“تاريخ الفلسفة والعلوم اليهودية في أرض الإسلام: دراسة في تراث اليهود في الدولة الإسلامية وخصوصاً الأندلس”، تأليف سليم شعشوع، تحقيق وتعقيب وتذييل د لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في ط2 في 410ص وتجليد فاخر.
الكتاب حلقة من سلسلة اليهوديّة بأقلام يهودية، وفيها يقول المحقّق والمشرف عليها (ص9): “لا يصعب علينا إدراج هذه السلسلة تحت شعار اعرف عدوّك، ولكن الهدف منها يتخطّى هذا الطرح الديماغوجي ليتناغم مع مبدأ دراسة الأديان من الداخل”، ويضيف متحدّثاً عن هذه المقاربة الداخلية للأديان: “وأولى شروطها أن نصغي للآخر كآخر ومختلف. وأن نجتهد لندعه يتكلّم، وذلك كي نفهمه كما يفهم هو نفسه”.
وعن هذا الكتاب بالذات يقول المحقّق (ص16): “من المقدّمة يُفهم أن الدعاية والترويج للتعاون العربي/اليهودي هو أبرز أهدافه”، ويضرب مثلاً من مزاعم المؤلّف شعشوع الذي يحلّل ظاهرة اعتماد اللغة العربية عند مؤلفين أمثال موسى بن ميمون كما يلي (ص102): “إن كتابة هؤلاء اليهود باللغة العربية قد جاءت شاهداً من شواهد الأخوّة بين اليهود والعرب. وإن كلّ هذا ليعطي لنا معنى حيّاً أزلياً لا يفنى، هو أن الأخوّة والتعاون بين اليهود والعرب، خالدان خلود الدهر”. وهنا يعلّق المحقّق (ص17): “في هذا الاستنتاج من الغلوّ والشطح وتسخير بعض الوقائع المحدّدة لغايات أيديولوجية آنية ما يغني عن أي تعليق. فقد كانت العربية لغة العلوم في عصر ابن ميمون وغيره. فهي لغتهم الثقافية، وهذا ما دفعهم إلى الكتابة بها. ولم يكن في ذهنهم أيّاً من أبعاد الأخوّة والتعاون التي يتحدّث عنها شعشوع”.
ورغم هذه الشوائب فالمحقّق يرى أن هذا المصنّف يبقى (ص22): “الكتاب العربي الوحيد المكرّس لمسح تاريخي-نقدي لتراث اليهود المكتوب بالعربية (…) وهو الوحيد الذي نجد فيه تراجم ودراسات نقدية لفلاسفة وشعراء وأطبّاء أمثال يهودا هاليفي وغيره. (…) وهي ميزة كافية لوحدها بجعل هذا المصنف يأخذ مكاناً له في المكتبة العربية”
ويتوقّف المحقّق مطوّلاً عند دور يهود الأندلس الفاعل في حركة ترجمة المصنّفات العربية العلمية والفلسفية إلى اللاتينية، وممّا يقوله محلّلاً أسباب هذه الظاهرة وخلفيّاتها (ص30): “كما نُقلت النصوص اليونانية أولاً إلى لغة وسيطة هي السريانية غالباً، كذلك نُقلت المؤلّفات العربية إلى لغة وسيطة هي العبرية أو القشتالية الإسبانية”، ويتابع محلّلاً: “كانت العربية لغة صعبة على أوروبيي العصور الوسطى، ونادراً جدّاً ما كانوا يتقنونها، أما العلماء اليهود الأندلسيون فكانت اللغة الثقافية عندهم”، ويخلص بعد عرضٍ مفصّل (ص32): “بكلمة موجزة كان للمترجمين اليهود أثرٌ حاسمٌ في نقل المؤلّفات العربية الفلسفية والعلمية ونشرها في أوروبا في العصور الوسطى. فلهم فضلٌ أساسي في تعريفها على فلاسفة وعلماء عرب أمثال ابن سينا وغيره، إذ كانوا نظراء للمترجمين السريان في العصر العبّاسي”
ويقف المحقّق عند نماذج عديدة من الأثر الإسلامي في الفكر اليهودي الفلسفي والعلمي، وممّا يذكر (ص38): “تفاسير سعدي الفيّومي واضحة التأثّر بمناهج المسلمين، وكتابه المعروف “الأمانات والاعتقادات دليل على تأثّره بالفكر الاعتزالي”، ويضيف مستخلصاً: “علماء اليهود اقتفوا أثر علماء المسلمين في استنباط الأحكام من القرآن والأحاديث (…) وعلى هذا المنوال وضع الفاسي مختصره للتلمود”
وعن الأثر الإسلامي في الشعر العبري واستخدام شعراء اليهود الأوزان العربية والقوافي في شعرهم يورد (ص40): “كان يهود الأندلس يعتقدون اعتقاداً راسخاً أن العرب يفوقون سائر الأمم في مضمار الشعر، فرأوا من الواجب أن ينسجوا على منوالهم”
وممّا يتدبّره المحقّق محلّلاً متأمّلاً: الأصول الثلاثة عشر لابن ميمون (1135-1204م) والتي جعل منها أركان الإيمان اليهودي، وممّا يقول (ص314-315): “يبدو الأثر الإسلامي واضحاً جليّاً فيها (…) فهو على مثال الأشعريين يرفض التشبيه والتجسيم، ويعطي العقائد اليهودية بعداً فلسفيّاً لا نجده في التوراة، ويعكس تأثراً مباشراً بقضايا علم الكلام الإسلامي”
والكتاب عموماً موسوعة قيّمة في موضوعه، ولا غنى عنه لكلّ باحثٍ ومهتمّ.