أدبُ المَنْسِيين في ندوة علمية في بيروت، مقالة في جريدة القدس العربي/عدد9516 في 16 نيسان 2019 عن ندوة لويس صليبا: ميشال الحايك الشاعر الصوفي
بيروت ـ «القدس العربي»
16/04/2019
من اليمين د. مروان أبي فاضل والعميد فارس حنا وسماحة السيد حسن الأمين في الندوة
مشهد من الحضور يتقدّمهم أفراد من أسرة المونسنيور ميشال الحايك
في كتاب «الغربال» (1923) حصر ميخائيل نعيمة مهمةَ النقد في «غربلة الآثار الأدبية، لا غربلة أصحابها»، أيْ في غربلة «ما يُدونه قسمٌ من الناس من أفكار وشعور وميول» لأن «ما يُدوّنه الناس من الأفكار والشعور والميول، هو ما تعودنا أن ندعوه أدبًا». غير أن نعيمة لم يتنبه إلى أن غربلة النصوص أمرٌ يؤدّي بالضرورة إلى غربلة أصحاب تلك النصوص مهما التزمنا فيه بالموضوعية، فأن أقرأ نقديا هذا النص يعني أنني اخترتُ أن أعلن عن اسمَ صاحبه، وأهمل أسماءَ أصحاب نصوص أخرى، قد تكون أفضل منه فنيا، ولكن من سوء حظها أنني لم اختر قراءتها. ولعل تاريخَ الأدب في العالَم يشي بحقيقة أن ما يظهر فيه إنما هم الكتاب المحظوظون، أما غير المحظوظين فإن أسماءهم تظل منسية ومغمورة في حواشيه. علمًا أن الحظ في الأدب لا يأتي مصادفةً، وإنما يأتي من جهةِ العلاقات والمصالح والانتماءات التي تقع كلها خارج غربال نعيمة. وإن من هؤلاء المنسيين في أدبنا العربي الشاعر والكاهن اللبناني ميشال الحايك، الذي كان محور الندوة الأولى من سلسلة «الأدب المعاصر في لبنان: أدباء رحلوا ولم يُنصَفوا»، وقد عقدت يوم 11 إبريل/نيسان 2019 في الجامعة اللبنانية (كلية الآداب والعلوم الإنسانية) وحملت عنوان «ميشال الحايك رجل الله شاعرًا»، بتنسيق ناتالي الخوري غريب، وأشرف على افتتاحها مروان أبي فاضل مدير الكلية.
حددت الباحثة ناتالي الخوري غريب إشكالية هذه الندوة التي حضرتها نخبة من الأدباء والأكاديميين والإعلاميين والطلاب، وبعض رجال دين من أهل الثقافة والأدب، ضمن مجموعة من الأسئلة نذكر منها: لِمَ يُهمَل نتاجُ أدباء على حساب نتاج آخرين والحالُ أنهم عاشوا المرحلةَ الزمنية الواحدة، والهم الواحد، والوطنَ الواحد؟ هل يعود ذلك إلى مشكلة في الإعلام الثقافي؟ أم هو يعود إلى طبيعة النتاج الأدبي ذاته؟ ألا تساهم نخبوية أدب ما في جعله بعيدًا من متناول العامة؟ وهل لعزلة الأديب اختيارًا، وابتعادِه من تكثيف مشاركاته الأدبية ما يؤدي إلى إقصاء نتاجه الأدبي؟ كما تكفلت الباحثة بالنظر في شعر ميشال الحايك وجدارته بالدرس، حيث بينت أن الحايك أُعطيَ من عَلٍ فمًا من ذهب، على بعد رؤية وتقويم وتصويب، داعيًا الإنسان إلى الوقوف أمام محكمة الضمير، كما دعا الدينَ إلى الوقوف أمام محكمة التاريخ، ليؤديا حسابًا عن مساعيهما إلى مراميهما، وهو الأب واللاهوتي والمفكر والخطيب البليغ، نستحضره اليوم شاعرًا، لم ينصف النقد نتاجه الأدبي، على الرغم من رفعة شعره، ربما لأن طبعه المتواضع، وإيلاءَ الأولوية لخدمة الله والكنيسة والكلمة، أبعداه عن الاهتمام به، وهو القائل: «والله لم يلهني عن الشعر لاهٍ لولا الله»، على الرغم من أن شعره هو محاولات استنطاق الذات من أجل الكشف عن أعمق ما فيها، عن جوهرها الإنساني، حيث المطلق هو الهدف الأقصى والأسمى، مع الاعتراف الرضي أحيانا، والثائر المتمرد أحيانًا أخرى، بالخيبة المنتظرة على المفارق.
لم تأت عمارةُ الحايك رمة، لكنها كانت نشوئية تطورية، انتهت بالبعد الرجائي المطمئن. من هنا جاء ثورة على تجويف الإنسان وتقليده، رفضا لكل زيف وتشويه، ودعوةً إلى الامتلاء، كي لا يبقى الإنسان مغتربا عن حقيقة جوهره.
فالروح، العنصر الإلهي في الإنسان، تصرّ على معرفة الله، حنيناً إلى أصل هي منه، النفس، العنصر الاجتماعي في الإنسان، تسعى إلى الطمأنينة في علائقها مع الآخر والقيم، في الزمان والمكان، عبر فعل الحرية، والحرية تلك الحركة التي توجه مثوليةَ الجسد في النفس. والطين، هذا القيد الذي يكبّل الإنسان، فيجعله راضخًا عبر الإقرار بتأصيل المحدودية الإنسانية. في هذه الفضاءات، مذهَب الحايك نشاطَه الوجداني في ثقافته الفلسفية الواسعة شعرَا، فولد معجم فيه من الغربة شوقُ وجعها، ومن المنفى، تشردُه، ومن التشوق الإلهي رجاؤه. يرفض إقحام الدين في الدنيا، لأنه بذلك يصبح مؤامرةً على الدين والدنيا. لم تأت عمارةُ الحايك رمة، لكنها كانت نشوئية تطورية، انتهت بالبعد الرجائي المطمئن. من هنا جاء ثورة على تجويف الإنسان وتقليده، رفضا لكل زيف وتشويه، ودعوةً إلى الامتلاء، كي لا يبقى الإنسان مغتربا عن حقيقة جوهره. نستهل به هذه السلسلة، أمانة لموهبة انفطر عليها، وتهيبًا لمعجمه الأثيري والمادي في آن. في شعره، يختبر الإنسانُ انتماءه إلى الواقع، كما ينبسط في قرائن الزمان والمكان، ويختبر انتماءه إلى المثال، في الجوهر الإنساني، وفي الطريق إليه يُظهر تمرسَ الصبور باختيار الخيبة القصوى.
وفي الورقة النقدية التي حملت عنوان «المونسنيور ميشال الحايك الشاعر الصوفي وعلاقته بكمال جنبلاط ونعيمه»، اهتمّ لويس صليبا، المتخصص في الأديان المقارنة وتأثير أديان الشرق الأقصى على الأدب، بدراسة شعر ميشال الحايك الصوفي، مقارنًا إياه بشعر متصوفين ينتمون إلى تقاليد دينية وروحية مختلفة ومتباينة، وهم القديسة تريزا الأفيلية وكمال جنبلاط ومولانا جلال الدين الرومي. وقدم قراءة تحليلية نقدية لأشعار هؤلاء الأربعة على ضوء اليوغا، لاسيما في مؤلفها الأساسي يوغا سوترا الذي وضعه باتنجلي في القرن 4 ق م. وخلُص بنتيجة هذه المقارنة إلى ما يسميه حكماء اليوغا: «وحدة الاختبار». فالاختبار الصوفي واحد مهما تعددت تقاليد المتصوفين وتضاربت، ومهما اختلفت طرق التعبير عنه وتباينت. وفي علاقة ميشال الحايك بكمال جنبلاط ذهب الباحث إلى القول إن الحايك كان يصدُق صديقه الزعيم الاشتراكي الرأيَ، وكان رؤيوياً في توقع المصير الذي ينتظره، وقد حذره منه مذ بدأت الحرب. أما ميخائيل نعيمه الناقد الأدبي الصارم فقد طرب لشعر الحايك وأثنى على إبداعاته، وما ذلك إلا لأن الشاعرين الحايك ونعيمه من مدرسة شعرية واحدة عنوانها التجربة الصوفية والتبصر فيها، والتعبير عنها بقوالب لا تقطع تماماً مع العمود الشعري القديم، ولكنها تنوع في البحور والقوافي وغيرها من أشكال التعبير. وعلى وجاهة مقاربة الباحث لويس صليبا لشعر ميشال الحايك، فإنها تُثير بعض الأسئلة منها خاصة أن شعر ميشال الحايك يخلو تماماً من معجم لغوي مُحيل على فلسفة اليوغا، وهو بالإجمال نابع من وعيه بأن الدين إنما هو حاجة وجودية تمنع عن الإنسان الإحساسَ بالاغتراب والوقوعَ خارج الوجود الإلهي، ومن ثم يظل يبحث عن سبيلٍ لإرواء تلك الحاجة ومنها سبيل الكتابة الشعرية.
[1] –