يولاند بيروتي
يوم أهديتني كتابك “لبنان الكبير! أم لبنان خطأ تاريخي؟”
قُلت في نفسي: و من يسأل اليوم عن هذا الموضوع؟ أو بالأحرى من يهتم لقراءته؟
وذلك لأسباب عديدة منها:
– إن جيل اليوم معتاد على الوجبات السريعة والجاهزة لتغذية الجسد والمعلومات السريعة أيضًا والمختصرة أحيانًا لتغذية العقل.
– لم يعد البحث التاريخي يأتي بالدرجة الأولى Primordial بل كل ما يتعلَّق بالتطور التكنولوجي والتواصل: آخر إبتكارات الالكترونيات والكومبيوتر والهواتف تصيب أكبر قدر ممكن من الناس (الأفراد) وحين تبدأ بالحديث عن حدث تاريخي ما يتأفف السامع ويجيبك “يه ليك وين بعدك…!”
– البحث التاريخي بحد ذاته جاف زاخر بالمعلومات الفظَّة غير المنمَّقة. وهو يتطلَّب مجهودًا فكريًا لتتبع التواريخ والشخصيات والعهود والأزمنة.
وحين تصفَّحت الكتاب وقرأته قراءة Diagonale قلت: “الموضوع مهم ولكنه سيتطلب وقتًا للإحاطة بكافة جوانبه وتفاصيله” لأننا أغلب الأحيان، نملُّ سريعًا من الأبحاث العلمية ونكتفي بتخصيص وقت محدود لها (أقله نصف ساعة وأكثره ساعة).
إلَّا أنني بدأت القراءة فإذا بمشواري مع صفحاته طيبًا مريحًا وشيقًا. وإذا بي كعاشق لا يمل من البقاء قرب معشوقه ويشتاقه حتى وهو قربه وتذكرتُ قول الشاعر:
قد كنت اشتاقهم والعين تنظرهم
يا عظم شوقي على بعد وهجران
عذرًا أيها القارئ إذا عبّرت عن مشاعري وانطباعي بصدق فالكتاب يستحق كل اهتمام وتقدير لأن صاحبه صديق عزيز تربطني به علاقة إحترام ومودَّة منذ أيام الدراسة الجامعية. صحيح أننا كنا نتناقش أحيانًا بحدَّة ونقق على طرفي نقيض من بعض المواضيع لكن الدكتور لويس كان دائم الشفافية والموضوعية لا يحابي ولا يساير طمعًا بكسب معنوي أو ماديّ: كان ولا يزال هو هو يأخذ الموقف اللازم غير عابئٍ أو متأثرٍ بالظروف المحيطة به.
بالعودة إلى الكتاب، سرعان ما وجدت نفسي غارقة في دراسة تاريخية عميقة لكأنها رواية فيها من التشويق ما يدفعك إلى الإنتهاء منها بجلسة واحدة.
وحين انتهيت من القراءة عرفتُ سر الكتاب أو بالأحرى سر كاتبه في إجبارك على اجتراع كأس كتابه حتى الثمالة أما مردُّ ذلك فيعود إلى:
۱- الأسلوب:
– فيه تسلسل وسلاسة لا ينقطعان مثل “خيط الشتي”
– تشويق وكأن الدكتور لويس مخرج يحرِّك خيوط الكتاب وشخصياته ويصلهم الواحد بالآخر بذوق وخفَّةٍ مع السعي الحثيث وراء الحقيقة ومحكما الربط. بين الوقائع والأحداث ومجريات الأمور بأكبر قدر من الواقعية والتجرُّد.
– شخصيات حواشي الكتاب وهم كل من كان له صلة من قريب أو من بعيد مع الحدث الأهم في تلك الحقبة من تاريخ لبنان “لبنان الكبير” فيقدِّمهم لنا الدكتور لويس بكل وضوح من “الألف إلى الياء” وكأنهم طالبو وظيفة مطلوب منهم تقديم c.v .
بطاقة تعريف كاملة متكاملة تتضمن: الانتماء العائلي، الدراسة، النشاطات المختلفة، الحالة النفسية والاجتماعية والثقافية. ودون مجهود كبير أو غموض أو التباس نلامس مآربهم ونتماهى مع البعض منهم وننفرُ من البعض الآخر كلٌ منا حسب ميوله وأهوائه إلَّا أننا في كلتا الحالتين نتأثر بهم ونقف وقفة تأمل تجاه ما قاموا به ونقيِّمُهم. وهذا هو المطلوب: أن نبدأ بإبداء الرأي حول ما جرى سابقًا وما يجري اليوم بموضوعية بعيدة عن المؤثرات الخارجية وعن التملُّق ارضاءً لفلان أ, خوفًا من فلان.
– نذكر على سبيل المثال لا الحصر التعريف ﺑ:
– الصحافي اسكندر رياشي ص ٥٥
– أحمد جمال باشا ص ٥٦-٥٧
– المطران عبد الله خويري ص ٥۹
– الأب ابراهيم حرفوش ص ٦٧
– يوسف السودا ص ۹۱
– سليمان البستاني ص ۱۰٢- ۱۰٣
– روبير دوكيه ص ۱۱۱- ۱۱٢
– الجنرال غورو ص ۱۱۹
– أيوب تابت ص ۱٣٥- ۱٣٦
– شكري غانم ص ۱٣٦
– الجنرال جورج كاترو ص ۱٥٥
– شبل دموس ص ۱٨٥
– ألفرد سرسق ص ٢۰٦
– شارل دباس ص ٢۱٣
– جورج كليمنصو ص ٢٢۰
– ادوارد سبيرز ص ٢٦۱
– البطريرك بولس مسعد ص ٢٧٢- ٢٧٣
– إميل اده ص ٣۱٢- ٣۱٣
– الشيخ محمد حسين الجسر ص ٣۱٧
– الشيخ يوسف بشير الجميّل ص ٣٢٢
– فيصل بن الحسين ص ٤٥
– غريغوريوس حداد ص ٤٨
– الياس الحويك ص ٤۹
– لقد وفِّقت يا دكتور لويس في التركيز على نظرة المفكِر والفيلسوف اللبناني الكبير جبران خليل جبران.
وفي الإضاءة على أهم ما في نظرته للبنان:
ص ۱٣٢- مقالة لجبران… العدل الحقيقي هو الذي لا يسلب دموع جامعة ويحرق كبد أمة من أجل إبتسامة فرد واحد…
ص ۱٣٤ “… مات أهلي وأهلكم أيها السوريون، فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم”
ص ۱٤٣ … لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش، أما لبناني فمبعد أدخله بالروح”
ص ۱٤٤ … لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها”
ص ۱٤٥ جبران عن سوريا: “لنضحك ونفرح لأن بلادنا الصغيرة بحدودها تقسَّم إلى أربع دول عظيمة بأسمائها”
ص ۱٤٦ في مقالة “يا بني أمِّي” … دينكم رياء ودنياكم ادعاء وآخرتكم هباء فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء.
لكنني كنتُ أتمنى لو تذكر أدباؤنا ومفكرينا الآخرين: مارون عبود، أمين الريحاني، خليل مطران، إيليا أبو ماضي… وغيرهم الذين شاركوا جبران في نظرته المستقبلية ورسموا خارطة طريق للعبور من الطائفية والمذهبية الضيقة إلى قومية عربية من أهم مواصفاتها:
۱- الانفتاح على التيارات الفكرية الغربية
٢- أخذ ما يتلاءم منها مع المبادئ الإسلامو- مسيحية ونبذ ما يغذِّي العصبية والتعصب الأعمى.
هنا لا بد من التذكير بدور الصحافة الإيجابي آنذاك.
دور الصحافة:
الصحافة في مصر وسوريا ولبنان والمهجر لم يقل أثرها في شموليته وخطورته على العثماني وحكمه الجائر عن أثر المدارس والمطابع لكنه لم يكن طائفيًا ولا مذهبيًا ولا ضيقًا.
قد يكون بدأ على شكل نشرات صدرت سنة ۱٨٥۱ منها نشرة دينية إسمها (دُعيت) “مجموع الفوائد” أسسها القس عالي سميث لكنها أتت أقرب إلى المناشير منها إلى الصحف.
أمَّا “لجنة الصحافة” وقد عُثر على محضر من جلساتها في خزانة “لسان الحال” خُطَّ في ۱۰-٧-۱۹۱۱ وفيه دعوة من الصحفي اللبناني العلَّامة الدكتور فارس نمر باشا لإنشاء لجنة لدعم الصحافة في لبنان وقد تشكلت من الأسماء التالية (من الشخصيات) (الصحفيين) التالية أسماؤهم: خليل سركيس مؤسِّس لسان الحال، الشيخ أحمد طبارة، الشيخ عبد الرحمن سلام، بولس الخولي…
إن مجرَّد الإطلاع على الأسماء المذكورة أعلاه يضعنا في جو النهضة الفكرية والأدبية والسياسية التي أسهمت فيها الصحافة. وقد كانت عدَّة صحف في مصر ولبنان والمهجر منابر لأقلام تخرَّجت من المدارس التابعة كل واحدة منها إلى طائفة لكن أصحابها تمرَّدوا على التقوقع الطائفي وأنشأوا تيارًا نهضويًا لعب دورًا مميزًا في المطالبة بالاستقلال إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: أديب اسحاق، جبران خليل جبران، خليل مطران، ايليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة مارون عبود وأمين الريحاني وغيرهم…
إلَّا أن هؤلاء المتنوِّرين المترفِّعين عن الانتماء الطائفي والمذهبي الضيِّق لم يُكتب لتيارهم المتعلمِن العمر المديد وهذا ما دفع بجبران إلى إطلاق الصرخة تلو الأخرى لكن نداءاته ظلَّت صوتًا صارخًا في برِّية الانقسامات الطائفية الحادة.
في مطلق الأحوال مازال الصراع قائمًا حتى اليوم بين من يفضِّل الانتماء المذهبي والطائفي على الانتماء للوطن وحتى بين العنصريين والمتعولمين. فهل سيُكتب يا دكتور لويس لك ولأمثالك النجاح أنت المؤمن بالعولمة وبتكامل الأديان إيمانك بالإله الواحد الذي يحرِّك كل الخيوط والأقدار؟
كتابك يدعونا للتساؤل لماذا الصراع بين الموارنة والأرثوذكس. ولماذا الموارنة متشاوفون على بقية الطوائف المسيحية وحتى المحمديَّة؟
أسباب عديدة أدَّت إلى حالة التشرذم الفكري والثقافي هذه منها:
– تنوُّع المدارس بين: “مدارس أرباب قصور رعى أهلها الفكر واستقدموا المعلمين إلى دورهم الخاصة لتدريس أبنائهم”…
ومدارس أجنبية ووطنية وفي طليعتها مدرسة “روما” المارونية. وقد أصدر المجمع المقدَّس سنة ۱٧٣٦ أمرًا إلى المطارنة والكهنة ورؤساء الأديرة وطلاب مدرسة روما ممَّا جاء فيه: “إنَّنا نأمر بأن نفتح في المدن والقرى والأديرة مدارس…
… إننا نأمر المعلمين أن يعلِّموا أولًا القراءة والكتابة في العربية والسريانية، ثم المزامير وخدمة القداس.
“كما سارع رجال الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانية والأرثوذكسية إلى الشرق وأنشأ اليسوعيون “جامعة القديس يوسف عام ۱٨٧٤ ومدرسة في غزير.
… المرسلون الكاثوليك أنشأوا عام ۱٨٤٥ مدرسة راهبات “مار يوسف” ومدرسة “راهبات المحبة” عام ۱٨٧٤
“البروتستانت أيضًا أنشأوا عددًا من المدارس في بيروت والجبل.
… الارشمندريت اتناسيوس قصير” أنشأ مدرسة “البلمند” الأرثوذكسية مدرسة “الثلاثة أقمار” في بيروت سنة ۱٨٦٥ و”زهرة الاحسان” سنة ۱٨٨۰ السيدة إميلي سرسق أسست مدرسة في بيروت وكان من برامجها العربية، الفرنسية، الانكليزية، الروسية، البيانو وأشغال اليد.
“أمَّا الأرمن الكاثوليك فأنشأوا مدرسة بزمَّار ودرَّسوا فيها الأرمنية والفرنسية والإيطالية واللاتينية حتى الروسية تمَّ تدريسها في دوما وأميون وكوسبا وزحلة وبسكنتا وحاصبيا وراشيا… ولا ننسى المدارس الوطنية مثل “عين ورقة”
… كما شهدت بيروت وطرابلس طائفة من المدارس الإسلامية وفي طليعتها “الكلية الوطنية الإسلامية” في طرابلس سنة ۱٨٧۹ و “جمعية المقاصد الخيرية” في بيروت سنة ۱٨٧٨ وقد ورد في بيانها الأوَّل عن أهدافها “… إيجاد المعاهد العلمية للذكور والإناث معًا…”
في بيروت قامت أيضًا “الكلية العثمانية الإسلامية”
تفيدنا هذه اللمخة عن نشؤ المدارس بأنها كانت طائفية محضة فكان لكل مجموعة طلابُها وأستاذها ومفكروها وكانت الطائفة المارونية هي السبَّاقة في هذا المجال بينما تضعضعت الطائفة الأرثوذكسية إثر سقوط الحكم القيصري (حكم القياصرة في روسيا). بينما عرفت العلاقات المارونية- الفرنسية التي تعود إلى عهد الملك لويس الرابع عشر أوجها.
الحدث الأول: لا بد هنا من التنويه بالأمرين (الحدثين) التاليين
۱- ذكرت مصادر أن الجزار أخذ من مكتبات جبل عامل خمسة آلاف مجلَّد أحرقها في أفران عكا. وأورد قولني أن رهبان دير المخلص في صيدا جمعوا كميَّات كبيرة من الكتب العربية المخطوطة والمطبوعة لكن الجزار أشعل نيران الحرب في بلادهم فنهب جنوده الدير وشتتوا كتبه.
٢- وصف إدوار روبنصون امتحانًا شهده في مدرسة عبية قال: “حضر الامتحان عدد لا يستهان به من سكان القرية… وبدا عليهم الإضطراب والانزعاج عند سماعهم عن دوران الأرض وتحدَّث أحدهم عن هذه المشكلة مع أحد المرسلين…”
في هذه الأجواء المتنوِّعة المصادر من حيث كسب المعلومات والمعرفة لا نعجب إن أخذ الصراع الفكري منحىً يجعل كل فريق بدافع عن مصدره العلمي ويعتبره وحيدًا كاملًا لا عيب فيه منحنى الشرقيون، كما يذكر الدكتور لويس صليبا “نقدِّس الأشخاص والأشياء ولا نقبل أي نقد يمسَّهم…”
لكل فريق مطابعه وكتبه (ومنشوراته)
حتى المطابع كانت متعددة متنوعة.
مع المطابع لم يعد العلم وقفًا على أسياد القصور وعلماء المساجد ورهبان الأديرة ولا عاد الكتاب المنسوخ يتوزع ببطء على الناس بل انتقلت الطباعة من البندقية في أوائل القرن السادس عشر إلى الآستانة ثم إلى حلب بالعربية سنة ۱٧۰٦.
قبلها ظهرت مطبعة دير “مارقزحيا” بأحرفها السريانية في كتاب المزامير. ويرجَّح من الأسماء أن خرِّيجي مدرسة روما هم الذين أتوا بها إلى لبنان ثم توالت المطابع على لبنان ومن أهمها مطبعة دير مار يوحنا الصايغ في الشوير عرفت نجاحًا كبيرًا في الأمبراطورية العثمانية ومؤسسها عبد الله الزاخر صنع بنفسه أهم حروفها. ثم مطبعة مار قزحيا سنة ۱٨۰٨ بأحرفها العربية ومطبعة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية سنة ۱٨٤٨ والمطبعة الأميركية سنة ۱٨٢٤.
هذه المطابع ساهمت في تنوير الأذهان وملأت فراغًا وبسطت للجميع زادها وذاعت الصحف بين الناس تحمل لهم المعلومات في كافة ميادين الفكر.
لكنها كانت مساهمة في الانقسامات الحادة في الرأي وفي المطالب كافة: سياسية، إدارية، اجتماعية واقتصاديَّة.
وكأني بها كانت تقوم بالأمس بما تلعبه اليوم المؤسسات الإعلامية المتوزِّعة على مختلف التيارات السياسية: فلكل تيار وسائله ومراسلوه ومحرِّروه ومنسِّقو دعاياته الإعلانية والإعلامية.
وادي النصارى:
في فصل ٣ باب ٤ الذي يُعالجُ فيه الدكتور لويس صليبا دحض قاطع لإشاعة مازالت حتى اليوم سارية ورائجة رواج كمشة دقيق ذُريت في بورة شوك فهل يستطسع حفاةٌ أن يلملموها في يوم ريح عاصف؟
أيحضرني في هذا السياق، أنني سألت أحد زملائي من مدرِّسي مادة التاريخ في الصف التاسع أساسي:
– أتعرف أن قصَّة ضم وادي النصارى هي مجرَّد “إشاعة أسطوريَّة”…!
– أيُعقل أن تكوني، عذرًا على التعبير، بمثل هذه السذاجة فتصدِّقي ما يقال وتتأثري بشائعات معروف الغرض منها ومن يروِّج لها؟
انتفضت كالمسعورة بوجه صديقي وقلت له:
– خذ اقرأ بحث الدكتور لويس صليبا خاصة ما يتعلَّق ﺑ “وادي النصارى ولبنان الكبير… من إشاعة إلى أسطورة”
ويكون بعدها لنقاشنا تتمَّة.
وبأسرع ممّضا تصوَّرت، ولأن عدوى التشويق أصابت صديقي سرعان ما اتصل بي وأعاد على مسمعي المقطع الأخير في الفصل ٣ باب ٤ “وخبرية ضم وادي النصارى إلى لبنان الكبير لا تعدو كونها مجرَّد إشاعة أُطلقت لاحقًا وأثارت كمَّا من الغبار وذرَّت الرماد في العيون… ولا تزال تستخدم لأغراض سياسية… وشد الحبال بين الأفرقاء…”
أما في حديثك عن شخصية البطريرك حويك فقد ثبت يا دكتور لويس أن الرجل وطني بامتياز يهتم لا يعمل فقط لطائفية فهو: “استشفع للمنفيين اللبنانيين عن لبنان…” وأثار العجب عند جمال باشا إذ أجابه “هؤلاء ليسوا كلهم من قومك وطائفتك…” فكان ردّ غبطته:”… كلُّم من لبنان…” ص٢۹٤.
وتتابع، يا دكتور لويس، البطاركة الموارنة مهمتهم رغم حدَّة الانقسامات التي عصفت وما تزال باللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم المذهبية والسياسية فيقرِّبون المتخاصمين ويسعون للتقارب وللتوصل إلى حد أدنى من التوافق رغم عواصف التشدُّد والتعصب الديني المجنونة نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر:
– زيارة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الشهيرة إلى الجبل
– الجولات الرعوية التي يقوم بها البطريرط الحالي إلى المناطق اللبنانية المختلفة غير مفرِّق بين ماروني ودرزي وسنِّي وشيعي وأرثوذكسي وأرمني… وغيره.
– وعلى غرار البطريرك الحويك يستصرخ البطاركة الموارنة الذين خلفوه على سدة بطريركية انطاكيا وسائر المشرق ضمائر المسؤولين قبل انتمائهم المذهبي ص ٢۹٦.
ألم يطلق الحويك حينذاك مبدأه المشهور: “يهمُّني في من يتولى مصالح البلاد عدله ونزاهته لا مذهبه”
“علمًا بأنه لم يرفض اختيار شارل دبَّاس الأرثوذكسي أول رئيس للجمهورية اللبنانية” بل باركه… ص ٢۹٦.
ألم تتبنى اليوم البطريركية المارونية وعلى رأسها مار بشارة بطرس الراعي القانون الأرثوذكسي للانتخابات النيابية؟!!
