تعاليم معلّمهم. وإثر وفاته عقدوا المجمع البوذي الأوّل الذي جمع ما قاله طيلة نحو نصف قرن ودوّنها حرصاً عليها من الضياع!!

وإلى هذه الروايات المرسَلة والأحكام الاعتباطية نجد أن الترجمة قد جاءت مراراً غير دقيقة، وسبق أن صوّبنا بعض عباراتها ضمن حاصرتَين [ ]. بيد أن الطامة الكبرى في هذا المجال تكمن في أن الكثير من النصوص التاريخية كمثل مراسيم الأمبراطور أشوكا (ص173-183) والتي درسناها وحلّلناها في كتاب سابق لنا، قد نقلها المؤلّف إلى الأردية عن الترجمة الإنكليزية، كما ذكر في الهوامش، ثم عاد المعرّب فترجمها بدوره من الأردية إلى العربية، فجاءت النصوص في لغة الضاد بعيدة عن المعاني الأصليّة بل ومخالفة أحياناً لها ممّا يطول شرحه، لذا نكتفي بالإحالة إلى تعريبنا الأمين لهذه النصوص (صليبا، لويس، المسيحية بين البوذيّة والإسلام، ب2/ف2: مراسيم أشوكا، ص77-100).

وأيّاً يكن فملاحظاتنا هذه لا تعني أن كلّ روايات المؤلّف جاءت غير صحيحة أو حتى غير دقيقة، فما هو موثّقٌ منها عن الأصول والمصادر جليل الفائدة، مثل (ص132): “شبّه بوذا أولئك الذين يعترفون بالعلم الموروث دون فحصه، مكتفين بتقليد سلَفهم بصفّ المكفوفين الذي لا يرى فيه أوّلهم الطريق ولا أوسطهم ولا آخرهم”. وكذلك (ص132): “وشبّه بوذا الشخص الذي يتمنّى أشياء من دون أن يقوم بأيّ جهدٍ من أجل تحقيقها، بالشخص الذي يريد أن يعبر النهر فيقف عند إحدى ضفّتَيه داعياً الضفّة الأخرى كي تأتي إليه”.

وعن الهندوسية ونظامها العقائدي الواسع الذي يحوي الشيء ونقيضه يقول المؤلّف (ص244): “ولم يُبذل جهدٌ لتوحيد العقائد والتقاليد بعد تنزيهها من العناصر الركيكة. ولأجل ذلك يقال إن الهندوسية ليست مجموعة للعقائد بل هي نظام للحياة، ومن يَقبل هذا النظام يختار من العقائد ما يشاء بكلّ حرّية”

وسبق أن بحثنا مطوّلاً في هذا الموضوع، وبينّا أن الهندوسية هي بالأحرى أدب حياة وقد جمعت عقائد متضاربة!

وعن التأثير المعاكس أي البوذي في الهندوسية يذكر المؤلّف وقائع عديدة مهمّة كمثل قوله (ص253): “وقد وصلت فرقة ماهايانا البوذية إلى أوج رقيّها [تطوّرها] وصياغة الهندوسية في زمنٍ واحد تقريباً، فأخذت العقائد البوذيّة تتسرّب إلى العقائد الهندوسية وتنصهر فيها خلال هذه الفترة إلى أن أصبح بوذا يُعَدّ من مظاهر [تجسّدات] فيشنو”.

وعن تأثر شانكارا بالفكر البوذي يقول (ص332): “نظرية مايا (الوهم وانخداع البصر) التي كانت قد أصبحت من ميّزات الفلسفة الفيدانتية بفضل شانكارا. كانت في الحقيقة مأخوذة من فلسفة الفناء البوذيّة. والمصنَّف الذي تناول هذه النظرية أوّلاً يحتوي على الأمثلة والتشبيهات نفسها التي استخدمها مؤيّدو الفناء.”

والخلاصة فالكتاب، رغم هنّاته، يبقى جليل الفائدة، لا سيما وأن المكتبة العربية تفتقر إلى الكثير في موضوعه.

شاهد أيضاً

Note da una videoconferenza di  Dr Lwiis Saliba su Zoom, maggio 2024, sull’Alzheimer e la sua prevenzione.

Note da una videoconferenza di  Dr Lwiis Saliba su Zoom, maggio 2024, sull’Alzheimer e la …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *