مبدعون من لبنان/حزيران 2019
نعيم يزبك الشاعر والمعلّم
بقلم أ. د. لويس صليبا
نعيم يزبك مع أساتذة من مدرسة فرير جبيل في فاريّا 1961
نعيم يزبك يلقي قصيدة في عشاء عيد المعلّمين مدرسة فرير جبيل/بجّة 1964
مع مجموعة من زملائه الأساتذة ويبدو من اليسار سليم عبّود، نعيم يزبك، نجيب أبي عقل، ميشال عبّود، وفي أقصى اليمين إبراهيم جبر
نعيم يزبك في أقصى اليسار مع أساتذة من مدرسة فرير جبيل 1961
قصيدة لنعيم يزبك بخطّ يده
نعيم يزبك مع أساتذة من بلدته حصارات
نعيم يزبك معلّم العربية في مدرسة فرير جبيل 1970
نعيم يزبك مقدّماً ديوانه إلى صديقه وزميله السابق في التعليم البطريرك نصرلله صفير
نعيم يزبك يتناول القربان من يد الأب لويس خليفة
في حفلة عيد المعلّم ملقياً قصيدة 1964 بجّة
نعيم يزبك (1919-14/8/2006) شاعرٌ وأديب ومعلّمُ أجيالٍ غُمط حقّه، ولم ينل ما يستحقّ من اهتمام في حياته، رغم أن كبار الأدباء والشعراء أمثال ميخائيل نعيمه والشاعر القروي ومارون عبّود وغيرهم أقرّوا له بالأصالة. آثر أن يعيش منزوياً بعيداً عن الأضواء وزاهداً في الشهرة، ومكرّساً وقته لطلّابه وأولاده وأشعاره. وحتى الديوان الذي ضمّ باقة من هذه الأشعار وصدر في أواخر حياته لم تكن له فيه رغبة ولا سعي. كثرٌ هم أولئك الذين تعلّموا منه لغة سليمة فصيحة، ويقرّون له بفضلٍ عميم، ومنهم كاتب هذه السطور. وكي لا يطوي النسيان معلّماً فاضلاً، وشاعراً فطحلاً، وبمناسبة الاحتفال بالذكرى المئويّة الأولى لولادته 1919-2019، وصدور الطبعة الجديدة والكاملة لمجموعة أشعاره، كان هذا البحث الموجز عنه، والحافل بعطر الذكريات، وصدى السنين الحاكي.
شاعر وأديب من حصارات/جبيل
أبصر نعيم يزبك النور في قريته حصارات وهي تبعد سبعة أميال عن مدينة جبيل مركز القضاء. نشأ وترعرع في ربوع هذه الضيعة، ولا سيّما في حيّه المعروف بـ”الوعرة” نظراً لوعورة طبيعة الأرض فيه وقساوتها: صخور قُدّت من حجارة لبنان العتيق، ولعلّه استمدّ من صخور حيّه هذه متانة أبيات شعره، وصلابة سبكها. فشعره مُحكم الوزن والقوافي كان، ولا يتزحزح عن بحور الخليل وقواعدها وأوزانها قيد أنملة.
والده شهوان كان مختاراً للضيعة، وأمّه مريم امرأة فاضلة ربّت أبناءها في جوّ من التقوى يقول عنه نعيم منشداً
خُلقتُ للشعر أستوحي روائعه في جوّ بيتٍ كحدّ السيف مسنونِ
ما غيرُ شيطانه يوماً يجرّبني أعوذُ بالله من شرّ الشياطينِ
تلقّى علومه الأولى في ضيعته، ثمّ انتقل إلى المدرسة الوطنية/عمشيت لصاحبها المربّي والأديب أديب لحّود، ونظم الشعر وهو في الرابعة عشرة، وشجّعه معلّمه أديب لحود على المضي قدماً في هذا المضمار. وبعد عمشيت انتقل إلى مدرسة فرير جبيل. ومنها انطلق إلى حياته المهنيّة معلّماً للغة العربية في مدارس عدّة: بشعله/البترون، بير الهيت/جبيل، معهد سيدة ميفوق. ثم مدرسة الفرير 1954 ليبدأ منها مشواره الطويل مع إرسالية الإخوة المريميين العريقة في التعليم في لبنان. درّس في معهديّ جبيل وجونية للفرير وانتقل معهم 1968 إلى معهد الشانفيل في ديك المحدي، وبقي يعلّم فيه حتى تقاعد 1982، وتفرّغ للكتابة نثراً وشعراً.
حصد نعيم يزبك عدداً من الجوائز في مباريات شعرية، أبرزها جائزة إذاعة لندن عن قصيدة بعنوان التسامح. وفاز بالجائزة الأولى عن قصيدته في الشهداء في مهرجان الشعر للحركة الثقافية/أنطلياس.
نعيم يزبك الشاعر والمعلّم
كان الأستاذ نعيم يزبك عوض أن يتلو لنا من الكتاب المدرسي قصيدة، يلقي علينا واحدة من قصائده، وكثيراً ما كان يرتجلُها، فيحثُّنا بالمثال والقدوة على الخلقِ والإبداع. ولا أنسى في هذا المجال قصيدتَه الميلادية 1975، في ذروة الحرب اللبنانية، وقد أخذ شطر البيت الأول من قصيدة للمتنبي شهيرة: عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ، ومضى ليقول:
عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ فيكَ التهاني آهاتٌ وتنهيدُ
هذي كنائسُنا في العيد صامتةٌ ما للأناشيدِ ترجيعٌ وترديدُ
شذا البخورِ تلاشى في مباخرنا وملء أجوائنا نارٌ وبارودُ
ذاك الأمانُ الذي قد كان رائدُنا يا للخسارةِ في لبنان مفقودُ
المجدُ لله صوتُ العنف أخرسها أما السلامُ فتهجيرٌ وتشريدُ.
فليس غيرُ طريقِ القبرِ سالكةٌ وكلّ دربٍ عداها فهو مسدودُ
ذاكرة تحفظ ألوف الأشعار
وحتى كلامه العاديّ والبسيط كان دوماً مرصّعاً بلآلئ الأدب وجواهر الشعر ونفائس الأمثال. فقد امتلك ذاكرة عجيبة تحفظُ قصائدَ القُدامى والمحدثين. ويتناقل عنه بعض تلامذته الخبر التالي: فقد طلب منهم يوماً أن يحفظوا قصيدة من عشرة أبيات، وعندما جاء بعضهم غير حافظ لها ومتذرّع بضعف الذاكرة قال لهم: يا أبنائي أحفظُ من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني عشرة آلاف بيتٍ، وأطلب منكم أن تحفظوا عشرة أبيات وتقصّرون عن ذلك؟!
بيته صالون أدبيّ
وبيتُه نفسه كان ملتقى الشعراء والأدباء: ميخائيل نعيمه، الشاعر القروي والمدني وغيرهم. فما قَدِم أديبٌ إلى جبيل إلا وحطّ الرحال في منزل نعيم يزبك يسمعُ منه آخر ما نظمه الشاعر على إيقاع سمفونية موجِ البحر ويعطّر أنفاسه برائحته.
وكم درستُ عليه في الصفّ وخارجِه: أزورُه فينشدُني، ومن الذاكرة، أشعاراً نظمها أو ارتجلها في هذه المناسبة أو تلك، فتمضي ساعاتٌ وأنا أستمعُ إليه، وما كنتُ أخالها سوى لحظات! وأنصرفُ فيشكرَني قبل أن أشكرَه، حتى ليصحّ فيه ما قاله هو عن معلّمه سليم شاكر الصعيبي:
تراه إذا ما جئته متهلّلاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
(يزبك، نعيم، المعلّم سليم شاكر الصعيبي، أدباء بلاد جبيل الراحلون، المجلس الثقافي في بلاد جبيل، ط1، 1985، ج1، ص168).
كان فرحُه في العطاء يضارعُ حبوري في الأخذ عنه، وهو القائل:
فرحُ المحدّث أن يلاقيَ سامعاً يشتاقُه بالفهمِ والإصغاءِ
(يزبك، نعيم، شعر، بيروت، مطابع الحرّية، ط1، 1996، ص73)
شاعر يحبّب تلامذته الشعر
نعيم يزبك تعلّمتُ منه أن أنشئ جملةً بسيطة فصيحة ولكنّها بعيدة عن التقعّرِ والركاكةِ في التعبير في آن. ومن علّمني حرفاً كنتُ له عبداً، أو بالحريّ حرّرني من عبودية الحرف! ومن تصحيحاتِه أنه كان يشطبُ لي ما يراهُ من غريب الكلمات والتعابير التي كنتُ أستنبطها من بطون الكتب ومهجورِ الكلام.
أحببنا الشعرَ من حبّه له، وأنشدناه صحيحاً غير مكسور من فرطِ حرصِه على صحّةِ الوزن واستقامةِ المعنى.
ومجلسُه مجلس الظُرف والفُكاهة أيضاً كان. فغالباً ما كان يُردفُ الكلمة بنادرةٍ نضحكُ لها، فنجمعُ في صُحبتِه بين المفيد والممتع. وأذكرُ له زيارةً إلى منزلنا، سألتْه أمّي فيها عن عدد أولاده فأجاب سبعة، فعجبَت، فأردف مبتسماً: والرقم متحرّك، وهم اليوم تسعة كما نعرف وتعرفون.
شاعر يحكي عن الشعراء والأدباء
وكانت له في الأدباء والشعراء آراءٌ توجّهنا إلى قراءاتٍ واكتشافاتٍ لعوالم نحتاجها في مسيرتنا الطويلة الحياتيّة والفكريّة. يشرّح لنا أدب جبران ونعيمه، وميّزات كلّ منهما. ويَحكي لنا عن جارِ مدرستنا فرير جبيل الأديب والشاعر المهجري شكرالله الجرّ الذي كنّا نراه أحياناً من نافذة صفّ الأستاذ نعيم جالساً على شرفة منزله، فيخبرُنا عنه وعن نشاطه المهجري وإبداعات أخيه عقل الجرّ، فنُصغي إلى حكاياتِ أستاذِنا وننظرُ من النافذة لنرمقَ الشاعر الذي يتحدّثُ عنه، فيغدو الدرس وكأنه مسرحية شيّقةٌ مثيرة ما بعدها إثارة!
ويختم ببعض ما قاله في شكرالله الجرّ شعراً، ولا سيّماً عندما عاد هذا الأخير من مهجره في البرازيل فأنشده أستاذنا نعيم في احتفالٍ في مدرستنا فرير جبيل في 12/6/1962 قصيدة ذكر فيها ديوان الجرّ “أغاني الليل” وجاء فيها:
غمستَ بقلبك الدامي يراعاً لتسقي روضة الشعر الينيعِ
وفجّرتَ الدموعَ من الأغاني “أغاني الليل” ألحانُ الدموعِ
(يزبك، نعيم، شعر، بيروت، مطابع الحرّية، ط1، 1997، ص130)
ولا يكتفي بالحديث عن الجرّ وأخيه، فهو لا ينسى أحداً من أدباء بلاد جبيل، فيخصّ كلٍّ بلفتة وعناية، وعلى رأسهم شيخ الأدباء والنقّاد مارون عبّود، فينقل لنا قوله له: “إن الفكرة متى مرّت ببالك دون اصطيادها، ذهبت، ولن تعود. وهي هي الطير يمرّ ويخطئه الصيّاد، ولن يتكرّرُ مروره”. (يزبك، نعيم، شعر، م. س، ص7). فنصغي، وندوّن ونتعلّم ونعتبر
وهذا ما جعله لا يضيّع فرصةً استوحى فيها عفواً بيتاً أو أكثر من الشعر. فينزوي في الاستراحات بين ساعة تدريس وأخرى يدوّن ما “أوحي” إليه من شعر.
شاعر يحسن الإلقاء والإصغاء
وبأي تواضعٍ وانتباهٍ واهتمامٍ وحبور كان يستمعُ وينصتُ إلى نفثاتِ أقلام تلامذته، وبأي تشجيعٍ كان يلقانا عندها داعياً إلى المثابرة، والمضيّ قُدماً في هذا الطريق. أذكرُ مثلاً يوم ألقيتُ كلمة في باحة كنيسة حصارات في مأتم الشاعرة والرسّامة المأسوف على شبابها منى الحويّك في 4/5/1992 (صليبا، لويس، إشارات شطحات ورحيل، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2013، ص149-151)، كيف جاءني بعدها مهنّئاً ومثّمناً. فعجبتُ لأمير منابرٍ مثله يحرصُ على تهنئة مبتدئ مثلي! كان حرصه على حسن الإصغاء، لا يقلّ عن حرصه على حُسن الإلقاء، وهنا يكمن سرٌّ من أسرار نجاحه.
وبكلمةٍ مختصرَة ومكثِّفة فإنّني لا أجد ما يعبّر عن أثر معلّم مميّز مثله أكثر ممّا قاله هو نفسه، إذ كتب: “إن كلّ أثرٍ يزول ما عدا الأثر الطيّب الذي يطبعُه المعلّمُ الناجح في نفوس تلامذته. وهذا ما يعزّينا نحن معشر المعلّمين، ويخفّفُ عنّا ما نلاقي من صعوبةٍ في أداء هذه الرسالة الشاقّة”.(يزبك، المعلّم صعيبي، م. س، ص169).
رسالة المعلّم كما فهمها وعاشها
وعن تجربتِه الفريدة معلّماً ومربّياً للأجيال، أتركُ نعيم يزبك يحدّثنا بنفسه وقلمه إذ يقول: “جيشٌ لجِبٌ من الطلّاب تعاقبوا أمامي على مقاعدِ الدراسة. ومنهم من بلغ الذروة، وأنا ما أزال حيث بدأتُ على المنبر المتواضع، جندياً مجهولاً، أواصلُ العملَ في تأدية الرسالة”. (م.ن، ص168).
