أ. د. لويس صليبا _ كلمة في أربعين هند الزيلع (مدرسة فرير جبيل 26/12/2018)

 

نحو عَقدين من الزمن أمضتْهُما في لباسِ الحداد على شقيقها لويس الزيلع الشابِّ البهيّ الطلعة الذي قضى بحادثِ سيّارةٍ أليم، وتركَه مَن صَدمه ينزفُ دمَه طيلةَ الليلِ حتى مات!

وما أن بدأَ الأسودُ يتحوّلُ إلى رماديّ حتى نكبها الدهرُ الغدّار بمقتلِ شقيقها الثاني سعدالله 1978 على أيدي مجرمين نهبوا شاحنَتَه وصرعوه قبل منبزَغِ الفجر عند نفقِ شكّا.

حمّلتني اسمَ شقيقِها الحبيب القتيل لويس لتنقلَ إلى كائنٍ كانت تحملُه في أحشائها يوم مقتله، حبَّها الجارف، علّها بهذا الحبّ المتحوِّل تلقى بعض عزاء !

وكانت تحفظُ عن ظَهر قلب الأشعارَ والأغاني التي كان ينشدُها فقيدُها الحبيب، فتغنّيها لي بصوتِها الشجي، فتحملُني، وأنا طفلٌ يحبو، إلى عالمٍ آخر يختلطُ فيه الحبّ بالأسى ويتوّجُهما الإبداع.

أنا الزير بو ليلى المهلهل          وقلب الزير قاسي ما يلينا

وهل أنسى أغنيتَها الفيروزية المفضّلة، وكم كنتُ أطربُ لسماعِها بصوتِها العذبِ الحنون:

بكوخنا يا بني بهالكوخ الفقير

والتلج ما خلّى ولا عودة حطب

والريح عم تصفر فوق منّو صفير

وتخزّق بهالليل منجيرة قصب

وكان كلامُها مرصّعاً، في الغالب، بالأمثال اللبنانية التي كانت تحفظُها عن ظهر قلب. فإذا تلكّأتُ مرّة عن عمل ما تطلبُه متذرّعاً بالقول: احسبيني غائباً أو مسافراً، كانت تجيبني على الفور: “ما غايب إلا واستغنينا عنّو ولا حاضر إلا واعتزناه”. إذ كانت أستاذةً في العَمَلانية وسرعةِ البديهة في آن. سئلتُ يوماً في امتحان في صف البريفيه ما معنى سَربَل، وحرتُ في الجواب، وبعد أيام سمعتُها تقول لي: يامّي بتسربلّي إيديّي”. فبادرتُها: ليتك قلتِها لي قبلَ الامتحان. وأطرقتُ متفكّراً وقائلاً في نفسي: كنتُ أحسبُني ضليعاً بالعربية، وها إنّني اتحقّق أنّني لمّا أزل دون مستوى أمّي فيها.

هندوما أورثتني من اسمها حبَّ الهند، فصرتُ مستهنداً، كما كنتُ ابن هند، وهي التسمية التي كان يحلو لكثيرين أن ينادونني بها. صرتُ مستهنداً ومحبّاً لهذا اللقب لأن فيه اسمَ أمّي وبعضاً من عطرها. وكم كانت تغارُ من هذا البلد وتخشى أن يخطِفَ منها وحيدُها فتطولُ إقامته فيه! بدّي غيّر اسمي بلكي بخلص من هالمصيبة، كانت تقول لي أحياناً غاضبةً من إقامتي الطويلة في الهند، أو من المُسحة الهندويّة في فكري وأدبِ حياتي.

يوم خُطفتُ في أيلول 1989، وبقيتُ نحو شهر تحت الأرض ومجهولَ المصير إبيضّ ما في رأسها من شعرٍ أسود، وأصابَها داءُ السكّري ذاك المرضُ الصامت الذي نخرَ الجسد حتى العظم، وكاد يقطع أصابع قدمها. “بدّي روح عالقبر وجسمي كامل مش ناقصو شي” كانت تقول وتردّد سنة 2008 يوم أُدخلَتْ المشفى لمعالجةِ عُقر القدم، وأُنقذَتِ الأصابعُ بعد عمليةٍ وعذابٍ وأوجاعٍ دامت أشهراً.