حتى بين البطريركين غريغوريوس حداد والياس الحويك أحسنت يا دكتور لويس تحريك خيوط جدلية الخلاف بين الرجلين وحتى بين الطائفتين الأرثوذكسية والمارونية:
۱- تأييد الأرثوذكسي والبطريرك حدَّاد الحكم الفيصلي وقوف الموارنة والبطريرك الحويك موقفًا مناهضًا لفيصل وداعمًا للفرنسيين في آن.
٢- غريغوريوس في خطبه وعظاته يعبِّر عن ولاء تام للأتراك العثمانيين. الحويك يصر على “المواطنية اللبنانية والامتيازات المارونية والعلاقات مع فرنسا والفاتيكان” في حضرة السلطان عبد الحميد نفسه.
٣- العلاقة مع جمال باشا كانت علاقة ود وصداقة مع غريغوريوس بحيث “احترمه وسهَّل أموره وبادله البطريرك الاحترام” (ص٥٧) بينما طلب بالمقابل، من الحويك لا بل “أرغمه على طلب الفرمان”. كما أرغمه على “الحضور أمامه في صوفر في ما يشبه الاستدعاء” ص٥٨.
٤- بالمختصر “كان الحويك يقاسي جحيم الاضطهاد كان حدَّاد ينعم برضى السفَّاح واعجابه” ص ٦٣.
في مثل هذا الجو من الطبيعي أن “لا ينفي البطريرك الماروني الحويك تعلٌّقه بفرنسا وانحيازه لها وطلبه الحماية منها له ولطائفته وللبنان ككل.
أما بطريرك الأرثوذكس فقد استشهدت بالرياشي لتستنج “أنه كان أكثر عداء للنفوذ الفرنسي في الشام من المفتي المسلم فيها”.
وحرَّكت خيوط لعبة “التاريخ الطويل من الحزازات والكيد” بين المسيحيين في الشرق وذكرتَ بشعار “الكل ما عدا بيزنطية tout sauf Byzance” الذي انطلق منه المسيحيون في النصف الأول من القرن السابع لفتح أسوار المدن للغزاة العرب الجدد.
ثم أوردت بسخرية قول المؤرخين المسلمين: “متى اجتمع عشرة نصارى، فإنهم يخرجون بأحد عشر رأيًا مختلفًا”
وكان لسعي آل عازار زعماء الكورة الأرثوذكس للقبض على بطرك الموارنة يعقوب عواد ومشاركتهم في اقتحامات الجنود الأتراك للوصول إليه “وإرغامه على التماس فرمان التثبيت من الباب العالي”
ولمشاركة الروم الأرثوذكس في مذابح ۱٨٤۱ وانحيازهم للدروز ضد الموارنة لأسباب تعود فقط للكيدية والجزازات وللتذكير بمقولة الحاج شحادة علمية أحد وجهاء مرجعيون في المؤتمر المسيحي الذي عُقدَ إثر مذابح ۱٨٦۱ “التركي ولا بكركي”.
ولتفضيل الروم الأرثوذكس إثر أحداث ۱٨٤۱ التبعية لولاية طرابلس ولا الانضمام إلى القائمقامية المارونية. وإثر أحداث ۱٨٦۱ البقاء على تبعيتهم لولاية بيروت ولا أن “يصيرو من رعايا لبنان المسيحي في عهد المتصرفية”. ص٨۱ كل هذه الأمور التي أثرتها يا دكتور لويس وأوردتها “دون مطيِّبات” كما يقوا المثل. تحملنا على الوقوف وقفة فحص ضمير لا لنرمي التهم على هذا الفريق أو ذاك بل لنأخذ العبَر ونحاول الانطلاق بحب وسلام ووئام في عصر أصبحت فيه الكرة الأرضية قرية واحدة ولعبت العولمة من تقارب جماعاتها اللاتينية والعرقية والدينية دورًا يزداد أهميَّة ووقعًا مع تطوُّر الأحداث في العالم أجمع.
في المقارنة بين إميل إده والبطريرك حويك حول الكيان اللبناني نبشت تفاصيل قد يكون البعض من الباحثين قد أغفل عنها عمدًا أو مصادفة.
لكن التمايز بين الرجلين جليُّ واضح: الأوَّل ركَّز على الجغرافية واحتواء لبنان على السهل والشاطئ والجبل. والثاني ركَّز على الديموغرافيا قبل الجغرافية إثرحدثين مفصليين: إحصاء ۱۹٣٢ وانتخابات رئاسة الجمهورية. وقد ترشَّح لها الشَّيخ محمَّد الجسر ليظهر أن المسلمين نصف لبنان أ, أكثر “فلبنان اليوم ليس لبنان ما قبل الحرب أي لبنان القومي المسيحي”. (ص٣۱٨)… “والمسلمون يحتجُّون بشدَّة على المداخلات الرامية إلى قطع الطريق أمام المرشَّح المسلم لفرض مرشَّح مسيحي”.
علمًا بأن إميل إده دَعَم لأسباب عديدة ترشيح الجسر فقد وجَّه إلى الفرنسيين مذكَّرة تميَّز فيها عن أكثرية المسيحيين وخصوصًا الموارنة. فإذا به يؤيد فصل طرابلس عن لبنان. ويسعى حتى مع البريطانيين لإقامة “وطن قومي مسيحي” داخل “سوريا الكبرى” ص ٣٣۰ وأعتبر: أن لبنان مسيحي هو الذي يؤمن للمسيحيين توازنًا استراتيجيًا مع المحيط العربي- الإسلامي وخصوصًا مع سوريا” (ص ٣٣۱).
صحيح أن إميل إده استند إلى ثوابت ركَّز فيها على “أن مصلحة لبنان تكمن في التحالف مع فرنسا وطلب حمايتها”. وأن لبنان هو المرصد الفرنسي الوحيد للعالمين العربي والإسلامي…” (ص٣٣٢) في وثيقته ببيروت والبقاع وتحدَّث بالأرقام عن “عبء ضم ۱٤۰ ألف مسلم شيعي وسنِّي “أي أكثر من ثلث سكان لبنان الكبير المسلمين”. وتحمَّس لإقامة دولة للمتاولة” في الجنوب “على غرار الدويلات السورية التي انشئت أواخر العام ۱۹٢۰.
وقد أصبتَ يا دكتور لويس في تقييمك للرجل إذ اعتبرته:
۱- رؤيويًا يحدث بما سيحدث.
لأن الأحداث والانفجارات الثورية الداخليَّة المتلاحقة (۱۹٥٨-۱۹٧٥) كادت أن تغيِّر الهوية اللبنانية (أصابت الهوية اللبنانية بمتغيِّرات جذرية وجعلت من طرابلس والجنوب مرجلًا يغلي بالضطرابات السياسية في لبنان.
٢- لجأت إلى القول المأثور: “الرجل الحكيم هو من يقبل أن يخسر نصف ثروته كي لا يخسرها كلَّها” وهو ينطبق تمامًا على إميل إده الذي ارتضى خسارة مواقع جغرافية للحفاظ على ديموغرافية لبنان المسيحية الطابع والهويَّة.
٣- اعتبرت إميا إده ويوسف الجميِّل وقبلهما سليمان البستاني طيور غرَّدت خارج السرب الماروني .
٤- وفِّقت في المقارنة بين الرئيس إميل إده والبطريرك الحويك بقولك “قبِلَ إده أن يدفع الخمسة ليربح العشرة كما يقول المثل. في حين رفض الحويك أن يدفع هذا الثمن، فأيهما كان الأكثر حنكة وحكمة وبعد نظر؟ّ…
هذا ما سنتركه للأيام والتاريخ والأجيال اللاحقة للحكم على صوابية نظرة كل من الرجلين على أن لا يغربن عن بالنا أن الرجلين متساويان في المصداقية والضمير الحي وإحقاق الحق مهما كانت الظروف والأحوال.
سليمان البستاني والرئيس إميل إده وجهان لعملة واحدة: الاعتراض على لبنان الكبير.
في كتابك يا دكتور لويس إضاءة على شخصيات ومواقف تتسم بالواقعية وعدم التحيُّز والتجرُّد فأنت الماروني (٢٤ قيراط) ةالمهتم بأمور الطائفة ومستقبلها من منظار منفتح على بقية الطوائف أخذت المشرحة وبدأت تغوص في أمور وتفاصيل قد يكون غيرك من الباحثين سبقك عليها لكنها لم تأتِ بمثل هذا الوضوح.
فعلاقة البطريرك حويك برجل الدولة “الماروني المخضرم” الذي “اعتزل السياسة في السلطنة العثمانية” و “الخبير في التطلعات الدائمة للعرب المسلمين في الشرق الأوسط” جعلته يحذَّر البطريرك ويصارحه بأنه “سيندم على هذه المبادرة في أقل من خمسين سنة”.
إنه “رجل الدولة” سليمان البستاني. هو أيضًا كان مارونيًا (٢٤ قيراط) وهو أيضًا، يوم كان وزيرًا للتجارة والزراعة، إبان الحرب العالمية الأولى في الآستانة، أبدى إهتمامًا بالغًا بشؤون الطائفة فحذَّر ونبَّه وطلب من رؤساء الطائفة الامتناع عن أمور معينة (تسهيل لجؤ الفارين من الجندية إلى جبل لبنان) مثلًا. كما تمنَّى على غبطته “العزوف عن المطالبة بتوسيع حدود المتصرفيَّة” أثناء مؤتمر الصلح في باريس.
قد يكون أسدى هذه النصيحة لأنه منغمس في السياسة وعارف بخفايا الأمور أكثر من رجل الدين البطريرك الحويك الذي وثق ربما أكثر من اللزوم بسياسة الفرنسيين وآمن بأن البلد الذي كان أول المنادين بالديموقراطية والمناضلين في سبيلها لن يتخلَّى عن حماية أصدقائه الموارنة في الشرق الذين تعود علاقتهم به إلى أيام الملك لويس الرابع عشر.
في الصراع الطائفي الماروني والأرثوذكسي –الإسلامي كان هناك شبه اتفاق على المصالح الإقتصادية والسياسية: الكل يقوم بحسابات دقيقة للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب وحدهم حفنة من الرجال المميَّزين وعلى رأسهم البطريرك الماروني الياس الحويك كانوا أكبر من حسابات الكسب والخسارة لكن الظروف التاريخية المتعارف عليها منذ أيام البيزنطيين والأمويين وأيام الحكم الاقطاعي في الشرق عمومًا ولبنان خصوصًا حمَّلت رؤساء الطوائف في المشرق وفي لبنان مسؤوليات زمنية وروحيَّة وقد حملوا الوزنات وتاجروا بها ونجحوا أحيانًا وفشلوا أحيانًا أخرى بالنهاية هم بشرٌ وليس أنصاف آلهة.
ونحن نثني على موقفك من تقديس كل ما هو مميَّز في الشرق (حدثٌ ما… شخصية ما… إلخ) ونشد على يدك ونؤازرك في التصدي لهذه الظاهرة المرضيَّة التي اعتقدنا، للوهلة الأولى، أن نجمعها في أفول، فإذا به ساطع في مدارسنا وجامعاتنا وما ظاهرة التصفيق وحمل البعض على الأكتاف إلَّا مشهدٌ نأسف له بين طلاب من المفترض أن يقدِّسوا العلم والثقافة فيقتربون من الله وبتواضعون كلَّما نقلت رؤوسهم بالمبادئ العلية والثقافية الصحيحة وازدادوا انحناءًا ولامسوا التراب الذي جبلنا منه وسنعود يومًا اليه مهما علا شأننا وطاولنا برؤوسنا الأفلاك والنجوم.
بالنهاية شكرًا دكتور لويس على هذا البحث القيِّم الشيِّق.
أتمنى أ، تتفرَّغ لمثل هذا البحث فمنهم ما جرى من أحذاث تاريخية وسياسية ونبني على الشيء مقتضاه فتصبح قراراتنا أكثر واقعية ومدروسة بجدِّية تخفُّ معها الأخطاء المميتة ونتعظ من ما يجب الإتعاظ منه ونأخذ العبر الإيجابية حيث تدعونا الحاجة إلى ذلك.
لأمثالك يا صديقي يجب أن تخضع الأقلام وتنتفض المنابر التي يعتليها أشخاص يملكون سحر التأثير على الجماهير لكنهم يزيدونهم فراغًا وغوغائية وسؤ تقدير.