أخي وجيه، أيها الحاضرون الكرام
أجئنا اليوم لنستذكرَ امرأةً فاضلة غابت، أم لنُحيي حضورَها الدائمِ بيننا؟! وهل تموتُ أمٌّ عاشت كريمة، وأنجبت كراماً، وأحبّت أرضها حتى كانت صورةً عنها تجسّدُ حبَّها وكرمَها الدائم؟!
أذكرُها وطلّتُها لا تُنتسى، وبشاشتُها تمحو الهمّ عن القلب، وكرمُها القرويّ الفطري يعيدُك إلى عالمِ الضيعة اللبنانية التي أحببنا جميعاً، وهي حضارةٌ في طريقِها إلى الزوال!
ولا يُذكرُ كرم هذه المرأة الفاضلة، إلا ويقرنُ بإيمانها، وهي بإيمانها سنديانةٌ من سنديانات حصارات العتيقة: جذورُها تحفرُ عميقاً في الأرض، وأغصانُها تعانقُ السماء. وبأي احترامٍ ووقار وحبّ بنويّ كانت تحيّي كاهن الضيعة عمّي الخوري فرنسيس صليبا وتُكرم وفادَتَه.
أخي وجيه:
جئنا اليوم نشاطرُك آلامَك وحزنَك على أمّ هي بمثابةِ أمّ لنا جميعاً. أمٌّ كأمّنا الأرض، وقد عادت اليوم إلى حضنها، واختلطت جوارحُها بترابِها، فتوحّدت بها ميتة، كما كانت واحدةً معها حيّة. وإذ فقدتَ اليوم أمّك نعلمُ علم اليقين كم تعني لك أمُّك الثانية التي لا تموت. ونعرفُ كم في تعلّقِك بأمّك الأرض، أرض هذه البلدة الطيّبة من نبلٍ وعمقٍ ومعانٍ وعٍبَرٍ سامية. تغرّبتَ ردحاً طويلاً من الزمن، ولا زلتَ ولا زلنا كلّما لقيناك نرى فيك ابن هذه الأرض وهذه القرية. وكأن الغُربة، على بعدِها وقساوتِها، ما غيّرت من طينتك شيئاً! أوليس هذا بفضلِ الأمّ وبركتِها، وقد جبلتْكَ من تربةِ هذه الأرض، وأرضعَتْك حبّاً لها وقيَماً لمّا تخُن عهدَك لها ونعرفُ أنك لن تخون…
أنت يا وجيه لم تنسَ حصارات حتى في زحمة عملك ومسؤولياتك الجسيمة في هارفارد وحسب، بل أنشأتَ في بوسطن حصارات أخرى عمادُها من استقدمتَ إلى هذه المدينة الأميركية الكبرى من إخوتك وأقربائك.
وهل تُذكَرُ أمّ وجيه (هدى بولس 10/9/1944-25/2/2018) هذه المرأة الطيّبة، إلا وتفوحُ بذكرها ذكرى من عاشت سحابة ربع قرنٍ ونيّف تبكي غيابَه القسري المأساوي المفاجئ، وقد عصفت المنيّةُ به، كما تعصفُ الريحُ العاتية بوردةٍ فتكسرُها، ويبقى عطرُها يفوح!
نزيه يزبك (1936-11/11/1990) المربّي ومديرُ المدرسة، وأستاذُ العربية رحيلُه المبكر المفاجئ كسرَ الخواطر. وفي ذلك يقول أخوه الشاعر نعيم:
وربيعُ الأجيالِ أمسى خريفاً مذ توارى نزيهُنا المحبوبُ
ما كان نزيه يزبك يكتفي بما في الكتب المدرسية لتعليمنا العربية نحواً وأدباً. بل كان يضيفُ إلى كلّ ذلك ما استذوقَ وأحبّ من قصائدَ ونصوص، ويشاركنا نحن التلامذة الطرييّ العود متعة تذوّقها، ونقدِها أيضاً. وأذكرُ له يوم أنشدنا، ومن الذاكرة، قصيدةَ أزرار لنزار قبّاني وتلاها بتحليلٍ نقديّ ثاقبٍ لبنيتها ومضونها الشعري، مبيّناً حيث حلّق الشاعر وحيث حطّ، حيث ابتكر كمثل قوله فيها:
لي غرفةٌ في دروب الغيمِ عائمةٌ على شريطِ ندى تطفو وتنزلقُ
وحيث أسفّ، ولم يوفّق كمثل قوله في ختام قصيدته:
اليوم بضعةُ أزرارٍ تعقبها أخرى وفي كلّ عامٍ يطلع الورقُ
(قبّاني، نزار، الأعمال الشعرية الكاملة 1، ديوان طفولة نهد، بيروت، منشورات نزار قبّاني، ط1، ص94).
فكانت نظرته النقدية هذه حافزاً لي ودليلاً لمقاربة أخرى للأدب والنصوص لا تنخدعُ بالأسماء الوهّاجة، بل تنقّب عن كلّ غثّ وثمين في كلّ نصّ.
وكان نزيه الأستاذ ومعلّم العربية يُخرجُ لنا من جعبتِه وذاكرتِه الشعرية التي لا تفرغ نفائسَ الشعراء القدامى والمحدَثين، فكان حقاً كذاك المعلّم الذي تحدّث عنه الناصريّ في إنجيله: {يشبه ربّ بيتٍ يُخرج من كنزه الجديد والقديم} (متى13/52).
وكان كريماً في عطائه وفي وفائه ومع معارفه وأصدقائه، وما ذكر عمّي الخوري فرنسيس صليبا صديقَه الحبيب النزيه، حيّاً، وميتاً، إلا وقرنه بنعت الأستاذ الكريم، وحسبه هذا اللقب.
نزيه يزبك، بكلمة موجزة، من خامة أساتذةٍ ومعلّمين نفتقدُها اليوم، ولا نرى زمنَنا هذا يجودُ دوماً بأمثالِها!
ومثلُه، بل بالأحرى مثاله أخوه البكر الشاعر والمعلّم نعيم يزبك (1919-14/8/2006)، فما يُذكر الأول إلا ويقرن ذكرُه بذكر هذا الأخير.
أخي وجيه:
فرّقت طويلاً بيننا الأيّام، ويا طيبَه اليومَ ملتقى نستذكرُ فيه هذا الرعيلَ المبارك الذي مضى، فيفوحُ في أجوائنا أريجُ أطيافهم، ونستشعرُ حضورَهم بيننا، وكأنهم ما غابوا، أو بالحريّ غابوا في الحضور. ويحضرُني إذ أذكرُ اليوم هاتيك الأيام الخوالي قولُ الشاعر النعيم:
والذكرياتُ إذا مرّ الزمانُ بها كالخمرِ إن عُتّقت تحلو لحاسيها
(يزبك، شعر، م. س، ص99).
أحبّاءٌ وأدباء وشعراء تحضنُ ترابات هذه القرية الطيّبة رفاتَهم: نزيه ونعيم يزبك، منى الحويّك الشاعرة والرسّامة المأسوف على شبابها، وغيرهم كثير ممّن فاتني ذكرُهم، أو لم تكن لي بهم معرفةٌ مباشَرة.
خفّف الوطء ما أظنّ أديم الـ أرضِ إلا من هذه الأجسادِ
يقول أبو العلاء المعرّي.
ويقول نعيم يزبك:
واخشعْ فإنّك في أرضٍ مقدّسةٍ طوَت عِظامَ عِظامٍ في مطاويها
(يزبك، شعر، م. س، ص97).
من هؤلاء تعلّمنا في أمسِنا، ومن ذكراهم ومآثرِهم واستحضارِها نتعلّمُ لغدنا، وكما يقول أستاذُنا نعيم: “لا يتعلّم الشعبُ أسرارَ مصيرِه، ويقدّرُها حقّ قدرِها، ولا يعرفُ قيمةَ تاريخِه وتراثِه إلا إذا ربطَ بين ماضيه وآتيه، وعملَ بجدّ على إحياء مشاعرِ الاحترام في نفسِه نحو أجدادِه، وأعمالِ أبطاله، ولا سيّما الأدباءِ منهُم ورجالِ الفكر”. (يزبك، أسد شيخاني، أدباء بلاد جبيل، م. س، ج2، ص133).
وختاماً تُعلّمُنا الأمّ كلّ شيء مفيد لحياتنا باستثناءِ أمرٍ واحد ألا وهو كيف نعيشُ من دونها وبعدَ فقدها. وهذا ما كُتب عليك اليوم يا أخي وجيه أن تتعلّمَه أنت وإخوتُك الكرام. فالمرءُ يولد طفلاً، وتمتدّ طفولتَه وتطولُ حتى يفقدَ أمَّه، فعندها يصيرُ رجلاً. ويقيني أن أمَّ وجيه قد خلّفت وراءها رجالاً. فعزاؤنا الحقيقيّ بكم، وألف سلام على روحها الطيّبة.