زاوية كبار في خدمة لبنان/ عدد ك1 /2018
مقابلة وتحقيق عن الأخ أندريه/ بقلم أ. د. لويس صليبا
الرئيس اللواء فؤاد شهاب يقلّد الأخ أندريه وسام الأرز
الأخ أندريه دو لالاند
النائب إبراهيم كنعان ممثّلاً الرئيس العماد عون يقلّد الأخ أندريه وساماً ثانياً
الرئيس فؤاد شهاب مهنّئاً الأخ أندريه بالوسام
وزير التربية الشيخ بيار الجميّل مهنئًا الأخ أندريه بالوسام
الرئيس فؤاد شهاب يُلقي كلمة بمناسبة تقليد الأخ أندريه الوسام
هي زاوية تودّ أن تؤرّخ لكبارٍ سنّاً…ومقاماً، أجانب ولبنانيين عاشوا في هذا الوطن الصغير، وأدّوا له ولأهله خدمات جلّى، فصارت سيرتهم وقصّة حياتهم جزءاً لا يتجزّأ من تاريخه. فإن ضاعت هذه السيرة ضاع قسمٌ من هذا التاريخ! وتاريخ لبنان ليس تاريخ زعماء ورؤساء وصراعات وحروب وحسب، بل هو كذلك تاريخ أناس عملوا بجدّ وجهد وبصمتٍ وفي الظلّ أحياناً في سبيل رقيّ وتطوّر، وعيشٍ كريمٍ… ومشترك. فأن نعي وندرك إسهام هؤلاء هو أن نفهم تاريخ وطننا ونفقه الكثير من خلفيّاته. لذا كانت هذه الزاوية. وهي ستسلّط الضوء على شخصيّات لبنانية، أو أجنبية مقيمة في لبنان كانت لها أيادٍ بيضاء في العمل الوطني: أعمال إنسانية أو اجتماعية أو تربوية، إلخ وإذا كانوا قد أوفوا اليوم قسطهم للعُلى واستراحوا، فحقّهم علينا أن لا ننسى إسهاماتهم، وأن نأخذ العبرة من تجاربهم، ونستلم المشعل منهم لنواصل المسير. فبهذه الطريقة، دون غيرها، تُبنى الأوطان… وتتطوّر.
والأخ أندريه دو لالاند André De Lalande هو خير من نفتتح به زاويتنا هذه. فقد تجاوز عمره اليوم المئة سنة، ولا يزال ناشطاً في الشأنَين التربوي والاجتماعي. وقد أمضى حتى يومنا هذا نحو 85 عاماً في خدمة النشء اللبناني بمختلف فئاته… وطوائفه. تنقّل في أكثر مدن لبنان أستاذاً في مدارس الإخوة المريميين الفرير ماريست، ومديراً، فرئيساً إقليميّاً عامّاً (1960-1970): عمل في صيدا، ودير القمر، وجونية، وجبيل وغيرها.
رؤساء جمهورية، ووزراء ونوّاب، وبطاركة وأساقفة تتلمذوا عليه وعلى زملائه الإخوة المريميين: الرئيس كميل شمعون كان تلميذاً للفرير في دير القمر، وكذلك البطريرك الماروني بولس المعوشي. البطريرك صفير عمل أستاذاً تحت إدارته في مدرسة الفرير جونية. والرئيس الأمير الجنرال فؤاد شهاب كان صديقه وجاره في جونية، منزله ملاصق لمدرسة الفرير، وقد اعتاد مذ كان قائداً للجيش (1943-1958) أن يأتي المدرسة مراراً في الأسبوع ولا سيما يوم الأحد لحضور القدّاس، وزيارة الإخوة وعلى رأسهم مديرهم الأخ أندريه، فيعاين عن قرب ما يقومون به من عمل دؤوب في تربية النشء اللبناني. وما أن تولّى رئاسة الجمهورية اللبنانية حتى سارع لمكافأة صديقه القديم الأخ أندريه، فعلّق على صدره وسام الأرز في بداية عهده 1958 تقديراً لخدماته. وحذا حذوه الرئيس العماد ميشال عون فمنحه وساماً آخر في الاحتفال الذي أقيم في حريصا بمناسبة بلوغه المئة عام في ك2 /2018
وبكلمة توجز وتكثّف ما سبق، فالأخ أندريه دو لالاند تاريخ بحدّ ذاته، وصفحة مشرقة من مسيرة لبنان المعاصر… وتاريخه. وساما أرز على صدره، وهو وأمثاله وسام… على صدر لبنان.
لذا اخترنا أن ندشّن هذه الزاوية بسيرته العطرة. فكان لنا معه هذا الحوار، وكان لنا عنه هذا الريبورتاج.
*س: أخ أندريه أخبرنا عن بداياتك في رهبنه الإخوة المريميين Frères Maristes
ولدتُ في 14/1/1918 في مدينة شيربور في منطقة النورماندي في فرنسا. وهي أكبر ميناء على المحيط الأطلسي. ودخلتُ باكراً في رهبنة الإخوة المريميين. أبرزتُ نذوري الأولى 1934 في تورين/إيطاليا. وهي مدينة كفن المسيح المقدّس. وكان الإخوة المريميّون الذين هجروا لبنان قسراً بسبب الحرب العالمية الأولى 1914-1918 قد تجمّعوا في تلك المدينة، وأكثرهم فرنسيّون، وبعضهم من اللبنانيين. وكانوا يحضّرون للعودة إلى لبنان، وشجّعوني للسفر إلى هذا البلد، فأتيته في السنة التي أبرزتُ فيها نذوري الأولى أي 1934.
س: لماذا اخترتَ لبنان؟
التقيتُ في مدينة تورين/إيطاليا بالإخوة المريميين اللبنانيين أو الفرنسيين الذين خدموا في لبنان، وهربوا مع بداية الحرب العظمى من بطش الأتراك. فنشأت بيني وبينهم صداقة ومودّة. وكانوا في حواراتنا الطويلة يخبرونني عن تاريخ لبنان، وتجذّر الموارنة في أرضهم منذ مئات السنين، رغم ما لقوا من اضطهاد. فأحسستُ بالتضامن معهم، وبالشوق إلى التعرّف إلى هذا البلد الصغير وأرضه المقدّسة التي وطأتها أقدام يسوع وأمّه القدّيسة، ولا يغربنّ عن بالنا هنا أنّنا إخوة مريميّون، ننتسب إلى مريم أم يسوع ونستوحي من سيرتها روحانيّة لنا. كما قرأتُ عن جبل لبنان وعرفتُ بأنه موطن النسّاك والحبساء والرهبان، فهو إذاً أرض قداسة وقدّيسين.
وهكذا، فعندما خُيّرتُ بين أفريقيا ولبنان لمتابعة دعوتي، وجدتُني أميل إلى الشرق، وأفضّل لبنان.
*س: أين أقمتَ عند وصولك إلى لبنان؟
كنتُ في سنّ السادسة عشر عندما وصلتُ إلى لبنان. أبحرتُ من مرسيليا/فرنسا في أيلول 1934 ورسَت سفينتنا في مرفأ بيروت. وانتقلتُ في اليوم التالي إلى مدرستنا في عمشيت، وهي بيتنا الأمّ وقد تأسّست سنة 1900. وبقيتُ سنتين في مدرسة عمشيت 1934-1936 أعلّم الصغار اللغة الفرنسية والتعليم المسيحي. وانتقلتُ 1936 إلى مدرستنا في جونية، وكانت كبرى مدارسنا في لبنان، ويقيم فيها 25 أخاً مريميّاً، فكنتُ السادس والعشرين بينهم. وأمضيتُ فيها ردحاً طويلاً من الزمن 1934-1958 قطعَته دراستي في فرنسا.
*س:ماذا فعلتَ في جونية؟
كان عليّ بداية أن أكمل دراستي، فدرستُ البكالوريا الفرنسية، وقدّمتُ الامتحانات وحصلتُ على هذه الشهادة وأنا في لبنان. ثم أرسلتني الرهبنة إلى مدينة ليون Lyon في فرنسا حيث تابعتُ دراستي الجامعية 1947-1952 وحصلتُ على إجازة (ليسانس) في الأدب الفرنسي، وأخرى في التاريخ، وثالثة في الفلسفة. كما نلتُ شهادة في البيبليا أي علم الكتاب المقدّس وتفسيره. وكنتُ في الوقت عينه أعلّم زملائي الإخوة الأصغر مني سنّاً.
*س: هل تابعتَ الدراسة بعد حصولك على هذه الإجازات؟
عدتُ إلى لبنان 1952، وعملتُ أستاذاً، ثم مديراً في مدرسة الفرير حونية. وسافرتُ لاحقاً إلى أورشليم حيث تابعتُ تخصّصي في الكتاب المقدّس في المدرسة البيبلية Ecole Biblique de Jérusalem (1963-1965)، وهي المدرسة الأكثر شهرة وعراقة في تدريس الكتاب المقدّس في العالم. ودرستُ فيها بالطبع اللغة اليونانية القديمة وسائر العلوم البيبلية ولا سيما التاريخ والأركيولوجيا. وكان لي منذ البدء شغف بعلم الآثار والتنقيب عنها.
*س: ذكرتَ لنا أن الإخوة المريميين تركوا لبنان ومدارسهم فيه في الحرب العظمى، ولكن كيف وصلوه وبنوا هذه المدارس؟
وصل الإخوة المريميين إلى لبنان 1895، وقد أتوا تلبية لرغبة وطلب السلطات الدينية والمدنية اللبنانية. وكانوا في البدء معاونين للآباء اللعازاريين أصحاب مدرسة مار يوسف في عينطورة/كسروان الشهيرة، كما أقاموا في غزير مع الآباء اليسوعيين. ثمّ استقلّوا بالعمل التربوي والتدريسي. وكانت أولى مدارسهم في عمشيت 1900، وكرّت السبحة جونية 1903، وصيدا 1903، ودير القمر 1903، والبترون 1903، فجبيل 1908، وزحلة وغيرها.