يوم توفّي عمّي الخوري فرنسيس صليبا في أيار 1996، كنتُ في باريس أعملُ وأتابعُ البحثَ الأكاديميّ. ومنعتني الظروفُ وطبيعةُ العمل والإجراءات الحكومية من المجيء إلى لبنان للمشاركة في تشييعه ودفنِه. وعندما جئتُ قبل الأربعين بادرتني بالقول: أهكذا عندما أموت ستكونُ أيضاً غائباً!؟ وكلّ ما أطلبه أن تقفَ يوماً على حائط الكنيسة لتصافح المعزّين!” وكانت هذه الكلمات الملتهبة هي ما جعلني أعودُ إلى لبنان لأبدأ فيه حياتي من جديد، بعد أن كنتُ قد استقرّيتُ في باريس، وكانت الهجرةُ هي الخيار!

ويوم توفّي والدي طانيوس صليبا في 25أيار 2013 فجراً بالسكتة القلبية ولم أرَ منه سوى جثّة هامدة، كان جلُّ أمنيتي أن يتاحَ لي أن أرافق كامل مسارها قبل أن تُسلِمَ الروح! ولعلّها أحسّت في أعماقها بما أتمنّى أو بالحري لعلّها شاركتني الأمنية كما اعتادت دوماً أن تفعل. ففي صراعِها الأخير، وكأنها بحبّ الأم الأسطوري، لم تشأ أن تعطّلَ ما أتيحَ لي من فُرَص مهمّة: وقعَتْ قبل موعد ندوةٍ مهمّة عن أحد كتبي، ولم تُعطّل الندوة. ثم أُجريت لها عمليّةٌ جراحية قبل يومٍ من سفري إلى مؤتمر دُولي في حوار الأديان في تونس، وكنتُ فيه المشاركَ الوحيد من لبنان والمشرق العربي. سافرتُ الخميس (28/11/2018) مطمئنّاً إذ عاينتُها قبل يومٍ تخرجُ من غرفة العمليّات وهي بحالٍ جيّدة. وكأنها لم تشأ أن تلفُظَ النفسَ الأخير قبل أن تراني. فعدتُ الأحد (2/12/2018). وتناولنا الغداء معاً في غرفتِها. وتركتُها لأرتاحَ قليلاً من أتعابِ السفر، لأُوقَظ بعدها من نومي وأسارعَ إلى غرفتها فأراها وهي في صراعٍ مع الموت. نظرتُ إليها، فكانت تنظرُ إليّ، وتحرّكُ يدَها وكأنها تتمسّكُ بالحياة، أو أنها تُبلِغني الوصيّةَ الأخيرة… مشهدٌ لم أعاين ما يضارعُه أثراً في حياتي: أمّي تحت ناظريّ في صراعٍ مريرٍ بين الحياة والموت! وتعزيَتي الوحيدة أنّني رافقتُها مع شقيقتيّ جوهرة وشمس حتى الرمقِ الأخير.

وفي اليوم التالي كانت كلماتُها القديمة ترنّ في البال تزامناً مع جرسِ الكنيسةِ الحزين! وأوّلها تلك المقطوعة الجبرانية التي استظهرَتْها من تلاوةِ أخيها لويس المتكرّرة على مسامعها: كلماتٌ تختصر فلسفتَها في الوجود، وسيرةَ حياتِها:

رحماكِ يا نفسُ رحماكِ حتى مَ تنوحين يا نفسي وأنتِ عالمةٌ بضُعفي!

أنكرَتْ هندُ الزيلع ذاتَها، وعاشت في تكرّسٍ لأسرتِها لا يكلّ ولا يملّ، وهي تردّد كلماتِ جبران التي حفظتها عن ظهر قلب: “لقد أنكرتُ يا نفسُ ذاتي، وتركتُ ملاذّ حياتي، وغادرتُ مجدَ عمري، ولم يبق لي سواكِ، فاقضي عليّ بالعدل، أو استدعي الموتَ واعتُقي من الأسر معنّاكِ.”

