أحبّائي خبراء تقنية الحقل الموحّد:
ها هي السنة الرابعة والثمانون والتسعماية والألف تلملمُ أوراقها ودفاترها وتُغلق آخر صفحةٍ لها في كتاب الزمن لتركب قطاره السريع نحو اللانهاية.
وإذا كان لا بدّ لنا، عند هذا المحور المفصلي من عمر الزمن ولبنان، من وقفة تأملٍ وتفكير، فمن الواجب أن تكون هذه الوقفة على نحو ما يوصي به قداسة المعلّم مهاريشي ماهش يوغي: عارضة ما أنجزنا، وموجِّهة الفكر والانتباه نحو ما بقي علينا أن ننجز. وبذلك يكون ما تحقّق الخلفية المتينة والأساس لما يجب تحقيقه لاحقاً.
وبنظرة بانورامية سريعة إلى صفحات هذا العام المنصرم تطالعنا محطّاتٌ متلاحقةٌ من الانجازات، وهي علاوة على أنها الدعائم والأسس في مسيرة مؤسّسة الشرق الأوسط لعلم الذكاء الخلّاق، فهي في الحقيقة قمّة ومفترق في تاريخ الوطن وإنسانه.
مؤتمر صحفي يعرض مشروع سلام
افتتحنا السنة الراحلة هذه بمؤتمر صحفي في نقابة المحرّرين طرحنا الصوت فيه عالياً على الرأي العام شارحين المبادرة/المشروع التي كنّا قد سبق وعرضانها على المسؤولين كافّة دون أن نلقى أذناً صاغية! ولكن صوتنا في المؤتمر الصحفي المذكور ذهب أدراج الرياح في خضمّ الأصوات التي لا تعني شيئاً!
ووقع ما كنّا نخشاه، وما كان مشروعُنا يسعى أن يزيح كأسه المرّة عن الوطن، وغدا لبنان في شباط 1984 مشلّعاً ممزّقاً تتقاذفه أهواء أهل الداخل والدخلاء وأطماع أهل الخارج. وكقالب من الجبن صار، وكلّ طائفة أو فريق يحاول أن ينتزع لنفسه أكبر قطعة ممكنة. يومها كان أقصى طموح اللبناني لا يتعدّى، في أبعد شطحاته، العيش في ظلّ وضعٍ أقلّ تفجّراً، أكان ذلك في الوطن الواحد، أم في أجزاء مفتّتة منه لا فرق!
مؤتمر برمانا وآثاره الإيجابية
ووسطَ هذا التمزّق والانهيار المتسارع تنادى خبراء تقنية الحقل الموحّد، وبإشارةٍ ودعوة من قداسة المعلّم، إلى تنفيذ مشروعٍ مصغّرٍ عن المبادرة التي عُرضت في المؤتمر الصحفي، فقطعوا كلّ الحواجز والعوائق التي كانت تقطّع أوصال الوطن، وتجمّعوا في فندق الكريون/برمّانا في مؤتمر استمرّ من أول أذار 1984 وحتى السابع عشر منه. وكان لهذا المؤتمر أن يعكس مسيرة الأحداث من السالِب إلى الموجِب، ويوقف الانهيار، فتعلو لغة الحوار، ويخفتُ صخب المدافع ليتلاشى، ويُكبَح فلتان تصاعد سعر صرف الدولار، وينخفض عددُ القتلى والجرحى انخفاضاً واضحاً وملحوظاً. إلى ما هنالك من نتائج إيجابية يطول الشرح لو دخلنا في تفاصيلها! ونكتفي في سياق الحديث عن هذه النتائج المؤكّدة بالإشارة إلى أن أبحاثاً علمية دقيقة أجريَت بشأنها في جامعة MIT في الولايات المتّحدة على أيدي كبار الأخصّائيين في هذا المجال، وتولّى إدارتها الدكتور الباحث طوني أبو ناضر. وقد برهنت هذه البحوث العلميّة وبيّنت التأثير الإيجابي الفاعل لمؤتمر برمّانا في الأحداث التي زامنته.
وبكلمةٍ توجز وتكثّف ما سبق نقول: لم يكن هذا المؤتمر أهمّ إنجازٍ حقّقته مؤسّستنا عبر تاريخها في لبنان وحسب، بل ومنعطفاً رئيسيّاً في تاريخ وطننا بالذات. وسيعي المؤرّخون يوماً ما أهمّيته، وإن استمرّ الكثيرون في تجاهله الآن!
أكاديمية برمانا ودورها
بعد هذا المؤتمر اتّجه التفكير إلى تأمين مركزٍ دائم يمكّن من عقد مؤتمراتٍ كهذه، بالتزامن مع كلّ الظروف الصعبة من حياة الوطن. وأسفر هذا التوجّه عن استئجار أكاديميّة برمّانا رغم ما كان لهذه الخطوة من طابع المغامرة نظراً لضعف الإمكانات في مقابل تزايدٍ في الأعباء الإداريّة ولا سيما المادّية.
وخطت الأكاديمية خطواتِها الأولى بثباتٍ وقوّة في دربٍ متعرّجة وشائكة. وفي ظروفٍ تحمّل فيها المسؤوليّات والتبعات الواجبة لإدارة مركز كبيرٍ كهذا واستمراريّته شخصان أو ثلاثة لا أكثر، حقّقت الأكاديمية، في فترة الاختبار والتجربة التي مرّت بها، إنجازاتٍ مهمّة ومتقدّمةٍ إن على صعيد المؤتمرات المشابهة لمؤتمر برمّانا، أو الدروس والدورات التي نُظّمت فيها. فكانت ولا تزال بيت كلّ المعرفة التي أشعّ نورها وتأثيرها في كلّ المحيط.
وإذا كان لا بدّ لنا من ملاحظةٍ نسوقها في إطار الحديث عن الأكاديمية، فهي أن استمراريّتها في تأدية رسالتها البالغة الأهمّية والخطورة، يفرض ويتطلّب تضافر واتّحاد جهود خبراء وأساتذة تقنية الحقل الموحّد كافّة وعلى كلا الصعيدَين المادّي والإداريّ. ذلك أن هذا الدور مهدّدٌ بالتراجع والأفول إذا بقيَت أعباءُ المسؤوليّات والمهمّات فيها ملقاة على كاهل أشخاص لا يتعدّى عددهم الثلاثة أو الأربعة في أقصى الحالات.
مشاريع ومراكز أخرى في بيروت والمناطق
وفي جبيل لم تفلح كلّ قوى العتمة والاتجاهات السلبية في إطفاء شمعة عصر الاشراق التي أُشعلت هناك. بل وبعد سكون العاصفة، أعاد الخبراء الجبيليّون تنظيم صفوفهم وتحرّكهم ونشاطهم. وألّفوا هيئة إدارية لفرع المؤسّسة عندهم يعمل على تأمين استمراريّة الحركة والنشاط.
كما أن المؤسّسة استكملت التحضيرات لافتتاح مركز الأشرفية الجديد. وستُباشر الممارسة الجَماعية للتقنية فيه خلال أيّام.
أمّا بشأن مركز الصنائع فقد استمرّت نشاطاته، من تعليم وممارسة جماعية للتقنيّة، دون انقطاع على الرغم من الأوضاع الأمنية الصعبة التي سادت في كثير من الأحيان محيطه.
إنجازات إعلامية وتنظيمية
وعلى الصعيد الإعلامي نجحت المؤسّسة والمهتمّون بالإعلام فيها بتغطية نشاطاتها المختلفة. فلم يبقَ من وسيلة إعلامٍ، جريدة كانت أم مجلّة أو إذاعة أم تلفيزيون، إلا وتحدّثت، وإن لمرّة واحدة على الأقلّ، عن تقنيّة تجاوز التفكير خلال العام المنصرم، وعن نشاطات مؤسّسة الشرق الأوسط لعلم الذكاء الخلّاق ومشاريعها الهادفة إلى تحقيق السلام الداخلي الفردي وفي الوطن اللبناني ككلّ. ثمّ، وفي خطوةٍ لاحقة، عمدت المؤسّسة إلى الحدّ، وبصورة جذريّة، من دائرة التغطية لمشاريعها، مؤثِرة العمل في الفترة الحالية بصمتٍ، والتركيز على المستوى غير الظاهر فقط. كون ظروف المرحلة تتطلّب ذلك.
أما من ناحية وضع المؤسّسة القانوني والشرعي، فالمؤسّسة، كما تعلمون، مرخّص بها من وزارة الداخيلة بموجب علم وخبر يعود إلى عام 1974. وقد عمدنا هذه السنة إلى ترتيب وثائق وسجلّات المؤسّسة طبقاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء من ناحية، وإلى الاتّصال مجدّداً بوزارة الداخليّة من ناحية أخرى بهدف تنظيم وضعنا القانوي وتجديد الرخصة. ولا تزال أمامنا بعض الخطوات لاستكمال هذا الهدف.
مشاريع وطموحات مستقبلية
أيها الخبراء:
تلك لمحة موجزة استعرضت، وباختصار كلّي، أبرز الانجازات التي حقّقناها سويّاً هذا العام. بقي أن نستعرض، وبصورة أكثر سرعةٍ وإيجازٍ، أهمّ ما نطمح ونتطلّع إلى إنجازه في السنة المطلّة علينا، علّنا، وبمجرّد توجيه الفكر والانتباه إلى هذه التطلّعات، نعطها دفعةً قوّية نحو الإنجاز.
وفي طليعة ما نطمح إليه تأتي الرغبة في الانتقال من مرحلة الاستئجار وشَغل المباني بصورة مؤقّتة إلى مرحلة التملّك. وذلك انطلاقاً من مبدأ قداسة المعلّم مهاريشي ماهش يوغي الذي يشبّه الرجال والعاملين في الحركة العالمية لتقنية تجاوز التفكير بالفكر، في حين يشبّه المباني التي تتركّز فيها أجهزة الحركة ونشاطاتها بالجهاز العصبي. فكما يجب أن يكون الجهازُ العصبيّ ثابتاً ومستقرّاً وبتصرّف الفكر، كذلك علينا أن نجدَ مبانٍ ومراكزَ ثابتة لا متنقّلة، جاهزة ومجهّزة، لا بحاجة دائمة ومستمرّة إلى التجهيز. وتكون بصورة دائمة لا مؤقّتة موضوعة بتصرّف العاملين في حقل الذكاء الخلّاق.
وفي هذا الإطار نعمدُ إلى دراسة خياراتٍ معيّنة تهدف، وعلى المدى القريب، أن تكون للمؤسّسة أكاديمية تمتلكها ونستطيع أن ننتقل إليها مباشرة بعد انتهاء مدّة عقد الإيجار في المبنى الحالي.
ومن هنا فنحن ندرس إمكانية إنشاء تعاونية سكنية تستفيد من القروض والمساعدات الرسميّة والخاصّة. وتبتغي في طموحها الأقصى أن يكون لخبراء الحقل الموحّد مساكن متقاربة ضمن تجمّع سكني، أو حتى قرية نموذجيّة، يتوسّطها مركز رئيسيّ يكون بمثابة أكاديمية. ويمكن لهذا المشروع أن يُنفّذ خطوة خطوة، مبتدئين ببناء مركز على الأرجح في منطقة جبيل، ثم يتمّ بعده التوسّع في البناء تدريجاً.
وعلى صعيد آخر ثمة اتّجاه نحو تأليف هيئة إداريّة جديدة للمؤسّسة في العام القادم.
أما بالنسبة إلى فرع جبيل فبالإضافة إلى الأولويّات التي حدّدها الفرع لنفسه في العام الآتي، والمتمثّلة باستئناف النشاطات المتعلّقة بنشر التقنيّة، وإيجاد مركزٍ دائمٍ للفرع، فسيعمد، إلى الاهتمام باستيراد كل الكتب الخاصّة بالتقنية رأساً من بلد المنشأ وتوزيعها في لبنان. كما أنه حالياً بصدد تنفيذ بعض المهمّات الإجرائية المتعلّقة بالمؤسّسة.
السلام في لبنان هو الأولوية
أيها الخبراء:
تلك هي إنجازاتكم تقف بثبات وشموخٍ أمام وجه الشمس. يبقى أن الإنجاز الأساسي والهدف الأوّل لكلّ تحرّكنا لمّا يتحقّق بعد: إنه السلام والمُنعة للبنان.
أيها الخبراء: هذا وطنكم يرتسم في فكر ووجدان كلّ واحدٍ منكم. إنه يدور في حلقة مفرغةٍ من العنف والانهيار المتواصل. وعبثاً حاول المحاولون إخراجه منها. وحدكم أنتم القادرون على كسر الحلقة وإنقاذ الوطن. فإمّا أن تكسروها وتُخرجوه، أو أن تتعرّضوا لخطر الدوران فيها مع الدائرين. فعسى أن يكون الخيار الأول خيار الجميع
وكلّ عامٍ وأنتم ولبنان بألف خير
لويس صليبا، برمّانا في 31/12/1984