دة غريس الياس: قراءة في كتاب لويس صليبا: لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي

كتاب “لبنان الكبير! أم لبنان خطأ تاريخي؟” للبروفيسور لويس صليبا

د.غريس الياس

يُضاف هذا الكتاب الصادر عن دار بيبليون، إلى سلسلةٍ من المؤلّفات المهمّة للكاتب الأستاذ الدكتور لويس صليبا، والتي تتجاوز التسعة والسبعين كتاباً.
تناول الكتاب إشكاليّة نشأة دولة لبنان الكبير في العام 1920، حيث إستند في معالجته للمسألة إلى وثائق رسميّةٍ من أرشيف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. ويسرد لنا الكاتب بكلّ موضوعيّةٍ وحياديّةٍ الوقائع الحقيقيّة لنشأة الكيان اللبناني، ويركّز على المواقف المؤيّدة للبنان الكبير وتلك الرافضة له في الوسط المسيحي، وتحديداً بين الموارنة الداعمين له والروم الأرثوذكس الرافضين له.

وأشار الكاتب إلى أنّ هذا الصراع ليس الوجه الوحيد من الصراع الذي برز في حقبة 1918-1920، فثمّة فئات أخرى وجماعات ضُمّت إلى لبنان الكبير وكانت لها مواقف رافضة كالدروز والشيعة والسنّة. إلّا أنّ الكاتب ركّز على الإنقسام الحاصل في الوسط المسيحي، حيث كان يتركّز الصراع بين مشروع لبنان الكبير أو مشروع الأمير فيصل لإنشاء دولةٍ عربيّةٍ تضمّ لبنان، ما كان يشكّل تهديداً حقيقياً للبنان.
برأي الدكتور صليبا، فإنّ من بين الأسباب التي دعت الروم إلى رفض لبنان الكبير، الروابط التجاريّة والإجتماعيّة بين الروم والسنّة، فكلاهما أهل مدنٍ يعملان في التجارة، والتجارة مع الداخل السوري كانت في أيدي عائلاتٍ أرثوذكسيّةٍ بيروتيّةٍ ثريّة، لذا كانت أوّل من يخشى انفصال الروابط الاقتصاديّة مع سوريا بإنفصالها عنها. وعندما طرحت مسألة إنشاء لبنان الكبير، ومن ثمّ العلاقات بين لبنان وسوريا 1920-1922 دعم الكثير من الأرثوذكس مواقف السنّة. وكذلك فإنّ واقع إنتشار الروم ليس فقط في لبنان بل وفي سوريا، جعلهم يدعمون بإستمرارٍ علاقاتٍ أفضل مع الداخل بل وإرتباطاً به.

أشار الكاتب أنّ أوّل من أطلق شعار “لبنان خطأ تاريخي” كان شخصيّةً أرثوذكسيّةً هو نجيب سرسق، وهو أغنى أغنياء بيروت ولبنان في عصره. ويوضح د. صليبا أنّ منطقة وادي النصارى لا هي عُرضت على البطريرك الحويّك، ولا هو رفضها، وهي من الأساس لم تخطر على باله لأنّ تصوّر البطريركيّة المارونيّة لحدود لبنان واضح منذ زمن البطريرك مسعد، وهي تعتبر النهر الكبير فاصلاً طبيعيّاً والحدود الشماليّة للبنان. ويشدّد على أنّ مسألة ضمّ وادي النصارى إلى لبنان الكبير لا تعدو كونها مجرّد إشاعة، استخدمت لأغراض سياسيّة. ويتابع موضّحاً أنّ النزاع بين الموارنة وبين إخوتهم الروم وإن كان قد خبا، فقد حلّ محلّه خلاف حادّ بين زعمائهم وفي داخل الطائفة نفسها. ويطرح الكاتب التساؤل التالي: هل يقيّض لهم حويّك ثانٍ يعيد توحيدهم حول مشروعٍ جدّي، وهم منذ رحيله يعيشون في إنقسامٍ حادّ؟!

فقد عرض الدكتور صليبا ومن خلال الوثائق التاريخيّة، سعي الموارنة الحثيث واستشراسهم في سبيل استقلال لبنان وتوسيع حدوده، ووصل إلى خلاصةٍ مفادها أنّ البطريرك الحويّك رأس الكنيسة المارونيّة والسياسي الأوّل صاحب القرار في شأن الطائفة هو المنشئ الحقيقي للبنان الكبير لا الجنرال غورو. فهذا الأخير كان سيعود عن قراره وإعلانه بعد أقلّ من سنةٍ عليه. ويؤكّد على أنّ الحويّك كان رجل المواجهات والقرارات التاريخيّة، فهو لم يحجم عن تهديد الجنرال غورو – وعلناً – عندما دعت الحاجة والمصلحة العليا بما عُرف بحادثة الديمان حيث، ومن أهمّ ما قاله الحويّك في خطابه للجنرال غورو: “وإذا مُسّت حفنة من تراب لبنان فأنا – خلال أربعٍ وعشرين ساعة -سأعلنها ثورةً في البلاد”. لا سيّما وأنّه كان مخطّطاً له قبل إعلان لبنان الكبير، كما ورد في رسالة ميلران رئيس الوزراء الفرنسي إلى غورو، وكأنّ لبنان الكبير كان مرحلةً نحو الوحدة الكبرى مع سوريا. وهذا التدخّل الواضح للحويّك هو الذي أحبط المشروع الفرنسي. فقد كانت صداقات الحويّك وعلاقته بالفرنسيّين وغيرهم كلّها مُسخّرةً للمصلحة الوطنيّة العليا، وليس العكس كما هو السائد في أيّامنا.

كان الموارنة في تلك الحقبة أمام المعادلة التالية: “لبنان الصغير موت إقتصادي، الاتّحاد مع سورية موت سياسي، نريد لبنان الكبير ليحيا، ونريده بلا وحدةٍ ليكون مستقلّاً”، بخاصّةٍ بعدما عانى سكانّه من ويلات المجاعة خلال الحرب العالميّة الأولى. ولكنّ مسألة الحدود – كما أكدّ المؤلّف – كانت دونها محاذير عديدة ليس أقلّها أنّ الكيان سيضمّ مجموعاتٍ دينيّةً وثقافيّةً غير متجانسة، ما جعل هذا الاجتماع يقوم على الخوف الديمغرافي والسياسي والثقافي المتبادل. فقد أغفل البطريرك الحويّك التعدديّة المذهبيّة والطائفيّة التي نتجت عن خيار لبنان الكبير. وهذا ما أدّى – بحسب الكاتب أيضاً – إلى تفجير الأوضاع مراراً في لبنان: 1958، 1969، والحرب الأهليّة الطويلة 1975-1990. فالكيان المعلن في أوّل أيلول 1920 والذي حمل بداخله ومنذ البدء الكثير من عوامل تفجيره، لا يزال يصارع في سبيل الإستمرار إلى اليوم.

أظهر لنا الكاتب مسألةً مهمّةً جدّاً حصلت في هذه الحقبة وهي الإنقسام الحاصل في الإدارة الفرنسيّة بين مشروع دو كيه للبنان الصغير بأغلبيّةٍ مسيحيّة، ومشروع غورو للبنان الكبير بحدوده الواردة في الدستور. فقد إتّهم دو كيه المسيحيّين اللبنانيّين بجنون العظمة وبطريركهم بقصر النظر وفقدان الحسّ السياسي، وعدم تقدير العواقب التي يقودهم إليها خيارهم المتطرّف في تكبير حدود لبنان مهما كان الثمن. ويلفت الكاتب النظر إلى أنّ آراء دو كيه ومقترحاته حتّى يومنا هذا تبقى موضع تأمّلٍ وتفكّر، ويتساءل: أيّهما كان المصيب والرؤيوي: هو أم خصمه البطريرك الحويّك؟

وأشار الكاتب إلى أنّ سليمان البستاني، وهو الوزير السابق في السلطنة العثمانيّة، ومترجم الإلياذة، كان قد قابل البطريرك الحويّك في باريس، فحذّره ونصحه بتجنّب هذا “الخطأ” التاريخي، بتكبير لبنان. وهو في نصيحته للحويّك كان وكأنّه يقرأ في كتاب الغيب. لكنّ البطريرك الحويّك لم يحفل بتحذيرات سليمان البستاني وروبير دو كيه وغيرهما، من تبعات خياره، وإستمرّ متشبّثاً بلبنان الكبير بكامل حدوده. فهل نجح الحويّك في التكتيك وفشل في الستراتيجيا!؟
ووصل الكاتب في الخاتمة إلى أنّ الوجود المسيحي في لبنان مهدَّد بخطر الزوال، فهل تصدق نبوءة جبران خليل جبران فيتلاشى الكيان عند مضيّ قرنٍ على نشأته؟
وتابع الكاتب بأنّ “زوال المسيحيّين مصيبة للمسلمين، ولكن ما لا يعيه المسلمون، لا الغرب، تماماً هو أنّ زوال المسيحيّين في الشرق خسارة كبرى للعالم العربي، وغياب المسيحيّين عن لبنان وسوريا والعراق يفقِد الإسلام صورته المنفتحة على العالم”.

إنّ التعدديّة هي غنى للحضارات والثقافات والهويّات، إلّا أنّه في غياب ثقافة إحترام الآخر المختلف حينها يكمن الإنفجار الكبير، وهذا ما يحصل اليوم في لبنان. وأمّا تبسيط المشكلة بإلغاء هذه الهويّات وشطبها من النصّ فهذا لا ينهي الهويّات العميقة والمتجذّرة في الوجدان والنفوس، بل إنّ النتائج الواقعيّة ستكون بحكم الأكثريّة العدديّة ذات الأيديولوجيا المسيطرة، ومحو وإلغاء الأقليّات الثقافيّة. فالديمقراطية تقوم في جوهرها الأساسي على تمثيل كلّ فئات المجتمع وصون الكرامة الإنسانيّة والحريّة.
فهل يتغيّر وجه لبنان الذي نعرفه وتُلغى التعدديّة، ويصبح من لونٍ واحدٍ حيث الأقوى هو الذي يسيطر؟

 

 

 

شاهد أيضاً

آية الله الشيخ الدكتور أحمد مبلّغي/شهادة في منهجية د. لويس صليبا وجهوده في الحوار-ندوة في جامعة أديان ومذاهب قمّ/إيران في 25 تموز 2022

آية الله الشيخ الدكتور أحمد مبلّغي/شهادة في منهجية د. لويس صليبا وجهوده في الحوار-ندوة في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *