د. لويس صليبا الأديان والعنف، حلقة من برنامج أ ل م على قناة الميادين، بثّت في 1 آب 2019، حاوره يحيى أبو زكريّا:
يمكن متابعة هذا الحوار فيديو على رابط لقناة الميادين وهو التالي:
https://www.almayadeen.net/Preview/1329269
كما يمكن متابعتها على اليوتيوب على الرابط التالي:
وفي ما يلي النصّ الكامل المصحّح للمقابلة:
يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله، وبيّاكم، وجعل الجنة مثواكم. ارتبط العنف بحركة الإنسان والتاريخ وعلى الدوام كان العنف ملاصقاً لسيرورة التاريخ وحركته، ولذلك نشأ تساؤل محق، هل البشر بطبيعتهم أخيار أم أشرار؟ وهل كان للأديان دور في تعميق انتماء الكثير منهم للعنف والقتل وسفك الدماء؟ أم أن الأديان كانت عناوين سلام وتهذيباً للنفس؟
ويعتقد البعض أن العنف الغريزي هو الدافع وراء استعباد الإنسان للإنسان، ووراء كل إشكال للاستغلال الطبقي، وهو أيضاً الذي يفسّر الحروب والمجازر المتواصلة منذ ما قبل التاريخ. وفي هذا السياق قد يُقال بأن المنظومة الدينية مؤسّسة على مفهوم الحقيقة المطلقة المقدّسة وكل حقيقة مُطلقة هي بطبيعتها إقصاء للآخر سواء كان هذا الآخر بشرياً أو مقدّساً. والحقيقة الإيمانية والكلامية أن الأديان كلها حرصت على تأمين الإنسان في حياته وروحه وماله وعرضه، واعتبرت الأديان أن المساس بالإنسان هو مساس بالله والتعدّي عليه هو تعدٍ على الله وملكوته.
وكل ما حدث في تاريخ البشرية والأديان هو أن النصوص جيّرت لصالح السياسة والحُكم والسلطان. فتم اتخاذ النصّ الديني حصان طروادة للقتل والاستئصال والإفناء والتحالف بين المسدس والمقدّس أو بين النص والسيف هو فعل بشري وليس فعلاً لاهوتياً خالصاً. الرب لا يحتاج إلى الدماء والعنف والكراهية وقد سمّى نفسه الرحمن الرحيم في كل الأديان.
لكن ماذا عن بعض النصوص في اليهودية والمسيحية والإسلام والتي تتضمَّن بعض الإشارات إلى العنف وأوّلت وفُسّرت بطريقة تخدم دعاة العنف والدموية والقتل لله والذبح باسم الله والنسف إرضاء لله؟ كلها كلمات تردّدت عبر التاريخ، تاريخ اليهودية، والمسيحية والإسلام.
لماذا الترابط بين الدين والعنف؟ ولماذا لم يتمكّن التنويريون والفلاسفة والمفكّرون من إنهاء هذا الجدل؟ وهنا أشير أن هناك مدرستين برزتا في مقاربة موضوع الأديان والعنف. هناك من برّأ الأديان بالكامل باعتبار أن مصدرها الله، السلام الرحيم ولا يمكن لمَن كانت هذه صفاته أن يأمر بالعنف، وهناك من تحدّى هذا الطرح وقال جهاراً نهاراً نعم العنف أساس في بنيوية النصّ الديني.
وفي كتابها “حقول الدم” تقول كارين أرمنسترونغ “إن العنف لا يرتبط بالدين ومن الخطأ القول أن الدين عدواني دائماً، فالدين الإسلامي لا يختلف عن اليهودية والمسيحية والهندوسية والتقاليد الصينية، والأديان جميعها تدعو إلى السلم والمحبة والعدل، لكن توظيفها هو المسؤول عن هذا الخلط بين العنف والدين. إن الدين ليس عنيفاً بطبيعته فكل الأديان فُسّرت وأوّلت بتأويلات مختلفة ومتناقضة إن تحت نفس الدين تجد التأويل العنيف كما تجد التطبيق السلمي”.
“الأديان والعنف” عنوان برنامج أ ل م، ويشاركنا في النقاش المفكر اللبناني الدكتور لويس صليبا الأستاذ الجامعي والمتخصّص في الدراسات الهندية والتصوّف وما إلى ذلك. ومن الجزائر الحبيبة الدكتور محمّد الأمين بلغيت المؤرّخ والأكاديمي المعروف.
مشاهدينا مرحباً بكم جميعاً.
يحيى أبو زكريا: دكتور لويس صليبا مرحباً بك.
لويس صليبا: أهلاً بك.
يحيى أبو زكريا: وأنت الباحث الغائِص في كلّيات الفلسفات والأفكار البشرية واللاهوتية، ماذا تقول في إشكالية الدين والعنف؟ هل في الدين ما يوحي لعنف؟ وهو ما يفسّر انتشار العنف في بيئاتٍ دينيةٍ مُتعدّدة، أم أن البشر لوّوا أعناق النصوص في اليهودية والمسيحية والإسلام، وأنتجوا لنا عنفاً على قاعدة أنه باسم الله؟
لويس صليبا: في الواقع علينا أولاً أن نميّز، ليس الدين بالمطلق: الأديان الإبراهيمية بالذات والعنف كانت موضوع كتابين كتبتهما في هذا الشأن.
الكتاب الأول هو “الأديان الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار” وكتاب ثانٍ هو “عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار”. وهو السؤال الكبير الذي طرحته ولا أزال أطرحه، لماذا رافق العنف الأديان الإبراهيمية نشأةً وتطوّراً؟
هل هو ركن من أركان هذه الأديان؟ أم أنه أُلصق بها في ما بعد؟ وكما قلتَ أنت إن النصّ استُخدِم في السياسة وغيرها لتظهير وشرعنة العنف.
سؤال كبير لا أعتقد أنني بعجالة كهذه أستطيع أن أجيب عنه، ولكنني أعود إلى الفكرة البنيوية. هذه الأديان اقترنت بالعنف لأنها في الأساس تعتمد كركنٍ جوهري على العقيدة خلافاً لأديان الهند، أديان الهند يمكن الهندوسي نفسه في البيت الواحد قد يكون هذا كريشناوياً وآخر فشناوي وثالث ملحد تماماً، والثلاثة هم هندوس لأن الدين ليس مبنياً على عقيدة ويتعايشون بصورة طبيعية وهذا ما قالته المستشارة الألمانية أنجيلا ماركال مؤخّراً: في الهند مئات وآلاف الآلهة ومئات الأديان ويتعايشون ولا مشكلة في ما بينهم.
لماذا يتعايشون؟ لأن الدين بمفهومهم أدب حياة، الدين هو طريقة للعيش، الدين هو اختبار وتجربة وليس عقيدة تفصل بين هذا وذاك، وهذا ما أكّدته حكيمة الهند المُعاصرة مآ أنندا مايي (1896-1982) Mâ AnnandaMayi إذ قالت:
Là ou il y a doctrine il y a limitation
حيث يكون عقيدة يكون هناك محدودية. والعقيدة هي التي تفرّق الأديان الإبراهيمية فهي كلّها مؤسّسة على العقيدة: في اليهودية الصيغة التي تجمع مؤمنيها: أذكر يا إسرائيل إن إلهنا إله واحد.
وفي المسيحية الصيغة التي تجمع كل المؤمنين هي قانون الإيمان Credo المسمّى القانون النيقاوي أي الموضوع في مجمع نيقيا: نؤمن بإله واحد آب ضابط الكلّ إلخ، وفي الإسلام ما هي بطاقة الدخول في الدين الحنيف: إنها الشهادتان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّداً رسول الله.
إذًا، لماذا العقيدة هنا ممكن أن تكون مولَدة للعنف؟ لأن في أساس العقيدة هناك موقف إما أن تقول إنها صحيحة فأنت مؤمن، وإما ألا تأخذ بها ولا تعتنقها فأنت كافر أو أنت مُهرطق أو ابتداعي.
وتاريخ الأديان الإبراهيمية مليء بالأمثلة على ذلك. وهذا ما رأيناه مؤخّراً، انطلاقة العنف والإرهاب التكفير. والتكفير ما هي انطلاقته؟ يستند إلى عقيدة معيّنة إما أن تأخذ بهذه العقيدة فتكون مؤمناً وتنجو من القتل والذبح والتكفير، وإلا فأمامك المصير الأسود.
يحيى أبو زكريا: لكن دكتور استكمالاً للإشكالات، هل كان مراد الله المولى عزّ وجلّ هو أن تتحوّل هذه العقيدة التي صاغها إلى فتيل تفجير وصاعِق تفجير؟
لويس صليبا: عندما نطرح مسألة الدين ولا سيما من الجانب الدغمائي Dogmatique سيُطرح هذا المبدأ الأساسي، إما أن تأخذ بهذه العقيدة وهنا تكمن المشكلة، هل الإيمان هو إيمان بعقيدة؟! في العربية هناك تمييز بين أعتقد وأؤمن، عندما أقول لك هل هذا صحيح؟ تقول أعتقد: أعتقد يعني أن جوابك يحتمل السلب ويحتمل الإيجاب، العقيدة بحد ذاتها هي تعبير نسبي عن حقيقة Transcendentale متخطّية، ولكننا نحن جئنا لنقدّس العقيدة دائماً وكأنها هي التعبير الوحيد الذي يجسّد هذه الحقيقة ونقصي غيره من التعبيرات هنا.
يحيى أبو زكريا: وهنا أنطلق إلى الجزائر إلى الدكتور محمّد الأمين بلغيت، استمعت إلى ما قاله زميلي الدكتور لويس صليبا من أن الأديان الإبراهمية حملت من العنف ما لم تحمله الأديان البشرية. دعنا نقول أو الفلسفية كاتجهات بوذا، وكريشنا وطاو أيضاً. هل توافقه الرأي أم لك ما تقوله؟
محمّد الأمين بلغيت: بسم الله الرحمن الرحيم تحية طيبة لك د. يحيى أبو زكريا.
يحيى أبو زكريا: حياك الله.
محمّد الأمين بلغيت: تحية للدكتور صليبا، أنا أخالفه شكلاً ومضموناً، سأبدأ من حيث انتهى الأستاذ الفاضل وأنا أعرفه بشكل جيد بالمناسبة من خلال كتبه ودراساته هو إنسان عاقل، إنسان مهذّب.
يحيى أبو زكريا: صحيح ولهذا أحببناه دكتور محمّد الأمين.
محمّد الأمين بلغيت: أنا أقول ربط العنف، أنا أعرفه بشكل جيد وأعرف معظم ما كتب في هذا الموضوع. لكن أنا أقول إن الديانات الإبراهيمية تحملت أكثر مما ذهب إليه الأستاذ صليبا.
لماذا؟ لأنه لو نأخذ مثالاً من حياة أمّة العرب والإسلام في مراحل مبكّرة جداً، أنا سأبدأ بمثال تقعيدي تاريخي وأنتهي عند المثل الأعلى لله عزّ وجل من خلال حياة المسلمين وغير المسلمين في الغرب الإسلامي والأندلس تحديداً. يذكر بشكل جيد الدكتور صليبا كيف تأسسّت العهدة العُمرية والعهدة العُمرية الذي أشرف على إمضاها في نهاية الأمر هو سيّدنا عُمر إبن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. بالمناسبة أنا وددت أن استشهد بما استمعت إليه في آخر فيديو لرجل نصراني يقول وينتقد انتقاداً كبيراً جداً ما وقع في المنامة والبحرين قال إننا سلّمنا مفاتيح القدس الطاهرة الطيبة إلى أمير المؤمنين عمر إبن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأهل المنامة سلّموها إلى أحفاد شارون.