وهنا وفي هذا السياق، يقدّم لنا الأستاذ نعيم تعريفاً مبتكراً للمعلّم مستوحىً من تجربته وتبصّره في هذه التجربة، فيقول متابعاً: “المعلّم أشبهُ بجسرٍ ممدودٍ بين ضِفّتي الجهل والعلم، مَواكبُ البشرية تعبر عليه، يصلُ الجميعُ إلى الغاية، والجسرُ باقٍ في مكانه، إلى أن ينهار ويسقطَ ويقومَ على أنقاضه جسرٌ آخر، تواصلُ المواكب سيرَها عليه، ولا يشعرُ أحدٌ بسقوطه”.
للّه درّه من تعريف وتحديد مبدع صقلَتْه التجربة، وبلورَتْه المعاناة.
شاعر الأرض وحارسها الأمين
ونعيم يزبك شاعر الأرض، وإنسانها وحارسها بامتياز. يعرف كيف يقتنيها، وكيف يعطيها كذلك. ويعي تماماً أن المرء مهما امتلك من أراضٍ يبقى مجرّد وكيلٍ على الأرض، ولن تتجاوز حصّته منها في النهاية ما يتّسع لجسمه البالي الفاني الذي سيعود عاجلاً أم آجلاً مجرّد حفنة من ترابها، وهو القائل:
أرضـنا هذه نـموتُ فـداهـا فغـنانا ورزقُـنا من جناها
يطمعُ المرء بالمسافاتِ فيها ثمّ يرضى بقدّه من مداها
(يزبك، شعر، م. س، ص237). وقد أبدع الشاعر هنا في استخدام الصورة المقارنة بين قدّ الإنسان، أي قامته وقوامه، والمدى الذي يعطاه في النهاية من الأرض، ويُفرض عليه أن يكتفي به. فمهما علا قدْره، فقدَره من الأرض لن يتجاوز قدّه! وقد وفّق في استخدام لفظة قدّ وهي تعني في آن القامة والقدْر: المقدار، أو القيمة. وبيتاه هذان كأنّهما قُدّا من من صخور حيّ “الوعرة” الشامخة في بلدته حصارات.
يعرف نعيم يزبك أن يعطي الأرض بسخاء، حين وحيث يجب، قلتُ، وقد روى لي ابن أخيه وجيه يزبك، أنه عندما عزم أبوه نزيه أن يبني له بيتاً في قريته حصارات جاءه أخوه نعيم قائلاً: ولِمَ تبحث يا أخي عن قطعة أرضٍ بعيداً عنّا، هذه قطعة من أرضي هدية لك، وعمّر لك فيها منزلاً يكون بين بيتي وبيت أخيك الثاني حنا. وسجَّل له باسمه قطعة الأرض هذه، فشيّد فيها نزيه منزله. فلله درّه من سخاء أخويّ، وليتنا نتعلّم منه ونعتبر.
وعن حبّه لاقتناء الأرض روى لي ابنه ناظم ما يلي: عندما عُرضت على نعيم قطعة الأرض المجاورة لمنزله على شاطئ جبيل احتار في أمر شرائها، لا سيما وأن المال المطلوب لم يكن متوفّراً بكامله لديه. وذات ليلة، وكنا معه متحلّقين حول منقل النار، فحدث أن طارت شعلة صغيرة منه، وكادت تحرق سجّادة جديدة اشتراها لتوّه، فعندها بادر زوجته بالقول: غداً إن شاء الله سأذهب لشراء هذه الأرض وتسجيلها، وهل نخاف من شراء أرض لا تُحرق ولا تَغرق، ولا نخاف من شراء سجّادة تضارعها في الثمن، وتُحرِقها شعلةُ نار صغيرة؟!
ومن أحلى ما نظم نعيم يزبك من قصائد ناظمٌ تنازعته وتنازعت عليه ربّتان: ربّةُ الهندسة وربّةُ الشعر. فكانت الغلبة للأولى. ولكنّها غلبةٌ لا تدوم. وعسانا نعودُ لنسمعه يغرّدُ على المنابرِ من جديد.
ونختم مقالتنا عنه ببيتيّ شعر قالهما فيه ابنه العميد الأديب توفيق يزبك الذي ورث صنعة الشعر وقرضه عن والده. يقول العميد توفيق في أبيه:
أبي نعيمٌ وهل أنطقُ منك إليكَ ما الشعرُ دونك غير نطقٍ شاردِ
لبنانُ منك فنبعُ الوحي والفلذُ كم شاعرٍ قصد النعيمَ كواردِ
قسم من هذا البحث عن الشاعر نعيم يزبك مأخوذ من كلمة د. لويس صليبا في رثاء أخيه نزيه وامرأته في سيدة حصارات/جبيل، في 24 شباط 2019، ويمكن متابعته على الرابط التالي: