عودةٌ إلى الأصالة والتراث
أن تقوم بأبحاثٍ علميّة تقدّم الحقائق التاريخيّة وتحقّق في الوسائل والمخطوطات، مُهديةً كلَّ جديد على الصعيد الأكاديميّ في الموضوعات المطروحة، لهو أمرٌ محبّذ، لا شكّ. ولكن أن يكون عملُكَ إضاءةً على تراثٍ مشرقيّ مغمور، هو في أساس القضيّة الوجوديّة لجماعاتٍ تماهت هويّتها مع التواجد البشريّ في هذا الشرق، فهذا أمرٌ ضروريّ ومشكور، بل عمل مميّز يستحقّ التوقّف عنده وإكباره.
أراد الدكتور لويس صليبا، الباحث والأستاذ في الدراسات الإسلاميّة، أن يُصدر من خلال دار ومكتبة بيبليون اللتين يملكهما، سلسلةً جديدة أطلق عليها اسم “تاريخ النصارى في الإسلام”، يقول فيها: “نريد لها أن تتضمّن العديد من المأثورات التاريخيّة النفيسة”. وهو يؤمن أنّ إشكاليّة وجوديّة تفرض نفسَها على الواقع المشرقيّ المعيوش، تتلخّص بالأثر المسيحيّ في الإسلام، وما تركت التفاعلات العقائديّة المسيحيّة، أي ما دخل على العقيدة المسيحيّة من تفسيرات أو هرطقات تفاعلت في الأشخاص والمؤسّسات. ما تركت هذه التولّدات من رواسبَ بُذرت في هذا المشرق، فخلّفت تأثيرات في أساس الديانة التي غلب انتماء الشرق اليوم إليها: الإسلام. وأخرج الدكتور صليبا إلى النور كتابَين درسهما وحقّقهما: “من المجدل للاستبصار والجدل” و”أسفار الأسرار أو كتاب التواريخ”. وهما كتابان متكاملان متشابهان، على تباين واضح في جوانب عدّة. يقول المحقّق في مقدّمة “المِجدَل” إنّه أوّل وأقدم عمل موسوعيّ مسيحيّ كُتب بالعربيّة”. أمّا في مقدّمة “أسفار الأسرار” فنقرأ: “التأكيد أنّ كلاًّ من المجدل وأسفار الأسرار عمل موسوعيّ مختلف عن الآخر ومستقلّ عنه… وموسوعة صليبا (أسفار الأسرار) وإن كانت تعجز عن مضاهاة المجدل… فهي لا تقلّ عنها أهمّيّة…”
ربّما لم تسمع أيّها القارئ الحبيب، بهذين الكتابين من قبل، ولا حتى عنى لكَ عنوانُهما شيئًا. لكنّكَ لا تكاد تتصفّح المقدّمة وبعض الصفحات الأولى، حتى تأخذكَ عاصفة من الاهتمام والاستزادة. فكلٌّ منهما كتابٌ شامل، “موسوعة لاهوتيّة ليتورجيّة وتاريخيّة ذات أهميّة أساسيّة في تاريخ النساطرة وعقائدهم ولاهوتهم”. لكنّ المحقّق أرادهما دراسة شاملة أتت على الأسباب الموجبة لإخراجهما إلى الضوء، وعلى عنوانيهما وفصولهما وأهميّتهما من حيث العقيدة من جهة، والأرض والتفاعلات الإنسانيّة من جهة أخرى. ولأنّ الكتاب منهما واحد من أقدم مصادر تاريخ النصارى في الإسلام، مرفقًا بدراسة ممهّدة وشروحات وتعليقات وقواميس مفردات وتعابير، فقد أوضح أكثر هذه النظريّات المتكلّمة على شخصيّة المسيح ودوره ونبوّته في هذا الإطار، بأبهى حلّة ممكنة وأدقّها. وقد نُشر النصّ بطريقة عصريّة مقسّمًا إلى أبواب وفصول معنونة، تسهّل عمليّة البحث والاطّلاع.
كثُرت الروايات حول مؤلّف “المجدل” الحقيقيّ. فقد نُسب أوّلاً وحسب التقليد إلى ماري بن سليمان في القرن الثاني عشر. لكنّه تبيّن لاحقًا أنّ ماري لم يكتب سوى الحواشي والتعليقات على نصّ أخبار البطاركة من الكتاب. أمّا الدراسة التي بين أيدينا فقد رجحت إلى حدّ ما يشبه التأكيد أنّ المؤلّف هو عمرو بن متى الطيرهاني، لكنّ الأمر لا يزال بحاجة إلى اكتشافات أخرى لأجل التثبّت والجزم. أمّا كتاب “أسفار الأسرار”، فهو على تشابهه بالمجدل حتى اعتُقد أنّهما كتابٌ واحد، خصوصًا لِما فيهما من نصّ أخبار البطاركة، فإنّ كاتبه معروف، وهو صليبا بن يوحنّا الموصلي سنة 1332م.
إذا قلنا الكتابان موسوعة، فلا نغالي. فهما تاريخ أوّلاً، لِما قدّما من تاريخ البطاركة في الشرق المسيحيّ. وهما لاهوت، لما يعرضان من حقائق إيمانيّة، وما واجهته من قبول وتعرّضت له من هرطقات. وهما مسكونيّان لِما نجده فيهما من تداخل بين الكنائس المسيحيّة والبدع، ومن علاقات مسيحيّة إسلاميّة كما سبق وذكرنا. أمّا التفاصيل، فلا مجال لنا بها في هذه العجالة. ولو فعلنا، لأبرزنا أهميّة ما وصل إلينا اليوم من تقليد إيمانيّ كنسيّ، ومن مفاهيمَ أرست العلاقات بين عائلات شرقنا الدينيّة والسوسيودينيّة.
لكن، لا بدّ لنا من التنويه بالجهد العظيم الذي بذله محقّق الكتابين ودارسهما في نفض الغبار عن هذا الإرث الثقافيّ الذي يحدّد تراثنا المشرقيّ المغمور والضائع في ضجيج عالم اليوم. ولا يسعنا إلاّ الانحناء بعرفانٍ وامتنان، أمام ما قدّمه الدكتور صليبا في إبراز هذا الفكر المؤسّس للحالة المشرقيّة، منذ بدايات التفاعل المسيحيّ الإسلاميّ الذي طبع الشرق بصورة فريدة، فيجنّب الجماعات المختلفة فيه، الأحكام المسبقة المتبادَلة، ويقرّب الذهنيّات إلى الأصالة التي خرجت منها.
حسبُنا ننتظر المزيد من الإصدارات الثمينة التي تهدينا نتاجات، لا فكريّة وتراثيّة فحسب، بل توسّعًا إنسانيًّا وتفتّقًا ذهنيًّا يفلشاننا على المدى، قبولاً للإنسان في اختلافه، وتعلّقًا بالأفق يطلقنا نحو الخلود.
في 24 نيسان 2012
عماد يونس فغالي