أنكرت ذاتها، وهي التي نشأت منذ الصِغر يتيمةَ الأمّ، تحاول أن تذكُر لأمّها جوهرة وجهاً أو صورة، فلا تستطيع. فنقلَت اسم أمّها هذا إلى ابنتها البكر علّها تجدُ في التسمية هذه بعضاً من تعويضٍ عن يُتم مبكر. وسعت دائماً أن تُفعم أولادَها، وسائرَ أحبّائها، بحنان الأمّ الذي طالما افتقدتْه. والحبُّ الكبير هذا الذي حمِلتْه في قلبها جعل جسدَها النحيل ينوءُ من ثِقَله: “رحماكِ يا نفسُ! فقد حمّلتِني من الحبّ ما لا أطيقُه: أنت والحبُّ قوّةٌ متّحدة، وأنا والمادّة ضُعفٌ متفرّق، وهل يطولُ عراكٌ بين قويّ وضعيف!”.

أما السعادة فهي عندَها حَسْرةٌ متواصلة، وتنهيدةٌ لا تنقطع: “رحماكِ يا نفسُ! أنت والسعادةُ على جبلٍ عالٍ، وأنا والشقاء في أعماق الوادي، وهل يتمّ لقاءٌ بين علوّ ووطوءة؟!

وتبقى الكلمةُ المفتاح تختصرُ مسارَ حياتِها الطويل والذي نخالُه اليوم مضى كومضةِ عين: “أنتِ يا نفسُ تفرحين بالآخرة قبل مجيء الآخرة، وهذا الجسد يشقى بالحياة، وهو في الحياة”.(جبران، جبران خليل، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران العربية، تقديم ميخائيل نعيمه، بيروت، دار صادر، ط1، 1949، ص269).

لقد أحبّتْ أنشودةَ جبران النثرية هذه وحفِظتْها وردّدتْها. بل أكثر من ذلك فقد جسّدَتْها في حياتها، وكانت مرآةً تعكسُ هذه الرؤيا الشاحبة. وعاشَت جدليةَ هذا الصراع بين الجرأةِ والخوف، والقوّةِ والضعف، والإيمانِ والشكّ، والسعادةِ والشقاء، وبكلمة بين الحياة والموت، حتى الرمقِ الأخير.

سُئل كبيرُ متصوّفي الإسلام أبو يزيد البسطامي يوماً: بما بلغتَ ما بلغت؟ فأجاب: أنتم تقولون ما تقولون، وإنما أرى ذلك من رضا الأمّ! (السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، تحقيق عبدالرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط3، 1978، ص93)

ولستُ أدّعي أي شبهٍ بمعلّمي الجليل هذا. ولكنّني ببساطةٍ ساذِجةٍ أقول: في مسيرتي الفكرية والعملية، منذ البدايات وحتى اليوم، عثراتٌ وعقباتٌ كثيرة، ونجاحاتٌ قليلة! فالعثراتُ، وما أكثرها، من ضَعفي وحَبْوي. أما النجاحات، وما أقلُّها، فبفضل بركاتِ أمّي وإمساكها الدائم بيدي عندما أحبو. فألفُ سلامٍ على طيفها الذي لمّا يزل لي الرفيقَ الأمين، وسيبقى حتى نهاية المشوار. وباسمي وباسم شقيقتيّ جوهرة وشمس وزوجِها الدكتور وليد بشارة وعائلتيّ الزيلع وصليبا أشكرُكم جمعياً على هذه المشاركة في إحياء ذكراها.

شاهد أيضاً

Notizen aus einer Videokonferenz von Lwiis Saliba über Zoom, Mai 2024, Thema Alzheimer und seine Prävention.

Notizen aus einer Videokonferenz von Lwiis Saliba über Zoom, Mai 2024, Thema Alzheimer und seine …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *