محاضرة بالفرنسية للمؤلّف د. لويس صليبا في باريس: الصمت في الأديان الكبرى
“الصمت في الهندوسية واليوغا: تعاليمه واختباراته في الفيدا وسيَر الحكماء المعاصرين” للدكتور لويس صليبا صدر في ط3، عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في 324ص وتجليد فنّي.
الصمت قاسم مشترك ونقطة لقاء بين مختلف الأديان والتقاليد الروحية، بل هو عامل توحيد بينها، وفي ذلك يقول الحكيم رامانا مهارشي (ص20): “الأديان أنهار مختلفة تتقاطع وتصبّ في محيط الصمت”.
وتقاليد الصمت والتأمّل في الهندوسية عريقة القدم. ولعلّها أقدم التقاليد في هذا المجال، فاليوغا بأسرها تقليد تأمّل وصمت. لذا يقول المؤلف (ص14): “كان لا بدّ من اعتماد المنهج الانتقائي… والجانب الاختباري وحتى العملي هو الأساس في بحثنا”.
ويروي الباحث تجربة صمتٍ له عاشها في صومعة حكيمٍ هنديّ صامت هو شاندرا سوامي. ويقول عنه (ص55): “له عقل حكيمٍ وقلب طفل”.
ويؤكّد شاندرا سوامي أن في الصمت حفظ لطاقة الإنسان الفكرية والنفسية بل وإحياءٌ لها (ص50): “بالصمت تستعيدون الطاقة، في حين تصرفونها بالكلام. وهذا الأمر أشبه بظاهرة النوم. فبالنوم تستعيدون الطاقة التي فقدتموها بنشاطكم. أما في الصمت فتحصلون على راحةٍ أعمق بكثير من راحة النوم”.
ويضيف سوامي من وحي تجربته الطويلة (ص47): “اكتشفتُ أن الصمت أكثر نفاذاً من الكلام، وتستطيعون أن تجرّبوا ذلك بأنفسكم”.
ويدرس الباحث الصمت في تعليم حكيمة الهند الكبرى ما أنندا مايي (1896-1982) وتلامذتها. وكانت ترى أن (ص72): “الصمت الحقيقي يفرض نفسه عندما لا يبقى للفكرة من مكانٍ تذهب إليه” وأن الاختبار العميق يترادف ويقترن بالصمت (ص79): “عندما تتكلّمون تجنحون إلى أن تعوموا على السطح. ولكن عندما تغوصون في الأعماق لا يعد بإمكانكم الكلام.”
وكما علّمت مايي الصمت، علّمت كذلك أدب الكلام، وأدب الإصغاء والاستماع. متى يجب أن تستقرّ الكلمات في أعماق القلب والوجدان، ومتى يجب أن يمجّها المرء ويخرجها من فكره وذاكرته بالسرعة نفسها التي دخلت فيه، فالكلام الجارح سمّ زعاف، تقول (ص83): “كلّ مرّة تشعرون فيها أنّكم انجرحتم بما قيل لكم، أبصقوا هذا الشعور، كما لو أنّه سمّ قاتل”.
ويتوقّف الباحث ليتأمّل مليّاً في تجربة معلّمه سوامي فيجاينندا (1914-2010) الطبيب الفرنسي الذي سافر 1951 إلى الهند بحثاً عن معلّم حكيم، فوجد ضالّته في أنندا مايي، فتتلمذ عليها، وبقي في الهند، ولم يعد إلى بلده إلا محمولاً في نعش. فيجاينندا مدرسة صمت وحكمة بحدّ ذاتها. “عاش جالساً متأمّلا، وتوفّي جالساً يتأمّل”، يقول عنه تلميذه الباحث (ص7)، وفي سيرته ما ينقض معادلة كيبلنغ الشهيرة: الشرق شرقُ والغرب غربٌ ولن يلتقيا. ففي شخص هذا الطبيب الحكيم الفرنسي/الهندي التقى الشرق بالغرب وتعايشا نصف قرن وأكثر. ومقامه اليوم في باريس رمزٌ لهذا اللقاء الاستثنائي والمبارك. (ص8).
ويروي صليبا، في فصلٍ خاصّ، حكاية معلّمه مع آنندا مايي والتواصل الصامت بينهما: فهو غربيٌ لا يعرف لغة الهند، وهي لا تتقن إلّاها! يقول فيجاينندا (ص100): “كان تواصلي مع مَا يتمّ دائماً عبر الصمت. كنتُ في داخلي أطرحُ عليها الأسئلة وأتلقّى الأجوبة داخلياً كذلك. وكنتُ أتعلّم أيضاً من خلال المراقبة المباشرة”.
ويعلّم فيجاينندا كيفيّة حفظ الصمت عندما نسكت! (ص108): “أفضل طريقة لحفظ الصمت هي أن نكون صامتين عندما نسكت أي أن نقول باقتضاب ما علينا قوله، وبعدها أن يكون فكرنا خالٍ تماماً”. كما يعلّم كيف نحفظ الصمت عندما نتكلّم: “أن لا نقول إلا الضروري، وأن نحفظ صمت الفكر في الفسحة، بين قول وقول” وإلى ذلك فأدب الكلام والصمت هو خصوصاً أدب الإصغاء، وقلّة هم من يتقنونه (ص109): “عندما أتكلّم مع امرئ فإنّني أركّز انتباهي واستجمع فكري كلّياً عليه. أراقب حركاته، ردّات فعله، ما يسرّه وما يكدّره. أما غالبيّة الناس فخلافاً لذلك، فعندما يتحدّثون مع أيّ كان، يكون انتباههم مركّزاً على أنفسهم”.
والخلاصة، فهو كتابٌ لا يكرّر غيره، بل يقدّم للقارئ تعليماً روحيّاً وعمليّاً لا يجده في أمثاله في المكتبة العربية.