*س: في أي مدن ومدارس أقمتَ وعملتَ في لبنان؟
تنقلتُ في مختلف مدارس الإخوة المريميين المنتشرة في أكثر المدن اللبنانية فأقمتُ في عمشيت وجونية وصيدا والبترون ودير القمر وزحلة وجبيل. وكان للإخوة المريميّن مقرّ صيفي في فاريّا/كسروان فتولّيتُ إدارة المدرسة الصيفيّة فيه طيلة 25 عاماً على التوالي.
ولمّا كنتُ محبّاً للمطالعة وللتاريخ فقد قرأت عن أكثر المدن والمناطق اللبنانية وعرفتُ تاريخها. كما قرأت عن الأديار المارونية القديمة كوادي قنّوبين وغيرها، وزرتُ هذه الأديار التي عاش فيها كبار القدّيسين ولا سيما دير عنّايا ومحبسته حيث حاورتُ الحبيس الذي خلف القدّيس شربل فيها.
*س: ماذا عن مدرسة جبيل؟ وما الذي حصل لها أثناء الحرب العظمى؟
بدأنا في جبيل 1908 بـ 50 تلميذاً، وفي السنة التالية صار العدد 150 تلميذاً. وكان الأخ بنوا رئيساً للمدرسة ومديراً نشيطاً لها، وأراد أن تكون جبيل الأولى بين مدارسنا. لكن الإخوة تركوا المدرسة مع بداية الحرب العالمية 1914-1918 وهاجروا إلى تورين في إيطاليا. وجاء العسكر التركي مع بداية الحرب ونهب مدرسة جبيل، ولم يبقِ فيها سوى الحجر. وعندما عاد الإخوة بعد الحرب كان عليهم أن يعيدوا ترميمها وتجهيزها أولاً بأول.
*س: وماذا حصل للمدارس الأخرى في الحرب؟
في عمشيت كان الأخ أتناس رئيساً للمدرسة وهو من الألزاس التي يعتبرها الألمان جزءاً من بلادهم، فاعتُبر ألمانياً، ولم يهاجر، وبقي في مدرسة عمشيت، ولم يدخلها العسكر التركي لأن رئيسها ينتمي إلى دولة حليفة. وقد حافظ عليها، ونجت من نهب العسكر التركي.
أما في جونية فكتب الإخوة قبل رحيلهم وكالة للخوري بولس خليل من حراجل الذي وقف بجرأة وبسالة بوجه عسكر جمال باشا. وقد دخل الجيش التركي مدرسة جونية لكن الخوري بولس خليل استطاع أن يحافظ عليها بالحدّ الأدنى.
أما مدرسة صيدا فنُهبت شأنها شأن مدرسة جبيل.
*س: أين تقع مدرستكم في صيدا؟
كانت مدرستنا في صيدا في سرايا الأمير فخر الدين. وفي الخمسينات طلب منّا عالم الآثار الفرنسي موريس دونان أن نترك هذا المكان الأثري كي يقوم بالتنقيب عن الآثار فيه. فكلّفنا المهندس والمقاول الجبيلي لويس القرداحي ببناء مدرسة حديثة لنا في الرميلة وانتقلنا إليها 1959. أما موريس دونان فوجد في مدرستنا القديمة في صيدا مقبرة فينيقية نُقلت آثارها إلى المتحف الوطني في بيروت.
*س: ما الذي تذكره عن مدرسة صيدا؟
كان تلامذتنا في صيدا يتوزّعون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. أما الجوّ فكان وفاقيّاً وما كنّا نحسّ بفرق بين تلميذ مسيحيّ وآخر مسلم، ولا كان التلامذة يشعرون بفارق من هذا النوع. فالوئام كان هو السائد وما من فصل بين التلاميذ على أساس طائفيّ. وهذا ما قدّره لاحقاً الرئيس الأمير اللواء فؤاد شهاب، وكان سبباً في منحي وسام الأرز.
*س: مَن تذكر من تلامذتكم في صيدا؟
إن أنسى الكثيرين من التلامذة، فلا أستطيع أن أنسى من كان جدّ مميّز بينهم، ألا وهو الأب عفيف عسيران. كانت علامات القداسة بادية عليه منذ الصغر. كان يصرّ على حضور دروس التعليم المسيحي وتقديم الامتحانات في هذه المادّة، وكان الأوّل دوماً بين رفاقه في هذه المادّة. وبقينا على علاقة وطيدة معه. فكنّا ندعوه مراراً إلى مدرستنا في شان فيل/ديك المحدي لإقامة الرياضات الروحية، وبعضها يستمرّ طيلة ثمانية أيام، بمعدّل محاضرتين روحيّتين كلّ يوم. وفرحتُ أيما فرح عندما سمعتُ برفع دعوى لتطويبه ورفع صوره على المذابح، فقد عرفتُ فيه تلميذاً ورجلاً وكاهناً سار على درب القداسة.
*س: ما الذي تذكره عن مدرستكم في جونية؟
ذكرياتي عن مدرسة جونية عديدة. ففيها بدأتُ تلميذاً، ونلتُ البكالوريا الفرنسية كما أسلفتُ. وعام 1953 احتفلنا بيوبيل المدرسة الذهبي، إذ كان قد مرّ على تأسيسها خمسون عاماً. وكان الاحتفال برعاية رئيس الجمهورية آنذاك الأستاذ كميل شمعون. وهو من قدامى تلامذتنا في مدرسة دير القمر. فأبى الرئيس شمعون إلا أن يشارك في الاحتفال كواحد من قدامى التلامذة، وكرئيس للجمهورية. فاتّخذ احتفالنا بحضوره وترؤسه له بعداً وطنياً جامعاً.
*س: من تذكر من الزعماء الآخرين الذين كانوا على صلة مباشرة بمدرستكم في جونية؟
على رأس اللائحة يأتي الأمير الجنرال فؤاد شهاب. كان قائداً للجيش اللبناني 1943-1958، ومنزله ملاصق للمدرسة، وقد اعتدنا على تبادل الزيارات: يزورنا بوتيرة شبه يومية للمشاركة في القدّاس وإذا غاب يوماً أو اثنين بداعي المشاغل الوطنيّة، فلا يمكن أن يتغيّب نهار الأحد. وكنّا نبادله الزيارات. وزوجته كانت فرنسية وابنة قائد عسكري، وكانت تفرح بزياراتنا. وهي سيّدة تقيّة فاضلة لا تحبّ الظهور، وتعمل دوماً في الظلّ، وتذكّر بالمثل القائل: “وراء كلّ رجل عظيم امرأة”. وكنّا نرى شبهاً واضحاً بين الجنرال ديغول والجنرال شهاب، إن من ناحية العمل الوطني الرائد، أو من ناحية التقوى والالتزام المسيحيّ. لذلك أحببناه، وبادلنا هو حبّاً بحبّ. وما أن تسلّم الأمير الجنرال شهاب مقاليد رئاسة الجمهورية اللبنانية في 23/9/1958، حتى سارع إلى مكافأة الإخوة المريميين على جهودهم في المجال التربوي، فمنحني كمدير لمدرسة فرير جونية وسام الأرز وعلّقه على صدري في احتفال في هذه المدرسة حضره شخصيّاً. (وقد عُرف عن الرئيس شهاب أنه كان ضنيناً بالأوسمة، ولا يمنحها إلا لمن تأكّد له تماماً أنه جدير بها!) وتوجّه شهاب إليّ قائلاً: “هذا الوسام هو لك ولكلّ الإخوة المريميين مكافأة لكم على تفانيكم في العمل من أجل لبنان، وتقديراً لحضوركم ومساهمتكم في تربية النشء اللبناني في مختلف المدن اللبنانية: صيدا، ودير والقمر، وزحلة، وجونية، وجبيل، والبترون، وعمشيت. ولا ننسى أن الإخوة المريميين عملوا من أجل كلّ اللبنانيين ومن كلّ الطوائف”.
*س: ومن تذكُر غيره من رجالات لبنان ممّن ارتبط اسمه بمدرستكم في جونية؟
لا أنسى هنا البطريرك الماروني نصرالله صفير. وكان أستاذاً لمادّة الترجمة في مدرستنا في جونية، يوم كنتُ مديراً لها. وأنا من عرّفه على البطريرك بولس المعوشي.
س: كيف حصل ذلك؟
البطريرك بولس المعوشي كان من قدامى تلامذتنا في دير القمر. هو من جزّين، لذا كان تلميذاً داخليّاً في دير القمر. وبقينا على علاقة وطيدة به. وعندما صار بطريركاً كنّا نزوره دوماً، وكان يستشيرنا في بعض الأمور. وذات يوم قال لنا البطريرك المعوشي إنه بحاجة إلى كاهن سكرتير له، وطلب منّا أن نساعده في الأمر. فحدّثته عن الخوري أنطون حدّاد وكان مدير الدروس العربية في مدرستنا في جونية، وعن صديقه وزميله الخوري نصرالله صفير أستاذ الترجمة في المدرسة. ووعدته بعرض الأمر على كلّ منهما. كان الخوري أنطون حدّاد خطيباً مفوّهاً وبليغاً، وله طموحات في الزعامة والشهرة. وعندما فاتحته بالموضوع أجاب مباشرة: “وهل تريد أن تدفنني في بكركي؟!” ونصحني أن أكلّم زميله العامل تحت إدارته أستاذاً للترجمة الخوري نصرالله صفير في الموضوع. ففعلتُ، ووافق الخوري صفير بطيبة خاطر أن يصير سكرتيراً للبطريرك المعوشي. وبقي سكرتيراً للبطريرك وكاتماً لأسراره مدّة عشرين عاماً. وكان كاتباً حاذقاً وبليغاً. ثمّ سيم أسقفاً، فبقي مطراناً ونائباً بطريركيّاً مدّة عشرين سنة أخرى حتى انتُخب بطريركاً.
