السيكولوجيا والتصوّف الإسلامي والبوذية، محاضرة لويس صليبا على Zoom الأربعاء 6/11/2024
سنتناول في هذا العرض الوسواس القهري، ليس كمرض وحسب، بل كآلية تفكير يعتمدها أكثر الناس، ومن منّا لم يعانِ في حقبة ما من حياته من الوساسوس؟! والقرآن كما سبق وأوردنا يذكر ذلك في سورته الأخيرة (سورة الناس 114). والمدرسة السيكولوجية التي أثبتت نتائج حاسمة في علاج الوساوس عموماً ولا سيما الوسواس القهري هي مدرسة العلاج السلوكي الإدراكي CBT. وسنرى في هذا العرض كم أن هذه المدرسة قريبة من علم النفس البوذي وتستوحي منه.
“تحرّر من الوسواس القهري”، تأليف المعالجين النفسانيين الدكاترة: فيونا تشالاكومب Challacombe، فكتوريا بريم أولدفيلد Oldfield والبروفسور بول ساكوفسكي Salkovskis، ترجمة آمال الأتات ومايا كوراني، صدر عن منشورات دار الفراشة في بيروت، سنة 2013.
لعلّه أبرز كتاب في موضوعه بلغة الضاد فالمؤلّفون هم من كبار المتخصّصين وعلى مستوى دولي في معالجة الوسواس القهري. وكما سبق أن ذكرنا في مقالة آنفة فعوارض هذا الاضطّراب النفسي لا تنحصر في الذين يعانون من هذا المرض، بل هي آلية تفكير عند الأكثرية الساحقة من الناس، وإن كانت لا تصل إلى درجة المرض، والفرق بين المرء السوي والمريض ليس في نوعية الوساوس وطبيعتها، بل في كمّيتها ودرجة تواترها وتكرارها. وفي ذلك يقول المؤلّفون (ص256): “كلّنا مهيئين لنشعر بالقلق، ومن المفيد والضروري أن نقلق، لكن بنسبة طبيعية. ولا يمكن للأفكار المقلقة أن تكون مدمّرة. والتفكير أن الأفكار المقلقة قد تضرّ بالدماغ مجرّد فخّ ينصبه الوسواس القهري”.
ويداوي المؤلّفون مرضاهم مستخدمين “العلاج الإدراكي السلوكي” Cognitive Behavior Therapy CBT. ويقولون عنه (ص283): “إن علاج الوسواس القهري المفضّل في حالات الأطفال والكبار هو العلاج الإدراكي السلوكي. وهو نوع من أنواع العلاجات الكلامية، ويشمل التعرّض ومنع الاستجابة ERP”.
وهم يعرّفونه كما يلي (ص15): “تيم بيك (1921-2021) Aaron Tim Beck هو من ابتكر النظريّات الإدراكية والعلاج الإدراكي. حاول بيك جعل النظريّات التي وضعها فرويد تنجح. وبدا لبيك أن التحليل النفسي لم ينجح عندما حاول أن يساعد مرضاه”. ويضيف المؤلّفون شارحين (ص16-17): “أشارت نظرية بيك باختصار إلى أن الناس لا يشعرون بالقلق أو الانزعاج أو الغضب أو الحزن بسبب ما حدث لهم، بل بسبب ما فكّروا في ما يعنيه ذلك. وأظهر بيك أن الاكتئاب لا يأتي مباشرة بسبب ما حدث للناس، بل بسبب الطريقة التي فسّروا فيها الأحداث. أضف إلى ذلك أن بيك أشار إلى أن الطريقة التي يرى الناس فيها ويفسّرون ما حدث معهم مرتبطة بمعتقد عن أنفسهم وعن العالم عموماً، وبمعتقداتهم عن المستقبل. فالناس يفكّرون بطريقة محدّدة بسبب التجارب التي أثّرت في ما يعتقدون به عن أنفسهم وعن العالم”.
وبيك في ذلك يلتقي تماماً مع علم النفس الروحي البوذي الذي لخّص نظرته إلى العالم الفيلسوف شوبنهور بصيغة شهيرة تقول: “العالم هو تصوّري له” Le monde est ma représentation
وعن آلية الوساوس والطريقة الناجعة في التعامل معها يشرح المؤلّفون (ص98): “إن محاولة تجنّب الأفكار بحدّ ذاتها جزء أساسي من الوسواس القهري. يصعب كثيراً على معظم الناس ألا يفكّروا بشيء، فكي تُبعد فكرة عن ذهنك لا بدّ أنّك تفكّر بها. والمفارقة في محاولة كبت تفكير معيّن أنها تجعله أكثر أهمّية. لذا فمحاولة تجنّب الأفكار ليست صعبة وحسب، بل عقيمة وعكسية النتائج”. ويضيفون محذّرين من النتائج العكسية للكبت (ص254): “إن محاولة كبت الأفكار تزيد من تبادرها إلى ذهنك. والتطمين قد يمنحك راحة مؤقّته، لكنّه حتماً يضعف ثقتك لأنّك دائماً ستجد ثغرات في الإجابة”.
قصة التلميذ في التأمّل الذي سأل معلّمه الوصول إلى التخطّي. في قصص الزن Zen
والثغرات هذه تنتج غالباً عن الشكّ وهو الخاصّية الأساسية في هذا المرض، بل هو طامته الكبرى (ص269): “يُعرف الوسواس القهري أحياناً بمرض الشكّ. وإحدى الشكوك المؤذية المرتبطة بالوسواس القهري هي ما إذا كانت مشكلتك الحقيقية هي الوسواس القهري أم لا”. في حين، يقول علماء النفس السلوكيّون، أنّنا عندما نعي أنّنا نعاني من الوسواس القهري نكون قد اجتزنا أكثر من نصف الطريق في معالجة هذا المرض. وفي الشمانية Shamanisme ما أن تعرف الشيطان وتسمّيه حتى تخور قواه ويختفي بمجّرد أن تكون قد كشفته وحسرتَ اللثام عنه. واللافت هنا أنه بالمفهوم القرآني والصوفي فالوسواس والشيطان مرادفان: الوَسواس هو حديث النفس كالصوت الخفي، وهو أيضاً الخنّاس (سورة الناس 114/4). وما أن تكشف الوَسواس وتعي عمله الداخلي في النفس حتى يضعف ويبدأ يتوارى! وآلية عمل الوسواس لكأنّه شيطان داخلي، ونفس أمّارة بالسوء تعمل بداخل المرء وضدّه في آن!
وبشأن شكوك الوسواسيين يقول المؤلّفون (ص255): “من المستحيل بلوغ اليقين بشأن الشكوك الوسواسية. وكلّما حاولتَ بلوغ اليقين قلّ يقينك، وعندئذٍ ستقع في حلقةٍ مفرغة”.
والحلّ هو تحمّل الشكوك، فنحن نعيش في عالمٍ خالٍ من اليقين، ويؤكّد الصوفية أن اليقين الوحيد في هذه الحياة الدنيا هو الموت، ويقولون في تفسير آية الذكر الحكيم: {واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين} (الحجر 15/99) أن المقصود هو الموت. والمؤلّفون، وكذلك العلاج الإدراكي السلوكي CBT عموماً، ليسوا ببعيدين عن هذه السيكولوجيا الصوفية إذ يقولون (ص209): “تشكّل فكرة تحمّل الشكّ جزءً مهمّاً من معالجة مشكلة الوسواس القهري. إذ يمكن للوسواس أن يغرقك في بحرٍ من الشكوك (…) ومن المهمّ في التجارب السلوكية أن تتحمّل الشكّ وعدم اليقين. فعدم اليقين جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة، لأنّنا جميعاً نعيش مع عدم يقين من الموت أو المرض، أو ما يحمله المستقبل. وإذا لم نكن متأكّدين، فهذا لا يعني أنّنا نفتقر تماماً إلى اليقين. وقد يكون الوسواس القهري قد أقنعك بأنّه من الضروري أن تتيقّن 100% من كلّ شيء. لكن ذلك غالباً ما يكون محالاً”.
أفلا يعني صمت بوذا ورفضه الدخول في المسائل الماورائية والإجابة عن الأسئلة المتعلّقة بعالم الغيب أنّها تحتمل دوماً وحكماً الشك؟!
وتبقى السيكولوجيا البوذية تتّفق مع النظرة الصوفية في أن اليقين في هذا العالم النسبي والدائم التغيّر ينحصر في أمرين: 1-اللحظة الراهنة وما تحمل من معاناة، فالصوفي ابن وقته يقولون، 2-وساعة الموت الآتي يوماً لا محالة، وما سوى ذلك فلا يقين فيه ويحتمل دوماً الشكّ. ومع ذلك فأكثر الناس يتلهّى بالاحتمالات والشكوك وعوالم الماورائيات والغيب عمّا هو حقّ ويقين: اللحظة الراهنة وساعة الموت.