فؤاد شهاب: تجربة ودروس، محاضرة الوزير د. شربل نحاس في ندوة حول كتاب لويس صليبا: “فؤاد شهاب، ما له وما عليه”، الجامعة الأميركية للتكنولوجياAUT ، الفيدار-جبيل، الخميس 20شباط2025
قام الأستاذ لويس صليبا، من خلال عمل غني ودقيق، بتقدير ما لفؤاد شهاب وما عليه.
سوف أحاول اعتماد مقاربة أخرى، مكمّلة.
السؤال الأساسي بداية: هل ننظر إلى فؤاد شهاب كشخص محدّد وإلى الشهابية كتجربة محددة في ظرف محدد، أو نتعامل معهما كأسطورة تستعاد، انتفاعًا واجتزاءً، بشكل دوري، كلما اشتدت المصاعب؟ خياري هو الأول، لأن الخيار الثاني، وهو يبدو الأسهل، يستعفي من التعرف على التجربة في واقعها، وهو يعبّر عن العجز والتسليم حيال الواقع الراهن. بينما يسعى الخيار الأول، بجهد، انطلاقًا من معرفة الشخص عبر تجربته في الظرف المحدد، لاستنتاج الخلاصات النظرية التي تفيدنا في تعاملنا الفاعل مع ظرفنا الراهن. الجهد المعرفي والنقدي ضروري لفهم أسباب الخيارات التي اعتمدها فؤاد شهاب ودوافعها، حظوظها ومخاطرها، نجاحاتها وإخفاقاتها، وأسباب الخيارات التي أحجم عن خوضها. وهو يفرض، كحاجة وظيفية، قراءة الشخص والتعرّف على عدّة المفاهيم التي كان يمتلكها، وقراءة الظرف، والعمل التوثيقي هو مدخل لذلك، للوصول إلى استخلاص الأمثولات النظرية المجردة من الشخص ومن الظرف التاريخي الذي تأثّر به وأثّر فيه.
وهذا يعني الامتناع المطلق عن أي تقديس أو شيطنة، لأن كليهما يعطّل الجهد النقدي الاستخلاصي. محبة التابع للزعيم وكرهه للزعماء المقابلين، وظهور الزعيم بصورة القوة لا يقدّمان ولا يؤخران، وليسا من جهة التابع ومن جهة الزعيم سوى تأديةٍ لأدوار.
قادة الجيش ورئاسة الجمهورية
لا بد في البداية من التوقف عند مسألة انتقال قادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية في لبنان، كون الظاهرة تكررت خمس مرات منذ العام 1958، أي ما يقارب نصف المدة الإجمالية لولاية الرؤساء، إذا استثنينا فترات الفراغ.
الجيش إطار خاص، يعيش ضمنه العسكريون لعقود. لكنه غريب عن المجتمع اللبناني، لأنه يخترق الطوائف ويرسي في داخله نمطًا للعلاقات، وما هو أهم، لأنه يقيم قواعد للتراتبية تخالف أنماط المجتمع وقواعده. الجيش تشكّل مؤسسي مستورد، أتى به الفرنسيون، كدولة منتدبة. وما زلنا نذكر، كما في فيلم هنري بركات والرحابنة، التجنيد الذي فرضه العثمانيون على مواطني السلطنة جميعهم، بعدما كانوا رعايا، وتحت تسمية “سفربرلك” التي تعني التعبئة بالتركية، على أنه أسرٌ وخطف. وبقي اقتناء السلاح الفردي مفخرة متأصّلة. عاشت مجتمعاتنا لقرون على هامش الدول المتعاقبة وجهدت بعناد لصدّ كل محاولات إرساء دولة، وما تزال. ثمة بنى مؤسسية مشابهة بصلابتها للجيش أتت هي أيضًا من الخارج، مثل الرهبانيات المارونية التي أتت بها الدولة البابوية عبر مدرسة روما وخرّيجيها والمبعوثين المرسلين والبطريرك الدويهي ومجمع اللويزة، وفي زمنٍ أقرب حزب الله كتنظيم مسلح أتت به دولة إيران الإسلامية. والمفارقة أن الصفة الدينية لهذين التشكّلين المؤسّسيين، وهي ناتجة عن مصدريهما، حيث أنها في أساس شرعية كل من الدولتين، سمحت لمجتمعنا باستيعابهما ضمن صيغته الطائفية، على خلاف الجيش الذي بقي جسمًا مزروعًا فيه.
لذلك يحرص قادة الجيش على عزله عن صراعات المجتمع، صونًا له وخوفًا على تماسكه، وتجارب انقسام الجيش وفق خطوط نزاعات الطوائف حاضرة في الذاكرة، ولذلك أيضًا لا يقدمون على انقلابات عسكرية.
ويأتي قادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية كرؤساء مدنيين، تحديدًا، لأن الجيش جسم مزروع في المجتمع. وهم يأتون بضغط من الخارج أو بترتيبات خارجية، توافقًا أو فرضًا، عندما تؤول نزاعات زعماء الطوائف، بتمادي رهاناتهم على التقلبات الإقليمية وارتهانهم لها، إلى تعطّل آليات قرارهم وإلى “الفراغ” في المؤسسات وإلى تصاعد حدة الصراعات الداخلية، مهددة الترتيبات الإقليمية نفسها، أو عندما تتبدّل الأوضاع الإقليمية فتنتج قلقًا من ارتدادات غير مضبوطة محليًا. ولا يرون إلا الجيش “أداة”، من دون انقلابات.
في سياق إعلان حلف بغداد عام 1955، وبعد تأميم قناة السويس عام 1956 والحرب التي شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر وصدها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ثم إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، اندلعت حرب أهلية في لبنان، حيث راهن كل زعيم على طرف خارجي لدعمه في حساباته الصغيرة المحلية، وأتى الانقلاب على الهاشميين في العراق، فكان التوافق بين أميركا ومصر على أن يتولى فؤاد شهاب الرئاسة بعدما امتنع عن إقحام الجيش في النزاع القائم، كما كان قد فعل في مفصل عام 1952. وما أن انهارت الوحدة في سوريا حتى حصل انقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي. بعدها بعقود، وفي 2008، أتى اتفاق الدوحة بقائد الجيش في حينه ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعدما احتدمت المواجهات داخليًا. وصولًا إلى يومنا هذا، مع وصول قائد الجيش جوزيف عون إلى الرئاسة إثر الحرب التي اجتاحت لبنان والمنطقة والانقلاب على الأسد في سوريا.
ولكون قائد الجيش يصل إلى الرئاسة بترتيب خارجي كأداة وحيدة متوافرة، لأميركا أو مصر أو سوريا، لضبضبة جموح الساحة الطائفية اللبنانية أو استباقًا لتفلّته، فلا عجب أن زعماء المال والطوائف، عند تعطّل آليات نظامهم، لا يروقهم وصول القادة العسكريين لأنه يخرق أسس شرعيتهم وحصريتها ضمن التقاسم الطائفي المصلحي.
يواجه قائد الجيش متى وصل إلى الرئاسة خيارًا من اثنين:
إما أن يكون طموحه صرف الرصيد الذي أوصله إلى الرئاسة انضمامًا إلى الحلقة السياسية، وفق منطقها وتقلّبات توازناتها ووفق تقلّبات الخارج أيضًا. هذا ما امتنع عنه إميل لحود في ظل الحكَم السوري المربك والمترهّل والمتراجع، وهذا ما سعى إليه ميشال سليمان، ففشل كليًا. وهذا ما نجح فيه ميشال عون رئيسًا للحكومة إنما بفعل هجومي فشل بترتيب خارجي، فعُدّلت المادة 49 من الدستور لصدّه عن الرئاسة.
إما أن يكون طموحه التسلل من الترتيب الخارجي الظرفي الذي أتى به، لأن وضع البلاد ومجتمعها لا يعنيان الكثير لصانعيه، إلى إرساء نظام سياسي، أي شرعية سياسية مختلفة في البلد، مغايرًا للنظام الذي أدى تعطله إلى قدومه، أي إلى فصل الساحة الداخلية عن الساحة الخارجية، وهو ما سعى إليه ميشال عون متأخرا بعد نفيٍ دام خمس عشرة سنة، فتردد لبضع سنوات، قبل أن يغّير وجهته ويلتحق بالخيار الأول فيصل إلى الرئاسة مقيّدًا، وهو ما سعى إليه فؤاد شهاب بجهد وعناد، فلم يقم بزيارة خارجية واحدة، إنما بقي جهده قاصرًا، فانتهينا بحرب أهلية ثانية.
شخصية فؤاد شهاب
معالم شخصية فؤاد شهاب تستوقف لسببين:
وحدانيتها: يتمايز فؤاد شهاب عن النمط الغالب لقادة الجيش بحدّة مضاعفة، فهو في الوقت نفسه أمير، وفقير، وضابط فرنسي التنشئة، ما جعله منفصلًا عن قطبي السلطة، التجار والوجهاء معًا، إنما بتمايز استعلائي واستغنائي وصدامي. وهذه سمة نادرة.
مرارتها: وهي تعود لانسلاخ رموزها عنها، من شارل حلو الذي ارتضى اعتماده ليخلفه فدفن التجربة بمنهجية، ولا سيما بعد هزيمة الناصرية عام 1967، إلى كمال جنبلاط وبيار الجميل اللذين دعمهما شهاب للحصول على سند لا يرتكز على الوجهاء التقليديين، في ظل النزوح من الريف إلى المدينة، بل يقوم على صيغتين حزبيتين، الكتائب والتقدمي الاشتراكي، بدتا حديثتين، فأنشأ لهما دائرتين انتخابيتين من ثمانية نواب عظّمتا موقعيهما، لكنهما جنحا تدريجًا، بعد 1967، ليكونا وقود الحرب الأهلية. إلى آخرين من “الشهابيين”.
معالم التجربة
بين الطبقات الجيولوجية الذي يضطر الباحث للتنقيب فيها لاكتشاف آثار بنى مؤسسية لما يشبه الدولة، كما يحصل بالتنقيب عن الآثار في جبيل، لا يعثر على الكثير، ويجد طبقتين رئيستين، تعود الأولى للمستعمر المنتدَب الفرنسي والثانية لمرحلة فؤاد شهاب، سبقتهما فترة التحديث العثماني، وبقي منها قانون الجمعيات الصادر عام 1909، والذي لو اتكلنا على مجلس نوابنا لما صدر حتى اليوم أو صدر مسخًا، وتلاهما النصف الأول من عهد تلميذ فؤاد شهاب الياس سركيس ورفيقه سليم الحص. وما حل بتلك البنى المؤسسية أنها شوّهت منهجيًّا وحرّفت بانتظام وساد امتناع عن تطبيقها، ما يؤكّد رفضها الجامح.
غلب على هذه التجربة همّ مأسسة الإدارة، وكان طابعها اختراقيًا إراديًا نخبويًا. صدر خلال ولاية فؤاد شهاب، من خلال مراسيم اشتراعية، 162 قانونًا، خلال ستة أشهر، بين 15 كانون الأول 1958 و13 حزيران 1959، ولو أرسلت اقتراحاتها وفق النمط العادي لما صدر واحد منها حتى اليوم، بين اللجان وطاولات الحوار، وصدرت قوانين أخرى بصيغة المعجّل، بعدما تقاعس مجلس النوّاب عن إقرارها، وفق المادة 58 من الدستور، منها إنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتاريخ 26 أيلول 1963، إضافة لإطلاق “المشروع الأخضر” وإصدار “قانون النقد والتسليف” وإنشاء البنك المركزي بالمرسوم رقم 13513 بتاريخ أول آب 1963.
لماذا حصل ذلك؟ ولا ننسى أن همّنا استنتاج خلاصات نظرية تصلح لوضعنا اليوم. هل لأن لبنان حالة استثنائية وفريدة أو لأن فؤاد شهاب شخص استثنائي؟ إن قلنا ذلك نكون قد عطّلنا البحث. ما يبدو خصوصيًا في لبنان هو القاعدة العامة. فما رسي في لبنان، أو بالأحرى ما رسي لبنان على أساسه، ليس سوى نشوء بيروت كمركز أساسي للدخول الغربي خلال القرن التاسع عشر إثر الثورة الصناعية، ماليًا وتجاريًا وثقافيًا وحتى عسكريًا، وليس جبل لبنان الذي توسع فصار كبيرًا، على خلاف ما حلا للعديدين تكراره، افتخارًا لدى الموارنة أولًا والدروز من ورائهم وبتنافسٍ معهم، واتهامًا تحت شعار “الكيان المسخ” و”المارونية السياسية” لدى غالبية الآخرين، وإن خفتت النغمة تدريجًا. نشأة بيروت تشبه مدنًا أخرى نشأت بالتزامن في العلم، من شنغهاي إلى الدار البيضاء. وهي لم تنشأ من الأرياف، كان أبناء الأرياف يعبرون فيها للهجرة إلى أميركا ولا يستقرّون فيها، وإذا استثنينا الذين نقلت نفوسهم إليها لحسابات انتخابية في هذا الوقت أو ذاك، نكاد لا نجد في سجلات نفوسها، كما وضعت عام 1932، إلا قلة قلية من الموارنة والدروز والشيعة، أي من أبناء الريف المحيط بها. الذين أتوا إليها قدموا من مدن أخرى، كتجار، فأرسوا نظامًا وتراتبية اجتماعية قائمة على الوساطة المالية والتجارية. نيو ليبرالية قبل مرحلة النيو ليبرالية.
استراح تجار بيروت ومصرفيوها للانفصال عن المجال التجاري والمالي والاقتصادي الذي كان لبيروت، أي مجمل سوريا وما حولها، من خلال تصادم للمصالح تخللته ابتزازات مشهودة، بين 1946 و1950، مع أعيان المدن الداخلية. لذلك لم يحصل تبادل تجاري يذكر بين لبنان وسوريا، سواء في أيام الغرام أو في أيام الانتقام، ما خلا بعض التهريب والتسوق الإفرادي عبر الحدود. لكن تأثيرًا متبادلًا منكرًا وخبيثًا حصل بينهما، قوامه أن قسمًا أساسيًا من البورجوازية التجارية والمصرفية في لبنان هم من أصول سورية، هربوا من القيود التي فرضت عليهم إلى جنة “الحرية”، وتلتهم حشود الفقراء الهاربين من الفقر ثم من الحرب، فتسرين لبنان. وهناك تأثير معاكس، لسادة السياسة والمال اللبنانيين على النظام السوري في داخله وعلى أجهزة مخابراته، عبر انخراطهم في الصفقات وإشراكهم فيها، فراحوا يستنسخون ما خبروا في لبنان عندهم، في الاتصالات والسوليديرات والمناطق الحرة، وكان لهذا التأثير دور أساسي في خربطة النظام الذي كان قد بناه حافظ الأسد في سوريا، فتلبننت سوريا، وشهدت حربها، وكنا هنا أيضًا سباقين. هذه كانت السلطة الفعلية في البلد أيام فؤاد شهاب، وليس وكلاؤها من وجهاء الأرياف، من يلبس الطربوش منهم ومن لا يلبسه. البورجوازية المدينية البيروتية كانت مطمئنة إلى أريافها لأن المؤسسات الدينية كانت تؤطّرها والهجرة تنفّس ضغطها، على عكس بورجوازيات المدن السورية القلقة.
الفرق بين لبنان وسوريا هو الأسبقية، أسبقية في تأطير الريف وفي النزوح منه وفي الحرب الأهلية وفي إرساء نظام لإقامة الهدنة على إثرها، أي في التأقلم مع تغيرات العالم، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وثمة خيارات أخرى اتخذتها السلطة الفعلية في لبنان، منها وقف عمليات التعداد للسكان التي تعود للعثمانيين غداة احتلالهم البلاد لا بل إلى الرومان. فلم يحصل أي تعداد للسكان منذ 1932، بعد تعداد أول عام 1921. كانت المطالبة بالتعداد تتكرر على لسان التنظيمات السنية، ولا سيما حزب النجادة، بهدف تعزيز حصة السنة وصولًا إلى طرح التناوب بين السنة والموارنة في رئاسة الجمهورية. وكان الزعماء الموارنة يردون، وفق المنطق الطائفي نفسه وكما فعلوا عند كل محطات التعداد السابقة، أن التعداد لا يصحّ من دون شموله المغتربين. وفؤاد شهاب منهم. فيتعطّل البحث.
وفي السياق نفسه ألغي مبدأ أساسي ثانٍ لقيام الدول، وهو مبدأ الإقامة. ففي قانون “قيد وثائق الاحوال الشخصية” الصادر سنة 1951، وخلافًا لما كان معتمدًا طوال فترة الانتداب، أصبح تحويل قيد الإقامة اختياريًّا. واللافت أن الامتناع عن التعداد وإلغاء مبدأ الإقامة استمرا مع فؤاد شهاب لا بل تعمّقا، إذ بات تحويل تسجيل الإقامة إلى قرار سياسي قد يطالب به المواطن إنما يعود للسلطة قبوله أو رده، حيث ورد في المادة 40 المعدلة في آذار 1964، أي في أواخر ولاية فؤاد شهاب، أنه “يحق للحكومة رد الطلب إذا تبين ان هنالك ضرورات موجبة لذلك”.
لذا بات المواطنون يقترعون حيث كان والدهم أو جدهم أو والد جدهم يقيم قبل الهجرة والنزوح من الريف، أي ضمن منطق الأنساب الريفية، ما يسهل ضبطهم عبر المفاتيح الانتخابية العائلية. ولم يعد للبلديات من معنى واقعي ولا للامركزية من معنى، إذ أصبحت البلديات، في المدن وفي ضواحيها وفي الأرياف، ينتخبها غير مقيمين فيها وتخدم غير ناخبين، في حين أن جل معنى اللا-مركزية تضييق المسافة بين المستفيدين من الخدمات والمحاسبين على حسن أدائها.
كان نهج السلطة، منذ الاستقلال قائمًا على امتناع منهجي عن التعامل مع واقع السكان والمجال مقابل تثبيت شروط الاطمئنان إلى آليات التأطير الطائفية والدينية والعائلية للريف. هذا ما كان قائمًا عند وصول فؤاد شهاب، وهو لم يزح عنه. لكنه استكمله، لتعزيز ثباته، بالعمل على خطين: الإنماء أولًا، والمقصود أساسًا إنماء الريف، لتقليص التفاوت الاجتماعي بين الريف والمدينة ولجم جنوح السياسيين إلى تجنيد أنصارهم وفق رهانات على التطورات الخارجية لتعزيز مصالحهم المحلية الضيقة، ومقابله ثانيًا تقوية الإدارة وتنظيمها، لفصلها عن نزوات السياسيين، ومن ضمنها “المكتب الثاني”، أي مخابرات الجيش. من هنا الموقف المركّب من حزبي الكتائب والتقدمي الاشتراكي والعلاقة المرتبكة معهما، الأول موجهًا للريفيين الموارنة الذين كان قد نزح العديد منهم إلى المدينة، فأنشئت له دائرة بيروت الأولى بنوابها الثمانية، والثاني موجّهًا للريفيين الدروز، المحجمين عن الهجرة إلى المدينة والمتحصنين في قراهم في جبل لبنان، فأنشئت له دائرة الشوف بنوابها الثمانية.
مسألة الإدارة
كان تعزيز الإدارة عصب ولاية فؤاد شهاب، في مواجهة السياسيين. وقد خصص العديد من المراسيم التشريعية لتعزيز الإدارة العامة وتحصينها ضد تأثيراتهم، وصدرت دفعة واحدة في 12 حزيران 1959، إذ وقّع فؤاد شهاب في ذلك النهار 63 مرسومًا اشتراعيًا، أبرزها: تنظيم الإدارة العامّة (المرسوم رقم 111)، ونظام الموظفين (المرسوم رقم 112)، وإنشاء مجلس الخدمة المدنية (المرسوم رقم 114) والتفتيش المركزي (المرسوم رقم 115)، والتنظيم الإداري (المرسوم رقم 116)، وتنظيم ديوان المحاسبة (المرسوم رقم 118) ومجلس شورى الدولة (المرسوم رقم 119). وذلك إضافة للقوانين التي صدرت بمراسيم وفق المادة 58 من الدستور، ولا سيما الضمان الاجتماعي وقانون النقد والتسليف، كما أسلفنا.
مسألة الإنماء
تجسّد الهم الإنمائي أساسًا بتعميم الكهرباء والطرقات والمدارس على كافة المناطق بعدما كانت متركزة في المدن وعلى طول الخطوط الرئيسية وفي مناطق الاصطياف. فأنشئت مثلًا مؤسسة كهرباء لبنان بموجب المرسوم 16878 الصادر بتاريخ 10 تموز 1964، قبل شهرين من نهاية ولاية شهاب، لتتولى إنتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية على كافة الأراضي اللبنانية. وكانت قد أنشئت مصلحة الإنعاش الاجتماعي ضمن المراسيم الاشتراعية الصادرة في حزيران 1959 (المرسوم رقم 155)، وأنشئ مكتب الفاكهة في آذار 1959. وصدر في نهاية عام 1959 المرسوم التنظيمي رقم 2883 الذي أنشأ الجامعة اللبنانية فعليًا بعدما كانت مقتصرة على “معهد الإدارة والمال” وعلى “دار المعلمين العليا” لتخريج الموظفين والأساتذة.
وتواكب هذا العمل المؤسسي بالتعاون الوثيق مع مؤسسة إرفد (IRFED) التي يرأسها الأب لوبري (Lebret) الدومينيكاني، بدءًا من عام 1959، وصولًا إلى التعاقد معها، عبر وزارة التصميم، بين عامي 1961 و1964، للقيام بتشخيص إحصائي ميداني للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد على مستوى تفصيلي قطاعيًا ومناطقيًا، ولرسم الخطط التوجيهية “للإنماء”. وما زال اللبنانيون يذكرون إحدى خلاصاتها القائلة بأن 4% من السكان يحوزون على 32% من الدخل الإجمالي عام 1960، وأن 18% يحوزون على 60% منه. لم يقتصر الهمّ الإنمائي على العمل المؤسسي، بل شمل دعمًا لمبادرات من خارج الإدارات. فقام تعاون وثيق مع مطران بيروت غريغوار حداد و”حركته الاجتماعية” ومع الإمام وموسى الصدر الذي منح عام 1962، كمواطن إيراني، حق شراء عقار في صور لإقامة معهد للتدريب المهني، ثم منح الجنسية اللبنانية “استعادةً.
انطلقت مقولة الإنماء لدى فؤاد شهاب من اعتبارين متلاقيين: اعتبار أمني قوامه تحسين أوضاع المناطق الطرفية لتلافي تجييش أبنائها من قبل السياسيين والدول الإقليمية في النزاعات الداخلية، واعتبار إيديولوجي مستوحًى من فكره المسيحي، الذي كان يركّز أيامها على “الكرامة والعدالة الإنسانيتين”، ومن الموجة العالمية العارمة أيامه، المدعومة من الولايات المتحدة لمواجهة الأطروحات اليسارية حول “التحرر الوطني” المدعومة من الاتحاد السوفياتي، في معرض تفكك النظم الكولونيالية.
لكن منطق تنمية الأرياف الشهابي لم يأخذ بالحسبان المفاعيل الواقعية لتوسعة الخدمات العامة إلى الأرياف، ولا سيما التعليم، خلافًا لمواقف البورجوازية التي كانت تعارض إنشاء الجامعة اللبنانية لتخوفها من طموحات خريجيها، وتعارض بحدّة أشدّ الاعتراف بكلية الحقوق في جامعة بيروت العربية التابعة لجامعة الاسكندرية. فـ”الإنماء” ليس مسألة تقنية ولا هو مسألة حب للفقراء أو للإنسانية مقابل غباء أو عماء، بل هو ينطوي على تغيير في الاقتصاد السياسي والبنى الطبقية وهيكلية السلطة، ومفاعيله جدليّة. لم يتوقّع شهاب أن توسعة التعليم ومدّ الطرقات يؤديان تلقائيًّا إلى تسريع الهجرة من الريف، وإن هدفا أصلًا إلى “تنميته”. وهذا ما حصل فعلًا في لبنان كما في كل دول العالم. فاندفع أبناء الريف النازحون والمتعلمون إلى إزاحة الوجهاء الريفيين التقليديين والأهمّ إلى مقارعة البورجوازية المدينية التي رأت فيهم منافسين على مواقعها فأوصدت أمامهم الأبواب، فانخرطوا في السياسة ثم تزعّموا الميليشيات وأتوا بالحرب وبالخارج كله، فلسطينيين وسوريين وإسرائيليين وأميركيين… وصولًا إلى إرساء نظام الهدنة بدءًا من أواسط الثمانينيات، تحت شعار “لا شرعية لما يناقض العيش المشترك” وكان نظامهم أقسى وأسوأ من نظام أسلافهم. وهو بالتحديد النظام الذي يتداعى أمامنا اليوم.
كيف تعامل شهاب مع تجربته؟
جدلية التغيير والمحافظة حكمت تجربة فؤاد شهاب وتطوّرها، خلال ولايته وخلال ولاية شارل حلو التي اعتبارها استمرارًا لمشروعه. لذا يجدر تتبع تواكب وتقاطع أربعة مسارات لدى فؤاد شهاب، لتبيان مساحة الخيارات التي بدت متاحة له، في الوقائع وفي نظره إليها:
مسار تغيّر المرجعيات: انطلق شهاب، بحكم موقعه في المجتمع ومنفصلًا عنه، بوصفه أميرًا وفقيرًا وضابطًا فرنسي التنشئة، وبفضل ذلك الانفصال، مجهّرًا بتشكيل من المرجعيات الفكرية ناتجٍ عن نشأته وزمانه، ومستقاة من الساحة الأوروبية والفرنسية تحديدًا، تمثلها إلى حدٍّ بعيد شخصية الجنرال (أيضًا) ديغول، الذي عرفه شهاب خلال مكوثه في لبنان، كمسؤول عن المخابرات العسكرية لسنتين ونيّف، بين عامي 1929 و1932. هذه المرجعيات تعود إلى مدرسة ازدهرت منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، ودُعيت “الكاثوليكية الاجتماعية”، عبّرت عنها رسالة البابا ليون الثالث عشر، عام 1891، “حول أمور جديدة” (Rerum Novarum)، ثم رسالة البابا بيوس الحادي عشر، عام 1931، “بعد أربعين سنة (Quadragesimo anno). قوامها مواجهة المقولات الشيوعية من جهة والليبرالية من جهة أخرى، لماديّتهما، تحت ثنائية عنواني “المحبة والعدالة”. وانبثقت عنها في الربع الأول من القرن العشرين منظمات “الشبيبة العاملة المسيحية” و”الشبيبة الطالبة المسيحية”، إلى جانب نقابات وأحزاب، منها “الديمقراطية المسيحية”. التماثل مع ديغول كان ينطوي على ازدراء مشترك بالسياسيين الاحترافيين ومناكفاتهم وعجزهم أمام التحديات الكبيرة، والريبة من الأميركيين مع الرفض القاسي للأطروحات الشيوعية والاشتراكية. فديغول أتى هو أيضًا إلى السلطة إثر تعطّل آليات الدولة الفرنسية في جمهوريتها الرابعة. والتزامن لافت أيضًا بين عودة ديغول الفعلية إلى السلطة في 30 أيار 1958 ووصول شهاب إلى الرئاسة في 23 أيلول 1958. لكن هذه المرجعيات كانت قد بدأت تترهّل، تحت ضغط تفكك الإمبراطوريات الكولونيالية، بدءًا من عقد الستينيات، على الرغم من عقد مجمع فاتيكان الثاني، بين لاهوت التحرر اليساري و”الأوبوس ديي” (Opus Dei) اليميني، وتراجع تأثير الكنيسة المتسارع في أوروبا عمومًا، من دون إغفال ابتعاد الكنيسة المارونية الرسمية وباقي الكنائس الشرقية الواضح من البداية عن كل الاعتبارات التي شكّلت تلك المرجعيات. خلال تولي فؤاد شهاب السلطة وخلال ولاية خلفه، كانت العدّة المرجعية التي دخل بها تتداعى في أسسها بينما كان هو يواجه المصاعب محليًا.
مسار التغيّر المجتمعي المحلي: ولايتا شهاب وحلو تفصلان بين حرب أهلية صغيرة عام 1958 دامت شهرين أو ثلاثة، والتحضيرات الحثيثة للحرب الأهلية الكبرى في السبعينيات التي دامت خمس عشرة سنة، وما زالت نتائجها متحكمة بالبلد إلى اليوم كهدنة منظمة. رأى فؤاد شهاب أن “أحداث” 1958، كما درجت تسميتها، ما كانت لتحصل وتتوسع لولا “تخلّف” الأرياف، من دون إغفال جموح السياسيين طبعًا. أما الحرب الأهلية المديدة في السبعينيات والثمانينيات، فكانت صنيعة أبناء النازحين من الريف، بحصيلة “إنمائه” وتعلّمهم وشدة طموحاتهم، مع جموح السياسيين أيضًا وطبعًا.
مسار التغيّر الإقليمي: إن كانت شرارة “أحداث” 1958 قد أتت من التشنّج الإقليمي بين حلف بغداد والوحدة المصرية السورية وصعود الناصرية، فإن التحضيرات للحرب الأهلية انطلقت من هزيمة الناصرية والأنظمة العربية عمومًا، عام 1967. أدى إغلاق قناة السويس إلى جعل مرفأ بيروت المدخل الوحيد إلى كل المشرق ما جعل السفن تنتظر أشهرًا لترسو فيه، فاستعاد التجار سطوتهم وزهوهم، وصفّى المصرفيون الدخلاء من بين صفوفهم (مسألة بنك إنترا وإزاحة يوسف بيدس، الفلسطيني)، وبدأت ترتفع عائدات النفط وتدفقات الرساميل إلى لبنان، فتضاعفت الودائع في المصارف ثلاثة أضعاف بين 1970 و1974، مموُّلة الاستثمارات العقارية والاقتصادية، والسياسية أيضًا. في المقابل، تصاعدت التيارات القومية واليسارية ورافعتها التنظيمات الفلسطينية وباتت منظمة التحرير قطبًا سياسيًا إقليميًا، واستقرت في لبنان مستفيدة من إحجام السلطة فيه عن تأطيرها أسوة بما فعلت “دول الطوق” بأشكال مختلفة، منها “أيلول الأسود” في الأردن، فبات البلد ساحة للتنظيمات الفلسطينية، والأخطر، من خلالها، للصراعات المتصاعدة بين الأنظمة المربكة في شرعياتها. وتداخل التغيّر الإقليمي مع التغيرات الاجتماعية المحلية، فكان اتفاق القاهرة ترجمة لذلك التداخل. تبدد في الحصيلة المرتكز الإقليمي، بين الناصرية وأميركا، الذي كان قد أتى بفؤاد شهاب عام 1958 وسمح له بفصل الداخل عن الخارج المحيط، وبالتركيز على البعد المحلي.
مسار تغيّر الشخصية في الممارسة: انعكست مسارات التغيّر الثلاث التي أسلفنا تغيّرًا حادًا في مزاج فؤاد شهاب، لا بل حتى في شخصيته. ولنا على ذلك دليل واضح في مقارنة بيان الاستقالة في تموز 1960 مع بيان العزوف عن الترشح في آب 1970، ومن الواضح أن كلا النصين كتب بالفرنسية وترجم إلى العربية، ولم تكن الترجمة وفيّة للأصل.
ينطلق فؤاد شهاب في بيان عام 1960 من اعتباره “أن أصعب ما واجهه، منذ اختياره السلك العسكري، كان تخطي المسافة التي كانت تفصل بين قيادة الجيش ومنصة المجلس النيابي”. لذا “حدّد، منذ اللحظة الأولى، إطار ومدة المهمة”، مثل أية مهمة عسكرية، و”كرّس نفسه لها… معتمدًا على الطيبة الإلهية (bonté divine)”. ويعتبر أن ” العناية الإلهية (Providence) شاءت ألا تُخيّب آمال شعبنا، فتبددت اليوم غيوم الأزمة ما سمح بدخول عدد كافٍ من ممثلي جميع الأقسام اللبنانية إلى المجلس”، وأقسام هي الترجمة الصحيحة لكلمة:”fractions”، مقابل الترجمة الرسمية “فئات”، فالكلمة الفرنسية مشتقة من فعل معناه التقطيع والتقسيم. ويختم بيانه بـ”دعوة اللبنانيين جميعًا بإلحاح للتمسك، في كل الظروف، بالميثاق الوطني، وهو الشرعة الضمنية لدولتهم، ولاحترامه ولتطبيقه بدقّة”، ويضيف، عطفًا وفي مرتبة أدنى، أن “عليهم كذلك واجب احترام الدستور ونظام الحكم الذي ينبع منه”. ويختم بـ “الطلب من الله أن يحمي هذا الوطن الحبيب”. وكان قد ضمّن خطاب القسم، عام 1958، تعبيرًا مماثلًا، إذ قال: “في الساعة التي أقسم فيها يمين المحافظة على الدستور اللبناني، أعاهدكم وأطالبكم بعهدكم على الوفاء للدستور غير المكتوب: ميثاقنا الوطني. فهو الذي جمعنا ويجمعنا على الايمان بلبنان…”. بالنسبة إليه، كعسكري، كان العنوان تنفيذ مهمة، مهمة الترميم، والترميم عكس التغيير. والمرجعيات الحاضرة في ذهنه محافظة وأخلاقية ودينية. والميثاق الوطني، أي الطائفي، هو أساس نجاح المهمة وجمع ما أسماه أجزاء المجتمع، ولم تكن مكونات قد دخلت المعجم، وبقاء الدولة.
أما بيان العزوف عن الترشح الذي أصدره في عام 1970، فيغيب عنه البعد الأخلاقي والديني تمامًا، وهو لا يتكلم عن ترميم بل عن نظام لا يتطابق مع حاجات بناء دولة، ولا مع قناعاته، ويقصد أولًا الأعراف التقليدية، أي “الميثاق”، قبل الدستور. وهو لا ينطلق فيه من كونه عسكريا ولا من إحساسه بواجب تأدية مهمة، بل “من تفحّص معمّق لمعطيات الظرف وانعكاساته في كل الميادين. وذلك لتقدير الإمكانات المتوافرة له لخدمة بلده وفقًا لمفهومه الشخصي للواجب ولمقتضيات السلطة”. ويقول ” إن المؤسسات السياسية اللبنانية والأعراف التقليدية (mœurs traditionnelles) للعمل السياسي لا تشكل في اعتقاده أداة صالحة لمواجهة ضرورات تقويم أوضاع لبنان…: مؤسساتنا التي تجاوزتها الانظمة الحديثة… وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها احداث عابرة وموقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات… الغاية هي الوصول الى تركيز ديموقراطية برلمانية اصيلة صحيحة ومستقرة، والى الغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في إطار نظام اقتصادي حر سليم. (لكن) البلاد ليست مهيأة بعد ولا معدّة لتقبل هذه الحلول الجذرية التي لا يمكنني تصور اعتمادها الا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية”. ما كان القصد ترميمه أصبح هو القيد والطوق.
بين المحطّتين، كان قد حصل الانتقال من منطق الترميم المنجز إلى منطق التغيير المستعصي، ومن أداء واجب إلى تحديد أخصام.
كانت تجربة فؤاد شهاب بمجملها انتقالًا قاسيًا ومتردّدًا من المحافظة على النظام القائم كمسلّمة والسعي لترميمه إلى نقض لمنطق النظام، إنما مع اليأس من تعديله. ماذا يستفاد منها اليوم؟
وصولًا أو عودةً إلى يومنا
تطرح تجربة فؤاد شهاب عددًا من المفاهيم الأساسية وتبيّن أهمية وضوحها: النظام والتغيير، وازدواجية الداخل والخارج، وبالتالي الدولة.
النظام هو السلطة المتقبّلة ضمن المجتمع بمختلف حلقاته ومراتبه، هو انتظام المجتمع. لذا يبدو مسلّمًا به لا بديل متخيّل عنه، بينما هو نتاج تاريخي، أي ظرفي. لا يتغيّر النظام إلا في الأزمات، عندما يصيبه التعطّل، لأي سبب من الأسباب. الميل الغالب في المجتمع إلى ترميمه، أي إلى التكيّف مع التغيّرات التي تطرأ عليه للاحتفاظ بأسسه، وصولًا إلى تبدد مادته البشرية والمؤسسية. أما التغيير فهو فعل إرادي لإدارة التغيّر وتوجيهه إلى مآل يختلف عن مآل التكيّف.
نحن نعيش اليوم تعطّلًا للنظام الذي رسا مع الحرب الأهلية، واستمر قرابة أربعين أو حتى خمسين سنة، وقوامه هدنة اللا-دولة، وهو يختلف عن ذلك الذي كان قائمًا قبلها. وقد عاش فؤاد شهاب بدايات المفصل الذي أدى إلى النظام الذي نشهد اليوم احتضاره. وقد عاش فؤاد شهاب ذلك الانتقال ويئس من صدّه أو من إدارته. هذا التعطّل يترجم تكيّفًا، بالهجرة والتسوّل، تكيّفًا متقبّلًا بسبب الخوف والقلق العارمين، وسط كلام وأحلامٍ عن الترميم.
عندما يقول إن “البلاد ليست مهيأة بعد ولا معدّة لتقبل تحولات لا يمكنني تصور اعتمادها الا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية”، يشير فؤاد شهاب إلى لبّ التحدي. قوله إن المجتمع (يقول البلاد)، ليس مهيأً بعد ولا معدًّا لتقبل تحولات، يشير إلى أمر طبيعي لأن كل مجتمع يتمسّك بمتخيّلاته، لا سيما في أيام الشدة. أما قوله إنه لا يمكنه تصور اعتمادها الا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية، فهو يشير إلى رفضه استخدام القمع والعنف، سواء لاعتبارات مبدئية أو لعدم ثقته بقدرة الجيش على فرض هكذا خيارات صدامية. لكنه يستخدم كلمة “شرعية”، وهنا الإشكال. لأن الشرعية ليست مسألة نصوص شكلية، من دستور وقوانين ومواثيق. نعرف بالتجربة أنها مجرد واجهة للخارج، يتم خرقها بانتظام ومن دون أي اكتراث، وقد أشار شهاب إلى ذلك عندما عطف، على “المؤسسات السياسية”، “الاصول التقليدية المتبعة”. فالشرعية هي المنظار الذي يرى المجتمع واقعه من خلاله. تعديل هذا المنظار الآسر والمشوِّه والمختذِل هو المدخل لفعل التغيير.
البداية إذًا من المعاينة، كي يكون فاعل التغيير متحرّرًا من أسر ما يريد تغييره. والمعاينة تبدأ من التعداد، تعداد المقيمين جميعًا أولًا، لمعرفة أماكن إقامتهم، وعملهم، وتعلمهم، وصحتهم، وتعداد المؤسسات ثانيًا، وتعداد المهاجرين ثالثًا. يتبع ذلك وضع سجلات جديدة للنفوس وبطاقات هوية وإقامة، كقاعدة للتكليف وللاقتراع. والتعداد لم يحصل حتى اليوم لأنه يعتبر حكمًا تعداداً للطوائف. لذا لا يكون للمحققين أن يسألوا عن الطائفة والدين. فالدستور، لمن يهتم به، ينص على أن “حرية الاعتقاد مطلقة”. ويعود للبنانيين، ولهم فقط، من دون الأجانب ومنهم السوريون، متى بلغوا سن الرشد، أن يعربوا عن رغبتهم بالانتماء إلى طائفة من الطوائف المعترف بها رسميًا، فتطبق عليهم قوانين الأحوال الشخصية العائدة للطائفة، شرط ألا تعارض قواعد الانتظام العام. أما الذين يختارون أن تكون علاقتهم بالدولة مباشرة، من دون المرور بالواسطة الطائفية، فيخضعون للوانين العامة.
التعداد يبدأ تعاملًا مع الوقائع ويؤول إلى إرساء شرعية واثقة للدولة.
هذا ما لم يُقدم عليه فؤاد شهاب. لكن الحاجة اليوم أشد، فلبنان فقد موقعه في الإقليم، واجتاحت الهجرة، الخارجة والوافدة مجتمعه. لكن المجتمع قد تكثّف، فبات السكان، بغالبية كاسحة، متعلمين وسكان المدن والضواحي. والأهم من ذلك أن لبنان شهد التحولات الاجتماعية وشهد الحروب الأهلية وشهد الترتيبات التي نجمت عنها قبل سائر دول المنطقة. والأهم أكثر وأكثر أنه قدّم من التضحيات ما لا يجوز أن تذهب سدًى.
لهذه الأسباب جميعًا، يعود للبنان أن يظهر، لأبنائه أولًا، وإنما للمنطقة بأسرها المنكوبة بمخاضات تغيّرها، أن ما نعيشه ليس نهاية العالم، بل هو مفصل يستحق أن يدار بمعرفة وبجرأة، لإقفال باب المآسي وفتح طريق الثقة والأمل.