*س: وهل بقيتَ على علاقة به؟
بالطبع، لم تنقطع صلتي به. وبقيتُ أزوره بعد أن انتُخب بطريركاً. فكان يرحّب بي دوماً أجمل ترحيب، وغالباً ما يقوم عن كرسيّه للترحيب، ولسان حاله كأنه يقول: “لك فضلٌ عليّ في وجودي هنا”.
*س: ماذا الآن عن جبيل مدرسة ومدينة تاريخية، وعلاقتك بهما؟
كنتُ منذ بداياتي شغفاً بالتاريخ والآثار، وكانت مدينة جبيل بآثارها وعراقتها التاريخية ما أبحث عنه. فعملتُ فيها مع العالِم الفرنسي والمسؤول عن حفريات جبيل موريس دونان طيلة أربعين عاماً 1935-1975. بحثتُ بجدّ في تاريخها، وشاركتُ في أعمال التنقيب، فصرتُ أعرف معالمها التاريخية والأثرية حجراً حجراً. وساعدتُ دونان في تأليف كتابه عن جبيل. وواصلتُ اهتمامي بتاريخ جبيل وآثارها ومعالمها عندما تولّيتُ رئاسة مدرستنا فيها 1980-1988. وكنت آخذ التلاميذ صفّاً بعد صفّ لأعرّفهم على قلعة جبيل وسائر آثارها معرفة ميدانية. كما عملتُ مع عدد من الباحثين وطلّاب الدكتوراه الذين درسوا آثار جبيل وتاريخها. وقد أُغرمتُ حقّاً بهذه المدينة وتعلّقتُ بها، حتى صارت مدينتي. وبعد أن تقاعدتُ من رئاسة المدرسة وإدارتها آثرتُ أن أبقى في جبيل. وها أنا لا أزال مقيماً فيها دون انقطاع منذ 38 عاماً، ولا أزال على حبّي لها، وشغفي بتاريخها ومعالمها. وقد عملتُ مسؤولاً متطوّعاً في مؤسّسة لويس قرداحي التي تعنى بتاريخ هذه المدينة والحفاظ على معالمها.
*س: ماذا عن طبيعة عملك في مؤسّسة لويس قرداحي وعلاقتك بأصحابها؟
المهندس والمقاول لويس قرداحي من قدامى تلامذتنا في جبيل 1946. وكما سبق وذكرتُ فهو من تعهّد بناء مدرستنا في رميلة/صيدا، وقد عملتُ معه يومها، وتابعتُ مراحل البناء، فجاءت مدرسة حديثة وعلى أفخم طراز.
والمهندس لويس قرداحي صديقٌ مقرّبٌ ومحبوب. أحبّ وطنه، وشُغف بمدينته جبيل، وضحّى من أجل سكّانها. وسعى في عهد الرئيس الأمير والجنرال فؤاد شهاب إلى تأسيس ثانوية رسمية في جبيل، ووضع بتصرّف الدولة اللبنانية مبنى كبيراً لهذا الغرض. وتجاوب الرئيس شهاب مع مسعاه فكانت ثانويّة جبيل الرسمية وهي جارة مدرستنا أي مدرسة فرير جبيل. وكانت وفاة المهندس لويس قرداحي المبكرة 1985 خسارة كُبرى ومؤلمة. وقد أحبّت زوجته السيدة منى وابنته السيدة سوزي حبيش وابنه الوزير جان لوي قرداحي أن يخلّدوا ذكراه بإنشاء مؤسّسة تحمل اسمه، وتعنى بجمع كلّ التحف والوثائق والكتب التي تتعلّق بجبيل وتاريخها، وتضمّ مركز أبحاثٍ ومكتبة ضخمةً وصالاتِ عرضٍ للآثار والأواني والتماثيل والمنحوتات المكتشفة في هذه المدينة العريقة. أمّا في ما يخصّني، فقد كنتُ مسؤولاً متطوّعاً عن شؤون المكتبة، ومستشاراً أُدير بعض الأبحاث وأوجّهها، وأتواصل مع المكتبات ودور النشر المحلّية والعالمية والجامعات اللبنانية وأتّصل بالمفكّرين والمؤلّفين والرسميين وغيرهم. واستمرّيتُ في عملي هذا عشر سنوات 1995-2005 كنتُ أشعر خلالها بالحيويّة والنشاط والسعادة رغم تقدّمي في السنّ. وذلك لشغفي بالآثار والتاريخ ومدينة جبيل، ولمحبّتي لعائلة لويس قرداحي التي قدّمت الكثير لهذه المدينة. ولم أتوقّف عن عملي هذا إلا عندما استلمَتْ الجامعة اللبنانية الأميركية LAU مسؤولية إدارة هذه المؤسّسة.
*س: أخ أندريه: ما سرّ عافيتك الدائمة، وتوقّد ذهنك، رغم أنّك عبرت قرناً كاملاً من الزمن وعمرك جاوز المائة؟
بعد أن مرّ عليّ أكثر من مئة عامٍ وأنا أعيشُ على هذا الكوكب، أستطيع أن أقولَ إن حياة الأخ الذي يكرّس نفسه لتربية النشء وتعليمه تعلّمه التواضع. ورغم أنها روتينيّة في جانبٍ من جوانبها، فهي حيويّة ومتجدّدة بتجدّد التلامذة كلّ سنة. واكتشاف المتفوّقين منهم يُضفي على حياتنا سعادةً ومرحاً لا سيما عندما نكون شهوداً على تفوّقهم.
ولأنّني أعمل باستمرار وأواظب على القراءة وكتابة المذكّرات والملاحظات، فلذلك لا يهدّدني مرض الألزهايمر الذي يصيب أكثر من هم بعمري أو في عمر أدنى. فالفكر اليَقِظ والذهن الذي يعمل باستمرار هما خير واقٍ من هذا المرض.
*س: أين رهبنة الإخوة المريميين ومدارسها في لبنان والعالم اليوم ممّا كانت عليه بالأمس؟
شهد عدد الإخوة المريميين تناقصاً تدريجيّاً منذ الثمانينات. وقد يكون زمن الرهبان الإخوة والمدارس التي تعجّ بهم، كما كانت حال مدرستنا في جونية، قد ولّى. ولعلّ يومنا هذا هو زمن العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والمجتمع. لذا فنحن نفسح لهم المجال لتولّي كبرى المسؤوليّات في مدارسنا كما هي الحال اليوم في مدرستيّ جبيل وشان فيل. وقد أثبتوا جدارتهم وقدرتهم على حُسن الإدارة والمضيّ قُدُماً في الرسالة التربوية التي بدأها الإخوة الرهبان.
*س: أين لبنان اليوم من لبنان الذي عرفتَ؟!
تبدّلت المجتمعات بتطوّر الحضارة وتقدّم التكنولوجيا الحديثة. وهذا عامل أساسيّ لتغيّر وجه لبنان وملامحه. ولكنّني ما زلتُ أرى لبنان جميلاً كما كان، وما زلتُ مغرماً به كما كنتُ في اليوم الأول من وصولي إليه.
*س: وماذا عن اللبنانيين؟
اللبنانيّون أذكياء، لكنّهم غالباً ما لا يحسنون استخدام ذكائهم في بلدهم ولخيره! وآفتهم الرئيسة أنهم فوضويّون. هم يحبّون لبنان، بيد أنهم لا يتّفقون في مابينهم حتى على الأمور الأساسية، فيكاد حبّهم هذا يذهب أدراج الرياح. وهذا لا يعني أن لبنان يفتقد إلى كبارٍ في الفكر والفنّ والعمل الوطني. فرجالات مثل الجنرال فؤاد شهاب، وصديقي ورفيقي الفنّان جوزيف مطر أمثلة بيّنة على ما أقول.
واستكمالاً للوحة التي نرسمها عن الأخ أندريه طلبنا من صديقه ورفيقه الدائم الفنّان الدكتور جوزيف مطر، أن يروي لنا أبرز ذكرياته عنه، فقال:
التقيتُ الأخ أندريه للمرّة الأولى سنة 1952، وكان عائداً لتوّه من فرنسا. أما أنا فكنتُ تلميذاً في المرحلة الثانوية في فرير جونية. كنّا نراه من بعيد، وكان نائباً لمدير المدرسة، وأستاذ الفلسفة والأدب الفرنسي في الصفوف العليا. وقد أحبّه التلامذة لبراعته في التعليم وأسلوبه المميّز في نقل المعرفة. وكان هو ناظر المدرسة والمسؤول عن فرض الانضباط وتعميم النظام واحترامه. وممّا كان يقوم به في هذا الصدد مروره الدوري والمتكرّر في المماشي بمحاذاة الصفوف لضبط النظام فيها، ولا سيما في صفّ أبونا صفير أستاذ الترجمة. فما أن يراه التلامذة عبر النافذة حتى يسود الهدوء من جديد.
وكان الأخ أندريه روح المدرسة ويضحّي بالغالي والرخيص في خدمة التلامذة.
وبعد تخصّصي في الرسم اكتشفتُ في الأخ أندريه ناقداً فنّياً مميّزاً: كان يحلّل لوحاتي ويشرحها، ويبدي ملاحظات مفيدة بشأنها. وشيئاً فشيئاً غدا أبرز الحاضرين في حياتي الفنّية: يتابع معارضي، وسائر نشاطاتي الفنّية، ويقيّم لوحاتي، ويكتب في الصحافة مقالاتٍ طويلة وقيّمة عنها، ويوقّعها باسمه الأصلي قبل أن يترهّب. فكان الناس يسألونني: من هو جان دو لالاند هذا الذي يكتب عنك؟ وهكذا صار الأخ أندريه سَنَدي الأول في مسيرتي الفنّية. وكنّا نزور سويّة كبار الفنّانين في لبنان: عمر الأنسي وزوجته في ميروبا وبيروت. وكانا يصغيان بشغف واهتمام إلى آرائه في الفنّ والحياة، ويبادلانه الزيارة فيأتيان أسبوعياً “لأخذ البركة” من هذا الراهب المسيحيّ المثقّف والمنفتح. كما كان لي خير معين عندما كنتُ أعدّ أطروحة الدكتوراه في الفنّ في جامعة السوربون/باريس. لذا كنتُ ولا أزال أدعوه تحبّباً “أستاذي المشرف” Mon Patron. وعلمتُ أنه ساعد العديد من قدامى التلامذة في دراساتهم العليا وتحضير أطاريح الدكتوراه.
والحديث عن الأخ أندريه يطول، وقد لا ينتهي، فهو موسوعة متنقّلة، وعبقري مبدع، ويتنفّس حبّاً وخيراً وكرماً، والابتسامة لا تفارق ثغره. وهو يستحقّ كلّ تقدير على جهوده في خدمة جبيل ولبنان وأبنائه.
الأخ أندريه الذي عرفتُ
عرفتُ الأخ أندريه دو لالاند عن طريقين:
1-كنتُ أولاً من قدامى تلامذة الفرير 1968-1977، ولم تنقطع صلتي بالمدرسة بعد أن غادرتها. فالتنشئة التي حصلتُ عليها فيها طبعت سيرتي ومسيرتي. فكنتُ أتردّد دوماً على مدرسة الفرير لا سيما وأنّني أسكن في حيّها.
2-وثانياً كان عمّي الخوري فرنسيس صليبا كاهن المدرسة، وهو مَن يقيم الذبيحة الإلهية في كنيستها صبيحة كلّ يوم. وكان المؤمنون يتقاطرون لحضور القدّاس أيّام الآحاد والأعياد بالمئات. وكنتُ الخادم الدائم لقدّاساته وشمّاسه الأمين: أحضّر له في السكرستيّا ما يحتاج من ثيابٍ وأدواتٍ طقسية وغيرها، وأشارك في صلوات الإخوة المريميين بعد القدّاس ما أتاح لي الفرصة لتوطيد علاقتي بالأخ أندريه الرئيس الجديد للمدرسة، ولم أكن أعرفه قبل أن ينتقل إلى جبيل 1980.
وكانت مدرسة الفرير/جبيل في زمن رئاسته المركز الثقافي والرياضي شبه الوحيد في المدينة. وهنا أذكر له في هذا الصدد مأثرتين لم أكن مجرّد شاهد عيانٍ عليهما وحسب، بل ومشارك فاعل في الحدث كذلك.
الأولى نادي بيبلوس الرياضي، والذي تأسّس سنة 1981. وكنتُ منذ تأسيسه عضواً فيه. ثمّ انتُخبتُ عضواً في الهيئة الإدارية، ومسؤولاً عن النشاطات الثقافية. ومنذ الانطلاقة الأولى فتح الأخ أندريه أبواب مدرسة الفرير على مصراعَيها للنادي وأعضائه ونشاطاته. وكانت هذه المدرسة مركز النادي الوحيد، وفيها نعقد اجتماعاتنا في الهيئتين الإدارية والعامّة واللجان المتفرّعة عنهما. وعلى ملاعبها تتمّ التدريبات الرياضيّة: كرة الطائرة، وكرة السلّة، وكرة الطاولة وغيرها… وعلى هذه الملاعب ومدارجها يُقام المهرجان السنويّ للنادي صيف كلّ سنة، فيستقبل الفرق من مختلف المناطق اللبنانية وتقام المباريات الرياضيّة الحافلة بالمنافسة. وكان الأخ أندريه يتابع نشاطات النادي باهتمام ويشجّعنا على المضيّ قُدماً في زمن حرب ضروس لم تكن النشاطات الثقافية والرياضية فيه من الأولويّات!
وبقيَت مدرسة الفرير/جبيل مركز النادي الوحيد ومقرّ نشاطاته الرياضية طيلة رئاسة الأخ أندريه عليها 1980-1988. وإذا كان نادي بيبلوس الرياضي قد صُنّف اليوم نادٍ درجة أولى في كرة السلّة، فللأخ أندريه سهم في ذلك وفضلٌ عليه.
والمأثرة الثانية كنتُ كذلك شريكاً فاعلاً فيها. وتكمن في تعليم اليوغا ونشرها وتعليم التأمل التجاوزيّ في جبيل 1983-1985.
كنّا نبحث عن مكان نتعلّم فيه اليوغا والتأمل التجاوزي. وكنتُ على علاقة جيّدة بالأخ أندريه كما أسلفتُ. فقصدتُه في نيسان 1983 وعرضتُ عليه الموضوع والمشروع، ففاق جوابه الإيجابيّ وتجاوبه السريع كلّ توقّعاتي! أهلاً بك قال لي وأنت من قدامى التلامذة وعمّك صديق عزيز، والمدرسة بتصرّفكم. وائتمنني على عددٍ من الصفوف تعلّمنا فيها التأمل التجاوزي. أما الأستاذ المعلّم فكان الطبيب الدكتور أنطوان أبو ناضر، وهو اليوم الرئيس العالمي لحركة التأمل التجاوزي التي أسّسها الحكيم الهندي مهاريشي ماهش يوغي 1953.
ووضع الأخ أندريه بتصرّفنا كذلك قاعة محاضراتٍ كنّا ننظّم فيها محاضرات تعريفيّة بالتأمل التجاوزي واليوغا، ويحضرها المئات من المهتمّين. كان ذلك في ذروة استعار الحرب اللبنانية 1983-1985. فأثار تحرّكنا ونشاطنا الجماهيري هذا حفيظة الميليشيات وقوى الأمر الواقع التي كانت تنظر بعين الريبة إلى كلّ نشاط لا يتمّ تحت رعايتها وبعلمها ورضاها المسبقَين، وتوجس منه خيفة.
ولم تفلح كل الضغوطات التي تعرّض لها الأخ أندريه في ثنيه عن وضع مدرسته بتصرّفنا. ولا أنسى اجتماعاً لنا به قبل إحدى المحاضرات الكبرى، أذ جاءنا، وكنتُ بصحبة المحاضر المرجع في اليوغا والدراسات السنسكريتية الأستاذ روبير كفوري، وأخبرنا أن ثمّة من جاءه طالباً منعنا من استخدام مدرسة الفرير للمحاضرات وتعليم اليوغا والتأمل، ومن بين هؤلاء ذكر لنا الأب دانيال أنج الفرنسي. ويبدو أن كلّ هؤلاء لم يفلحوا بإقناع الأخ أندريه المتفهّم لطبيعة نشاطاتنا وصاحب الفكر المنفتح. وهذا الموقف الجريء بحدّ ذاته مأثرة له، فقد أدار المدرسة في أحلك ظروف الحرب بحكمة وحنكة وشجاعة.
وواصلنا نشاطنا بجدّ وحماس. وبلغ عدد الذين تعلّموا اليوغا والتأمّل في مدرسة الفرير/جبيل نحو مئة شخص من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية والطوائف. أما المحاضرات العامّة فكانت تتمّ بوتيرة مرّة كلّ شهر أو شهرين تقريباً. في حين كانت الدروس المعطاة تتوالى أسبوعيّاً. بيد أن كرة الثلج هذه أخافت قوى الأمر الواقع، فأرسلت ذات ليلة ليلاء عدداً من المسلّحين أجبرونا على مغادرة مدرسة الفرير والتوقّف عن التعليم فيها! ولم نشأ أن نزعج الأخ أندريه بهذا الخبر السيّئ ولعلّه إلى اليوم لا يعلم ما حدث ليلة ذاك!
وإذ أذكر اليوم هذه الأحداث، وأستعيد مشهد الحدث الأخير المؤسف، لا أملك إلا أن أسجّل للأخ أندريه بادرته الكريمة وجرأته وشجاعته في استضافتنا وحمايتنا في أحلك ظروف الحرب البشعة. وهذا لوحده دليلٌ على انفتاحه وحبّه للنشاط الفكري والثقافي والرياضي ودعمه له بكلّ ما أوتي من إمكانات، ومن دون أي مقابل.
خاتمة
والخلاصة، فالأخ أندريه دو لالاند عمل للبنان وللبنانيين ما لم يعمله اللبنانيّون أنفسهم لبلدهم! علّم أجيالاً في مختلف المناطق والمدن اللبنانية ومن فئات وطوائف شتّى، وكان لهم منارةً ومرشداً أميناً. عاش سحابة عمر طويل في لبنان، ولم يتركه والحرب مستعرة فيه كما فعل الكثيرون من أبنائه. وكما عاش فيه، فقد أراد فيه أن يموت ويوارى الثرى، فهو بعُرْفه وطنه البديل! وعَرف تاريخ هذا الوطن الصغير عن كثبٍ، وعلّمه لأبنائه كما علّمهم حبّه والبذل في سبيله. وإذ جاوز اليوم عتبة المائة عام من العمر وهو لا يزال يحتفظ بعافيته وبكامل قواه العقلية والفكرية فحقٌّ له علينا بذكرٍ دائم حميد… وأمنية بعمر مديد. فهو معلّم كبير، ومَعْلَمٌ من كبار معالم وطننا.