“مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان: رواية معاصرة للفتن الطائفية في القرن 19 وخلفيّاتها وتداعياتها”، تأليف الطبيب ميخائيل مُشاقة (1799-1888)، تحقيق ودراسة د. لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون ط3، في 625ص

 

“مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان: رواية معاصرة للفتن الطائفية في القرن 19 وخلفيّاتها وتداعياتها”، تأليف الطبيب ميخائيل مُشاقة (1799-1888)، تحقيق ودراسة د. لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون ط3، في 625ص وتجليد فني فاخر.

كتاب تاريخيّ هو من أبرز المصادر عن تاريخ لبنان في القرن 19، فكاتبه الدكتور مُشاقه ليس شاهد عيان على الأحداث التي روى وحسب، بل هو مشارك في الحدث وفاعل فيه أو في جُلّه، أو ضحيّة له، كما يقول المحقّق (ص14). والفتن الطائفية علينا أن نتبصّر فيها ونستعبر من باب قول المثل اللبناني “تنذكر ما تنعاد” يضيف المحقّق (ص103). وهو يركّز في دراسته على العوامل الخارجية التي أزكت نارها. ويتوقّف مثلاً عند تصريح أحمد باشا والي الشام التركي أيّام مجزرة 1860 القائل: “في سوريا ولبنان آفتان هما المسيحيّون والدروز. فكلّما ذبح أحدهما الآخر استفاد الباب العالي” (ص64). وكم تقاتل اللبنانيون عبر تاريخهم وتذابحوا وكان الأجنبيّ هو المستفيد الوحيد!

ويتوقّف المحقّق عند “حرب البشيرين” الأمير بشير الشهابي الكبير والشيخ بشير جنبلاط، ويخلص إلى أنها كانت أول حربٍ اكتست طابعاً طائفيّاً، وقسمت الجبل عموديّاً بين الدروز والموارنة. (ص69).

ويخصّ المحقّق يهود دمشق ودورهم في مذبحة 1860 بفصل كامل (ص81-88)، يسلّط فيه الضوء على دورهم المشبوه في تأجيج الفتنة بين المسيحيين والمسلمين، وكذلك في الاستفادة منها: الحصول على متاع النصارى بأثمان بخسة (ص84)، إقراض المتّهمين المسلمين بالجرائم الأموال بفوائد فاحشة لدفع غراماتهم، شراء السندات التي دفعتها الدولة العثمانية للمسيحيين المتضرّرين من هؤلاء بعد خصم 20% من ثمنها وأكثر…

وفي خلاصة دراسة المحقّق (ص105): “ما زلنا نشكو في لبنان من إفراط في التسييس، ومن ثمّ تطييف كلّ ما هو سياسيّ” أمّا عن الطائفية، فيختم (107): “في الحديث النبوي الشريف: “لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ مرّتين” أما نحن فقد لُدغنا من الطائفية مراراً وتكراراً، ولا نزال، وسنبقى، على ما يبدو نُلدغُ منه. فهل نحن حقّاً مؤمنون؟!”

وليس الأمس قاتماً كلّه. ففي الكتاب، ومَلاحِقه التي جمعها المحقّق من مصادر شتّى مجموعة كبيرة من الوثائق والشهادات التاريخية تؤكّد أن الوئام في لبنان كان القاعدة، والفتنة استثناء. فجرجس مُشاقّة جدّ المؤلف مثلاً وهو المسيحي الملتزم بنى مسجداً للشيعة في صور في 1760 على حسابه، وكان أول مسجدٍ لهم فيها إذ لم تكن الدولة العثمانية غالباً تسمح لهم ببناء مساجد. (ص405-406). وكان أحمد باشا الجزّار يشدّد النكير على الشيعة، فيعلنون العصيان عليه. وقد افتدى إبراهيم مُشاقة أربعة عُصاة ودفَع الفدية إلى الجزّار من ماله الخاصّ فعفا عنهم. وكان لأحد الأربعة هؤلاء أن يفديه بدوره بحياته عندما هاجمه عدد من المتمرّدين، إذ “تلقّى ضربة الخنجر في صدره، فوقع قتيلاً. وقبل مفارقته الحياة قال: الآن أمكنني أكافي منقذي من الخازوق” (ص408).

ويروي المؤلف ميخائيل مُشاقة كيف أنقذ كاهنٌ كاثوليكي حياةَ الشيخ بشير جنبلاط (ص420). ويحشد المحقّق في الملحق عدداً كبيراً من الروايات التي تؤكّد أن العيش المشترك في جبل لبنان كان على خير ما يرام لا سيما زمن حكم الأمير بشير الكبير.

ومن الروايات التي تقشعرّ لها الأبدان كيف فتك الجزّار بنسائه إذ شكّ بأمانة بعضهنّ (ص184): “كان الخصيّ يسوق إلى الجزّار نسوته أفراداً والجزّار يقبض عليها من عنقها، ويطرحها في النار على وجهها، ويدوس على ظهرها، ويضغط على رأسها، حتى يتمّ شيّها، فيأمر الخصيّ برفعها، وإحضار سواها وعلى هذه الصورة أعدم 37 إمرأة هنّ مجمل حريمه”. وهل نعجب بعد ذلك ممّا في موروثنا ولاوعينا الجماعيّ من ذكوريّة قاتلة؟!

وفي ملاحق الكتاب عدد كبير من الصور واللوحات الفنية عن لبنان قرى ومدناً في القرن 19.

والخلاصة فهو كتاب بل موسوعة عن لبنان في القرن 19 تقرأ فيه ما لا تجده في أي مصدر أو مرجع آخر.

شاهد أيضاً

أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون في 380 ص.

“أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *