أستاذ الإنكليزية إبراهيم جبر وسعدنات نديم فرحات/بقلم لويس صليبا
الأستاذ إبراهيم جبر في الصفّ (صورة من السبعينات)
الأستاذ إبراهيم جبر (الأوّل يميناً) مع ثلّة من أساتذة الفرير ماريست ويبدو الأستاذ نعيم يزبك الثالث من اليسار
الأستاذ إبراهيم جبر (الصف الثاني الثاني من اليسار) وعن يمينه الأستاذ نعيم يزبك
وممّا لا أزال أذكره عن تلك السنة السنة الدراسية 1976-1977 والصف الرابع متوسّط 3ème، في مدرسة الفرير ماريست-جبيل، بعض سعدنات التلامذة، ولا سيما نديم فرحات، وكان من كبار “الأشقياء” في الصفّ. فخلال حصّة اللغة الإنكليزية عند الأستاذ إبراهيم جبر جاء دوره كي يحلّ التمرين السادس Number six. فصاح عن قصد Number Sex. (Sex: جنس) فصحّح له الأستاذ لفظه، وما كان نديم ليجهل اللفظ الصحيح.
وفي حصّة تالية غيّر نديم مقعده عن قصد ليكون التمرين السادس من نصيبه مرّة ثانية. وعندما جاء دوره صاح من جديد Number sex.
وعندها استشاط الأستاذ جبر غضباً، وبادره ب”العربي المشبرح([1])” لا بالإنكليزية:
-يا أزعر، يا بلا تهذيب كم مرّة قلتلّك number six مش number sex.
وما كان نديم ليرعوي فأعاد الكَرَّة في حصّة ثالثة. فعِيل صبرُ الأستاذ جبر وأراد أن يطرده من الصفّ أو أن يشكوه إلى الإدارة، فتوسّطنا له مع الأستاذ متعهّدين أن لا يعيدها!!
والأستاذ إبراهيم جبر (1923-2000) درّسنا اللغة الإنكليزية على مدى سنوات المرحلة المتوسّطة الأربع. أستاذٌ تقليدي مغرق في تقليديّته، ولا يزيح قيد أنملة عمّا في الكتاب، وكلّ علمه في كتابه كما يقول المثل اللبناني.
وكان الأستاذ جبر ابن ضيعة هي فغال/قضاء جبيل، وتقيّاً وطيّب القلب. وكانت فرصة الظهر في سنوات ما قبل الحرب طويلة وتدوم نحو ساعةٍ ونصف، فكان بعض التلامذة وأنا منهم يذهب إلى منزله خلالها سيراً على الأقدام لتناول الغداء، ثم يعود إلى المدرسة. وذات يومٍ وصلتُ في بداية فترة بعد الظهر متأخّراً بسبب العواصف والمطر. وكانت حصّة الأستاذ جبر. فتحتُ باب الصفّ وكان شَعري متطايراً بسبب الرياح، وما أن أطلّيت من وراء الباب حتى علا الضحك بين زملائي التلامذة. ولم أفهم بداية سبب هذا “الهرج” إلا عندما صاح نجيب القدّوم بصوتٍ تمثيليّ: سعيد عقل، وقالها بأعلى صوته مقلّداً نبرة ذاك الشاعر. ففهمتُ أن شَعري متطاير والغُرّة([2]) فيه عالية مثل غُرّة سعيد عقل.
أما الأستاذ جبر فابتسم محاولاً تهدئة الصفّ، وبادرني قائلاً:
-شو الهيئة الهوا قوي برّا، وفلكشلك([3]) شعرك.
وأوميتُ برأسي أن نعم، وأسرعتُ للجلوس على مقعدي بين الخَجل والابتسام.
وكان الأستاذ جبر يشرح لنا مرّة عن إنكلترا وجامعاتها. ومّما قاله: أكسفورد وكامبريدج هما أهمّ جامعتين في بريطانيا، وكبار رجالات الإنكليز يتخرّجون من واحدة منهما. فغمزتُ صديقي وجاري أنطوان قسطنطين، فرفع إصبعه وسأل:
-إستاذ وإنت متخرّج من أيا وحدة منّن؟
فسكت الأستاذ جبر ولم يجب عن هذا السؤال المحرج واعتبره “لطشة”([4]).
وكان أن جاءت مدرسة الفرير ماريست/جبيل، ومع الأخ الرئيس فرنسوا-جوزف، مدرّسة إنكليزية للغة الإنكليزية هي مدام نون. وكانت من مساعدي الأخ الرئيس المقرّبين. فجدّدت في برامج تعليم الإنكليزية ومناهجها. وكان على الأستاذ جبر أن يتبع هذا التجديد. وكان من جديد تلك البرامج استخدام التسجيلات والأغاني لتعليم الإنكليزية. وخُصّصت غرفة مجهّزة بآلة تسجيل بَكَر (المسجّلات القديمة) وآلة سلايلذ للدروس التطبيقية للغة الإنكليزية. وكنّا ننزل إلى هذه الغرفة مرّة في الأسبوع أو مرّة كلّ أسبوعَين، فيُسمعنا الأستاذ جبر أغنية أو اثنتَين، ويوزّع علينا أوراقاً مطبوعة بكلمات الأغاني. وعندما يدير آلة التسجيل ليسمعنا الأغنية كانت “الهيصة”([5]) تبدأ: هذا يطرب ويغنّي وذاك يصفّق. ويبقى نديم فرحات غالباً “قائد الأوركسترا”. فكان يقف في مكانه ووراء طاولته ويرافق إيقاع الأغنية بالرقص. وما حيلة الأستاذ جبر معه؟!
فكان يبتسم أحياناً له، بيد أنّه غالباً ما كان يغضب ويكزّ على أسنانه لأن نديم “عم يزيدها”.
وما كان بمقدوره أن يضبطه. فأجواء الموسيقى وإيقاعاتها والغناء المفرح كلّها عناصر توحي تلقائياً بالرقص. وعندما كان يستشيط غيظاً وغضباً كان بعضنا يقول له:
-يا إستاذ طوّل بالك عا نديم ما إنتَ أبو نديم (ابنه الأكبر اسمه نديم).
وما كان أبو نديم يُحسنُ أن يطيل باله على نديم!!
وهكذا كانت حِصص هذه الدروس التطبيقية كثيراً ما تنقلب إلى ساعات فرحة ومرحة وأوقات استراحة مستقطعة بين درسَين متعبَين ويتطلّبان التركيز!
[1] -شبرح: على وزن فبعل من شرح: وشبرح الرجل: تكلّم بحرّيةٍ وأسهب أو لم يخفِ سرّاً. ومنها المشبرح: أي على المفتوح وعلى المفضوح. (فريحة، م. س، ص89).
[2]-غُرّة: ضفيرة من الشعر تتدلّى من مقدّم الرأس. (فريحة، معجم، م. س، ص124).
[3]-فلكش: مقلوبة عن فشكل الآرامية الأصل. فلكش الأمتعة : قلّبها وبعثرها هنا وهناك. وفلكش الغرفة: أفسد ترتيبها وقلّب أمتعتها. (فريحة، معجم الألفاظ العامّية، م. س، ص132).
[4]-لَطشة: كلمة انتقاد أو تعبير ساخر. (خطاب، الهادي في الألفاظ العامّية، م. س، ص245).
[5]-هيّص الناس: فرحوا وعيّدوا أو هاجوا وماجوا. وهيصة: صوت الفرح والمرح. (فريحة، معجم الألفاظ العامّية، م. س، ص191.