أنظر جيداً كيف ينظر الناس إلى تاريخنا المشترك على اختلاف تصوّراتنا للأشياء وأدياننا وأعراقنا وإثنياتنا. حينما مر عبد الرحمن بن غنم وهو الذي كان صاغ صيغة جيّدة مع أهل إليا وهي العهدة العُمرية كان قد مرّ بأرض الجراجمة، وأنتم لبنانيون وتعلمون يقيناً سكنى الجراجمة وجبل طوروس، وقال من أنتم؟ قالوا نحن لا دين لنا أي وثنيون، قالوا سنغادر مع بقايا فلول البيزنطينيين في منطقة الساحل الفينيقي. قال لا إبقوا، فأنا ذاهب في مهمة إلى مدينة ما ربما قد تكون صور أو شيئاً من هذا القبيل فإن عدت إليكم رتّبوا أنفسكم على دين من الأديان، ولو يكن ديناً وضعياً كما هي حال الزرادشتية وديانات فارس التي اعتبرها النبي الأكرم محمّد عليه الصلاة والسلام ديانة يحسب أصحابها إن بقوا على دينهم كما كان عليه أهل الذمّة، أي إنهم في ذمّة وحماية وشرف محمّد عليه الصلاة والسلام. لذلك قال فعمّروا المنطقة لا تتركوا ثغوركم في جبل طوروس لهؤلاء الغزاة من البيزنطينيين وقد أسقط عنهم أو عليهم الجزية.
هذا النموذج الأول، والنموذج الثاني هو قضية العنف والقتال في الديانات الإبراهيمية أنا سأعطيك مثلاً، والمثل الأعلى لله عزّ وجلّ سأبدأ باليهودية، في اليهودية هناك فرق وأروع الفرق المعروفة عندنا القرّاؤون وهم يوجدون الآن في الكيان الإسرائيلي ويوجدون في واشنطن يدافعون عن حق المسلمين وجماعة الجهاد الإسلامي وحماس في غزّة أكثر مما يدافع عنها أهلنا في الخليج.
القرّاؤون يتعرّضون إلى أبشع الاستبداد والإبادة في واشنطن حينما يطالبون بحق الفلسطينيين في البقاء وتأسيس دولة، هذه قمّة السلم والأمن والأمان الموجودة في اليهودية التي أصبحت لا تؤمن إلا بتصوّرات جماعة فطير صهيون، أي الذين يسعون من أجل تحقيق ذواتهم وقرابينهم إلا بسفك دم إنسان مسيحي أو مسلم أو هندوسي أو شيء من هذا القبيل.
سنأتي الآن إلى المسيحية وأنا أخاطب رجلاً متميزاً عارفاً بالتصوّف الهندوسي وعارفاً بالكنفوشيوسية وعارفاً بتطوّر النصرانية تطوراً جيداً. لكن أنا أقول من خلال تجربتي كمؤرّخ في تاريخ الغرب الإسلامي إن الغرب الإسلامي والأندلس تحديداً منذ الفتح من 711م وحتى إلى سقوط آخر معقل للمسلمين غرناطة في 1492 عاش المسلم والمستعرب والمسيحي واليهودي جنباً إلى جنب في السكنى لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات لفترة طويلة حتى أصبحت الحياة الأندلسية أروع نموذج تتحدّث عنه الدراسات الأكاديمية في أميركا وبلجيكا وفرنسا وفي الشرق، على أساس أن هذا التعايش الذي أوجده الإسلام في قُرطبة وغرناطة وإشبيليا حتى في زمن تفكّك الدولة الإسلامية إلى أكثر من 22 دولة معروفة بدول الطوائف كان الإنسان لا يحاسب إلا من خلال إبداعه في التأليف والكتابة والترجمة. وعاش اللاوي وعاش اليهودي في إيليشانا وقرطبة ويملك الملايين، ولم يتعرض هؤلاء إلى مجزرة أبداً في تاريخ الإسلام طيلة سبعة قرون كاملة. لذلك أعتقد أن تربط المسائل بالعقيدة أن العقيدة تطلب منك إما أن تكون مع اللون الأبيض أو اللون الأسود هذا خطأ كبير جداً، لذلك أعتقد أن العقيدة هي التي ستحدّد الإنسان الموحِّد وغير الموحِّد.
لكن الإنسان الموحِّد والإنسان غير الموحّد كلاهما مواطنان تحت شعار كبير لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي.
يحيى أبو زكريا: دكتور محمّد الأمين بلغيت أرجو أن تبقى معي.
مشاهدينا سأمضي إلى فاصل، ثم أعود إليكم مباشرة.
“حقول الدم، الدين وتاريخ العنف” كارن أرمنسترونغ.
كشفت كارن أرمنسترونغ عالِمة الأديان البريطانية في مقدّمة هذا الكتاب أن أحد أهدافها لتأليفه هو مقاومة الرؤية المشوّهة للإسلام في أوروبا والتي سادت منذ بداية القرن العشرين ، وأن الهدف الثاني هو محاولة إعادة النظر في الفكرة الرائجة في الغرب بأن الدين هو منبع الحروب والدمار الذي طال الجنس البشري على مر العصور. وعبر رحلة زمنية طويلة بدأتها أرمنسترونغ من عصور ما قبل التاريخ مروراً بالحضارات القديمة وحضارات الأديان الإبراهيمية وصولا إلى العصور الحديثة قامت المؤلفة بالكشف عن الدوافع المركّبة التي أنتجت العنف في الحضارات ما قبل الحديثة، وأبانت عن الكيفية التي استخدمت بها الدول الدين كدرع واقية للمحافظة على وجودها ولصبغ حروبها وعنفها تجاه أعدائها بالقدسية مع محاولة إخفاء دوافعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي كانت السبب الرئيس في العنف والدمار.
أفردت المؤلفة الجزء الأكبر لمناقشة قضايا العنف في الديانات الإبراهيمية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام لظهور قناعة واسعة الانتشار مفادها أن الديانات التوحيدية المؤمنة بإله واحد هي بشكل خاص عرضة لأن تكون عنيفة وغير متسامحة، وفي القسم الأخير من هذا الكتاب استعرضت المؤلفة بواكير ظهور الحداثة ونشوء الدولة العلمانية وعنفها وإقصائها للدين وصولاً لموجة العنف التي برّرت نفسها بطريقة دينية والتي اندلعت في نهاية القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها في عملية الحادي عشر من أيلول سبتمبر عام 2001.
ولقد اعتبرت المؤلفة أن هذا العنف هو ابن الحداثة والدولة العلمانية التي أقصت الدين واستخدمت العنف اتجاه كل من تسوّل له نفسه المساس بدين الدولة العلمانية الجديد، وهو دين الأمّة القومية.
المحور الثاني:
“تفكيك العقل الأصولي، النزاعات الجهادية في الديانات الثلاث الإبراهيمية” صلاح سالم.
طرح الكاتب جملة من المصطلحات التي يجب أن تناقش وتفكك بشكل جدّي في الكتابات الحالية والندوات الفكرية مثل الألوهية القبلية والنزعة التنويرية وروح الصليبية، والمركزية الثقافية الكولنيالية والوحي الإسلامي كدين عالمي والهوية المعاصرة في مرآة الحداثة الغربية وثنائيات مصطلحية مثل: التيار السلفي، الغرب الشيطاني، التيار العلماوي، الغرب الملائكي، التيار التوفيقي، الغرب الإنساني.
تناول في الباب الأول الحكم الفردوسي حول المقدّس والمدّنس وبدأ بعرض العلاقة بين رجل الدين والحاكم وتوظيف كل منهما للآخر، ويستعرض الكاتب العلاقة بين رجل الدين والحكّام في الحضارات القديمة ويفسّر الطغيان السياسي بإنه انعكاس لما كان في الحضارات القديمة من سيطرة إله قوي على بقية الآلهة. ثم يقوم هذا الإله بتفويض سلطته لحاكم، فحمورابي يقول بأن الإله ناداه لكي ينشر العدالة، بينما الملك والإله في الحضارة الفارسية توأم، وتنفرد الكونفوشية بفكرة الثقة بين الحاكم والمحكوم من دون ربط ذلك بالآلهة، وهي أقرب للحضارة اليونانية ، ويمثل التراث اليهودي نقطة التحوّل من طاعة الحاكم إلى طاعة الإله، لكن ذلك أصابه تغيّر في دور رجال الدين الأحبار الذين أصبحوا أكثر خضوعاً للعرش، وهو ما أفرز ثنائية بين من يرى شرعية الدولة وبين من يرفضها.
أما في النموذج المسيحي فتدور المناقشة حول انفصال تاريخي للدولة عن الروحي، الدين كامتداد لفكرة الثنائية الروح والجسد ومنها ولدت ما لقيصر لقيصر وما لله لله. ويستعرض الباحث مواقف الفلاسفة الدينيين من هذه الثنائية.
يحيى أبو زكريا: مشاهدينا أهلًا بكم من جديد، من أدرك حلقتنا الآن نحن نعالج موضوع العلاقة بين الأديان والعنف.
دكتور لويس صليبا من الكتب التي تقارب موضوعنا كتاب لصديقنا المشترك صلاح سالم “تفكيك العقل الأصولي النزاعات الجهادية في الأديان الإبراهيمية الثلاث”. وأيضاً كتاب”حقول الدم تاريخ الدين وتاريخ العنف” لكرين أرمنسترونغ تعرف هي باحثة راقية في هذا السياق.
نعود إلى موضوعنا دائماً كان اليهود عندما يعنّفون يستخدمون التوراة حتى بن غوريون يقول نحن من يفسّر التوراة. أيضاً في المسيحية نفس الشيء لطالما قُتل ناس باسم الصليب هنا وهناك وحتى الخلاف بين البروتستانية والكاثولوكية. في الإسلام أيضاً حدّث ولا حرَج لطالما كان الله تلك المشنقة التي شنق بها الفلاسفة والتنويريّون والعلماء حتى في عصر المؤمنين كانت هناك وزارة لمعاقبة التايجالين وهم مخالفو السلطات العباسية وعلى ذلك فقس.
هل تظن أن النص الديني لم يفهم بطريقة جيدة من البشر؟ وهذا عدم الفهم أو الظنّ الفهمي كما قلت هو الذي أفضى إلى هذا اللغط.
لويس صليبا: لا شك ولا بد من التمييز بين الدين والتديّن، التديّن هو الطريقة الاجتماعية والطقوسية وغيرها لممارسة الدين، ولا بدّ أيضاً من التمييز مثلًا إذا أخذنا الإسلام بين إسلام النص والإسلام التاريخي ثمة فرق شاسع بين الاثنين.
يحيى أبو زكريا: صحيح.
لويس صليبا: مشكلتنا الأساسية أننا نقدّس تاريخنا ونجعله بالقدسية نفسها لقدسية النص، ولا ننظر إليه نظرة نقدية. الديانة الوحيدة التي ميّزت قليلاً هي في الحقيقة ولنقل الأمور كما هي الكاثولكية منذ زمن البابا يوحنا الثالث والعشرون منذ هذا البابا الكبير كفّت الكنيسة الكاثوليكية عن النهج الدفاعي عن تاريخها. فعوض أن تواصل الدفاع عن تاريخها، بدأت بنهج إقراري هدفه أن ترى وأن تعترف حيث هناك خطأ وحيث هناك صواب، وهذا ما طرحه البابا يوحنا الثالث والعشرون عندما قال لنكفّ عن القول أنا على صواب وأنت على خطأ تعالوا لنتصالح.
إذاً هذا التقديس لتاريخنا وعدم الفصل بين النصّ والتاريخ: إذا أخذنا الإسلام الإسلام التاريخي وإسلام النص هو في أساس الكثير من المشاكل، نحن نقدّس العنف حتى في تاريخنا وحتى في التاريخ الحديث. وتقديس العنف من شأنه أن يولّد أيضاً وأيضاً المزيد من العنف.
يحيى أبو زكريا: لكن تقديس العنف ليس تحت مسمّى العنف تحت مسمّى الجهاد والنضال، الذين يقتلون اليوم باسم الله يعتبرون أنهم سوف يذهبون إلى الجنة زرافات ووحداناً، وأن حور العين بالآلاف في انتظارهم؟
لويس صليبا: ذكرت الجهاد الأبحاث الأخيرة لعدد كبير من المستشرقين روجيه إرنلديز (1911-2006) Roger Arnaldez وغيره تبيّن أن نظرية الجهاد في الإسلام متأخّرة، وهي تعود أقلّه ما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لم تكن هذه النظرية على هذا الشكل في عصر النبوّة. هي رُتّبت وطوّرت لتواكب الفتوحات.
إذاً ليس الجهاد في الإسلام والحديث الشهير الجهاد الأكبر هذا أول ما يضربه السلفيون فأول ما يقولونه إن هذا الحديث هو حديث موضوع.
يحيى أبو زكريا: أي تربية النفس.
لويس صليبا: في حين أننا من خلال كل تاريخ الإسلام الصوفي وغير الصوفي الجهاد الأكبر هو الجهاد الأساسي. إذاً نظرية الجهاد بالذات عُلّق عليها الكثير أي وضع عليها الكثير لتبرير الكثير من الممارسات العنفية عبر التاريخ، ولتبرير غزوات وتبرير أمور كثيرة. وكنت لا أودّ أن أدخل في جدل مع ضيفنا العزيز، ولكن بعض الأمور التي ذكرها مجرّد أن يتحدّث عن دين وضعي ودين سماوي هذا أمر ليس أكاديمياً. من يقول أن هذا الدين وضعي. كل الأديان تقول عن نفسها أنها أديان سماوية فكرة الأديان وطرح الأديان السماوية خطأ أكاديمي كبير لأن كل واحد يأخذ شهادة نفسه وليس شهادة الآخر، الهندوسية تقول أيضاً عن نفسها إنها سماوية.
إذا ليس هناك من دين وضعي ولا من دين سماوي عندما ندرس الأديان في علوم الأديان وليس من منظار إيماني، المسلم يقول عن دينه أنه سماوي، الهندوسي يقول عن دينه إنه سماوي. ولكن عبارة الأديان السماوية Religions Célestes ليست موجودة إلا بالعربية فليس في الفرنسية ولا في غيرها من اللغات بدعة أديان سماوية وأديان وضعية.
يحيى أبو زكريا: القول بالسماوية أيضاً، وأنا أحلّل في سياق ما تطرحه من منهجية أكاديمية، القول بالسماوية أيضاً سيزيد في تعقيد الموقف.
لويس صليبا: أكيد لأنني أنا الصحيح وأنت الخطأ.
يحيى أبو زكريا: لأن أي موقف عنفي أتخذه ضدّك يعني هذا قرار السماء لا يجب عليك أن ترد.
لويس صليبا: حتى التعابير التي يستعملها النصرانية هذا تعبير غير مقبول أكاديمياً المسيحية، وإن ورد في القرآن القرآن تحدّث عن أمر آخر عن نصارى الجزيرة.
يحيى أبو زكريا: صحيح.
لويس صليبا: الذين كانت عقيدتهم تختلف تماماً عن عقيدة المسيحيين الآن. تحدّث عن العهدة العُمرية وأنا كتبت كتاباً من 400 صفحة عن العهدة العُمرية وأخذَها مثالاً لغياب العنف.
العهدة العُمرية أتت بنتيجة ماذا؟ أليس بنتيجة فتح القدس؟ أليس بنتيجة عمل عسكري؟ ولا أودّ أن أجادله، لكن فقط بعض الإشارات والملاحظات على ما ذكر.
يحيى أبو زكريا: صحيح. لا بأس بكل الملاحظات نحن هنا في أ ل م نطوّر الأفكار نجعل الأفكار تتلاقح في بؤرة المحبة والاحترام الكامل لكلّ الأفكار والرؤى.
لا إطلاقية في الفكر، كما تعلم الفكر كله نسبي ولا توجد حقيقة مطلقة نهائياً وإلا لكان البشر مُصلحين.
لويس صليبا: خاصة لهذه النظرية الدونية نظرة تحقيرية من قِبَل ما يسمّى بالأديان السماوية أي الأديان الإبراهمية لغيرها عبّر عنه أنه حتى لو كان الدين الزرادشتي هل الدين الزرادشتي أدنى مستوى وأدنى قيمة من دين آخر؟
يحيى أبو زكريا: لا لا طبعاً دكتور محمّد الأمين سيوضح يقيناً هو لا يقصد ذلك لا مشاحّات في الإصطلاحات.
دكتور محمّد الأمين في السياق ذاته عندما تتأمّل إنتروبولوجيا الأديان وتاريخ الأديان صدقاً تجد الجغرافيا التي كانت مرتبطة بالديانات هي أكثر الجغرافيا دموية، والبحوث التي عالجت مسألة العنف هنا أو هناك بعضها لم تكُ صريحة، كل واحد انطلق من موقع التبرير لدينه، المسلم كان يدافع عن الإسلام وإسلامي هو الحق وإسلامي هو الحضارة، والمسيحي كان يقول المسيحية هي الصدق والموضوعية، واليهودي كان يقول أنا قبل المسيحية والإسلام، وبالتالي الشرعية لي وليست لأحد. هل هنالك موضوعية فعلية في قراءة موضوع علاقة الأديان بالعنف؟
محمّد الأمين بلغيت: أنا لن أردّ على الدكتور صليبا الذي أحترمه جداً.
لويس صليبا: أبادلك الاحترام.
محمّد الأمين بلغيت: نحن الآن أفكارنا تتلاقح ونقرأ، لكن قضايا القراءات الخاصة بك تحتفظ بها لنفسك أرجوك لذلك أنا أقول لك أحترمك وأحترم أعمالك الرائدة جدًا، وأنت تستطيع أن تقول ما تشاء. لكن أنا لا أستطيع أن أقول ما تشاء، معذرة.
أنا أرى أن تاريخ الأديان وتاريخ العنف مرتبط ارتباطاً كبيراً جداً بتأويل الإرادات أو توجيه الإرادات. ودعني أقدّم لك مثالاً من الواقع التاريخي من فجر الإسلام الأول في أول صراع بين المسلمين بين أهل الشام وبين أهل الحجاز قيل لعمّار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه وهو واحد من السابقين، قال له أهل الشام ما جاء بكم؟ قال جئنا نقاتلكم، قال لماذا؟ قال قاتلناكم على تنزيله أي حينما عارض مشركو قريش هذا الدين المُنزَل واليوم جئنا نقاتلكم على سوء تأويله.
رجاء هذه قناعاتي، أنا أكاديمي من 40 سنة وأنا كتبي معروفة لذلك أعتقد أنني لا أحتاج إلى نصيحة أي كان. هذا كان قاسياً على سيّدي الكريم وأنا أحترمه احتراماً شديداً جداً، لذلك أعتقد أنه إذا وددنا فعلاً أن نقرأ بداية نشأة العنف علينا أن نتحدث من خلال وقائع التاريخ لأن واقع المسلمين سيتطابق إنطباقاً كاملاً مع ما يدعو إليه النص القرآني من أمن وأمان وسلام واحترام للمخالفين أياً كانت رؤياهم إلى هذا الدين القيّم الذي أصبح الآن يملأ الدنيا، وبالتالي البشر هم الذين أفسدوا علينا روحانية الإسلام، البشر والسلطان هم الذين أوّلوا هذا الدين تأويلاً سيئاً، ولذلك ما دخل السلطان في أمر الدين إلا أفسده.
يحيى أبو زكريا: صحيح صحيح.
لويس صليبا: لم أقل سوى أنه يجب التمييز بين إسلام النص وإسلام التاريخ.
يحيى أبو زكريا: صحيح أنتما متوافقان في المعنى، مختلفان في اللفظ.
محمد الأمين بلغيت: أنا وافقت الدكتور مئة بالمئة في هذه النقطة البشر هم الذين أفسدوا علينا قراءة النص بشكل جيد لأن الأديان تدعو إلى السلم وإلى الأمن وإلى الأمان وحقن الدماء.
يحيى أبو زكريا: صحيح.
محمّد الأمين بلغيت: هل يعلم السيّد صليبا نصاً راقياً جداً هو لزوال الدنيا أقل شأناً عند الله عز وجل بما في هذه الدنيا من مقدّسات بما في ذلك الكعبة المشرّفة عند الله أقل من سفك دم إنسان بريء.
أنظر إلى هذا النص الراقي المتميّز جداً، لكن هل الذين يوجهون الإرادات هؤلاء الذين يبرمجون الآن في عصرنا الحالي البرمجة العقلية لجماعات منذ النشأة الأولى سواء في ديار الإسلام أو في الديار المسيحية أو في أي دار من الدور بما في ذلك الصين وغيرها حيث نسمع ما يقع الآن للروهينغا من تقتيل وسفك للدماء؟ لذلك أعتقد أنه علينا أن نقرأ الأمور بلطف، وأن نتوغّل في هذا الدين كما قال النبي محمّد عليه الصلاة والسلام بلطف لأنه من غالب هذا الدين صرعه.
ولذلك أعتقد الآن التأسيس أو تكوين هذه الجماعات الإرهابية جماعات التفجير وجماعات الإقصاء لم تكن موجودة في زمن الشافعي، ولم تكن موجودة في زمن إبن حنبل، ولا مالك ولا أبي حنيفة.
وأنا أعطيك مثالاً، والمثل الأعلى لله عزّ وجلّ مما يعرف في تاريخنا الطويل والعريض يتحدّث الإمام الشافعي في كتابه الأمّ في المجلد الرابع قال إذا استفرد أهل الذمّة بقرية من القرى في دار الإسلام وتعاملوا بالربا وملكوا الخنازير وشربوا الخمر وتزوّجوا زواجاً غير مقبول شرعاً عندنا في ديننا فلا يجوز للسلطان أن يتدخل في دينهم أو في حياتهم العامة. هذه قمّة وعي هذا الرجل الكريم الغزاوي الشافعي وهو يفسّر مدى تسامُح هذا الدين وكيف كان يقرع آذان وأسماع وعقول السلاطين الظَلَمة الذين يفسّرون هذا الدين على هواهم.
لو نقرأ تاريخنا في الغرب الإسلامي حينما بدأت الحملة الصليبية الأولى بطرس الناسك الذي هو أول من أسّس لما يسمّى القتال من أجل المسيح، الضحية الأولى هي الدولة البيزنطية التي أعطت المسيحية رونقاً متميّزاً وعمراناً وحضارةً وعلماً لم تعرفه البشرية أبداً في هذه الفترة، فكان هؤلاء ضحايا الحملات الصليبية وأنتم تعلمون أنتم أهل الساحل الفينيقي أن أولى ضحايا الحملة الصليبية الثانية والثالثة طرابلس المليونية التي أحرقها الصليبيون باسم الصليب وباسم المسيح عليه السلام وهو بريء من تأويلهم وتفسيرهم ، وهناك ملايين المخطوطات. لذلك أعتقد أن البشر إذا لوّوا أعناق الكلمات فسوف يفسدون ما جاء به الرب.
يحيى أبو زكريا: دعني أعزّز مقولة الدكتور محمّد الأمين بلغيت على امتداد تاريخهم كان الأنبياء دعاة سلام لم يظلموا أحداً حتى في حياتهم، المسيح عليه السلام يسوع المخلّص كان مثالاً للإنسان المتواضع الذي يحنو على الفقراء وينتصر للمستضعفين، رسول الإسلام محمّد إبن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان فريداً من نوعه في الإشفاق على الفلاحين، على البسطاء، على الفقراء، على المساكين، ولم يدعُ إلى قتل. محمّد إبن عبد الله أدخل إمرأة مسلمة النار بسبب هرّة حرمتها الماء، وأدخل إمرأة يهودية الجنة بسبب سقيها كلباً عقوراً ماءً، هذا هو الدين، هذا هو الإسلام، وفي اليهودية موسى عليه السلام كان مثالاً للانتصار للمستضعفين.
إذاً، جاء من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتّبعوا الشهوات، وباتوا يعتمدون على النزوات، وجيّروا الدين لصالح السلطان والجبابرة والديكتاتوريين والجماعات والفئات. فما ذنب هذا الدين دكتور لويس صليبا؟
لويس صليبا: سبق وقلت إنه يجب الفصل وهذا اتفقت به مع الزميل الدكتور محمّد الأمين إنه يجب الفصل بين إسلام النصّ وإسلام التاريخ. ولكننا أيضاً لسنا في مجال الدفاع لا أحب أن أضع نفسي لأدافع عن المسيحية ولكن دائماً كلّما دخلنا في حوار الحروب الصليبية التي مضت عليها 1000 سنة.
محمّد الأمين بلغيت: ولا نريد ما فيها من فظائع.
لويس صليبا: ولكن لابد من تصويب.
يحيى أبو زكريا: من إحقاق العدل.
لويس صليبا: نحن في عالم اليوم الإرهاب فيه يملأ العالم وتعيدوننا دائماً إلى الحروب الصليبية التي مضى عليها ألف عام. تحدّث عن بطرس الناسك وأعتقد ليست الحملة الصليبية الأولى وإنما ما يسمّى الحملة الصليبية الشعبية ما قبل الحملة الأولى، ماذا نريد من هذا دائماً؟ وهذا نوع من تقديس التاريخ كنا نحن مثلاً ندافع بوجه عنف أتانا من الآخر هذا ما طرحه يوحنا الثالث والعشرون، أي لنكفّ عن القول مَن هو على الحق ومَن هو على باطل.
يحيى أبو زكريا: لكن قبل يوحنا الثالث والعشرين محمّد إبن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجّة الوداع دمكم حرام دمكم حرام صرخ في البشر جميعاً لا تتقاتلوا، الدين كدين سواء يسوع أو محمّد أو موسى عليهم السلام جميعاً كرّسوا مقولة السلام. فالقول بأن الأديان طريق للعنف أيضاً فيها إشكالية ما؟
لويس صليبا: أنا لم أقل إن الأديان طريق للعنف، هذا لتصويب الأمور أنا قلت أن العنف رافق هذه الأديان وأنت قلتها ليس أنا، قلت وأعجبتني هذه الجملة الجغرافية المرتبطة بالديانات الإبراهيمية هي الأكثر دموية.
يحيى أبو زكريا: صحيح هذا الواقع.
لويس صليبا: هذا واقع C’est un constat، أليس للباحث أن يطرح هذه الإشكالية الكبرى؟ لِمَ نرى العنف هنا؟ ولم لا نرى العنف هناك؟ في نشأة هذه الأديان الأخرى التي هي أديان الهند وأديان الشرق الأقصى عموماً أي الصين.
يحيى أبو زكريا: جيّد كمستهند أنت دعني أستفيد منك في هذه الجنبة في الهند أشرت إلى 500000 إله وعدد الآلهة في الهند توجد كليات تدرّس فقط عدد آلهة الهند أليس كذلك؟
لويس صليبا: صحيح.
يحيى أبو زكريا: الهنود متعاونون، متسامحون، لا يتقاتلون في ما بينهم، فيما التقاتل في بلاد المسلمين دعنا نقول لِمَ؟
لويس صليبا: في الحقيقة درست هذا الموضوع في كتابي الأخير الذي صدر منذ أيام وهو عن المفكّر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط سأذكر بعضه وهو تناول هذا الموضوع وأنا درسته في كتابي سأقرأ بعض ما قال، يقول جنبلاط: “إذا نظرنا نظرة تاريخية واقعية إلى تعدّد الآلهة، ولا يخلو أي معتقد في النهاية من الوثنية بشكل جزئي أو رئيسي، نرى أن نظام تعدّد الآلهة والتزام كل شعب وكل قبيلة بآلهة خاصة كان يُفسح المجال لما نسمّيه بالتسامُح فلم تكن هناك حروب دينية إطلاقاً” هذا تاريخ. ويضيف “نظام متعدّد الآلهة أفسح المجال للتسامُح بالشكل الأوسع الأقوى.
يحيى أبو زكريا: أعد أعد نظام تعدّد الآلهة أنتج تعايشاً؟
لويس صليبا: أفسح المجال للتسامُح بالشكل الأوسع والأقوى، لماذا؟ يشرح كمال جنبلاط
يحيى أبو زكريا: أنا لن أناقش سأترك الدكتور محمّد الأمين يناقش؟
لويس صليبا: وأيضاً لا أناقش، أنا أعرض ما قاله كمال جنبلاط، كمال جنبلاط هو مفكّر فيدانتي من الفلسفة الهندية النظام السادس الفيدانتا والفيدانتا تقول أي توحيد هو التوحيد الذي يتحدّثون عنه: هذه أديان ثنوية عملت على تنشئة وتنمية ديكتاتورية الإله الواحد مقابل تعدّد الآلهة وبالقوّة.
يشرحها جنبلاط انطلاقاً من مبدأ الفيدانتا يقول: “حتى اليهود العبرانيين والعرب في جاهليتهم كان لهم آلهة إقليمية، فاسم يهوا جيهوفا Jéhovah يعود إلى إله وثني وبالمعنى الصحيح للكلمة إله لبقية الآلهة التي كانت منتشرة على الشاطئ.
وفي اسم الله أيضاً جنبلاط يقول: “كان من ضمن الآلهة المنتشرة في الجزيرة العربية آلهة الأصنام، أو الآلهة الإقليمية مثل اللات والعزة وسواهما” ويضيف: “لو نزل القرآن بجعل كلمة اللات مكان كلمة الله لكانت اللات الإله الشامل”.
إذاً، وحتى لا أُفهم خطأً ماذا تقول فلسفة الفيدانتا: “أن التوحيد الحقيقي هو ما نقوله نحن الفيدانتا He is the One without Second إنه الواحد من غير ثانٍ، أما الأديان الأخرى التي تزعم التوحيد فهي أديان ثنوية أي تقول بالله وبإله الشر الشيطان وغيره”.
يحيى أبو زكريا: دكتور محمّد الأمين بلغيت هنا دخلنا في إشكالية أكبر من الإشكليات الأولى، فماذا تقول؟
محمّد الأمين بلغيت: أنا أريد أن أذكّر الدكتور صليبا الذي يقول إن ديانات الشرق الأقصى في الصين وفي الهند وغيرها لا يوجد فيها عنف هذا مخالف للواقع التاريخي.
يحيى أبو زكريا: كيف؟
محمّد الأمين بلغيت: تذكر جيداً يوم استولى الصينيون على دولة تركستان المسلمة هذه الدولة كانت تضم أكثر من 70 مليون مسلم.
لويس صليبا: عن أية سنة يتحدّث الدكتور؟
محمّد الأمين بلغيت: وغيّرت الأسماء ومنعتهم من استخدام الحروف العربية في لغتهم.
لويس صليبا: أنا لا أدافع عن الصينيين هم بالأحرى الذين سفكوا دماء التيبت، أنا تحدّثت عن الطاوية وليس الصينية.
يحيى أبو زكريا: حتى الهند خاضت أربع حروب مع باكستان؟
محمّد الأمين بلغيت: أرجوك أعطني فرصة أن أتكلّم ولا تقاطعني.
يحيى أبو زكريا: تفضل أتركه يا دكتور يردّ على هذه.
محمّد الأمين بلغيت: أرجوك أعطيني مساحة حتى أتحدّث لذلك أقول لك إن قضية العنف هذه مرتبطة ارتباطاً كبيراً جداً برؤى الناس للمجتمع، أنا أعرف بشكل جيد الصين والصينيين هؤلاء لا يمتّون للصيني شكلاً ومضموناً لباساً وطعاماً فهو عميل وأجنبي وجاسوس على الصينيين، لذلك علينا أن نتحدث كمؤرّخين وكمراقبين بعيداً عن الكيل بمكيالين.
لذلك أعتقد أن الإرادات السياسية أو الدولة هي التي إذا استولت على الدين أفسدته، ولذلك أعتقد الآن أن قضية العنف هذه يجب أن تتذكّر جيداً لماذا منطقة الديانات التوحيدية الإبراهيمية هي أكثر جغرافية عنفاً؟
أنا أقول لك أولاً قضية تذكيري بأن الحملات الصليبية قد مر عليها الآن ألف سنة نحن في الجزائر المسلمة تعرّضنا إلى حملة صليبية بشعة سنة 1830 كانت قد باركتها البابوية إسمع جيداً.
أنا مؤرّخ ولست بائع كتب في الشارع العام، هؤلاء حينما جاؤوا كانوا ثلاثة من استعمرونا كان الفرنسي العسكري يقطع الرؤوس ويبقرون بطون النساء والقدّيس يمسح على رؤوس الثكالى واليتامى والمستشرق لوريون يقوم بتزوير التاريخ على ألسنتنا.
الحملة الفرنسية الأولى كان قوامها أكثر من 47000 عسكري فرنسي جاؤوا باسم المسيح من أجل استعادة الجزائر المسيحية وأنت تتكلّم الفرنسية وأنا أكتب بالفرنسية وقالوا لنا إفريقيا رومانية والجزائر رومانية وقاتلونا باسم المسيحية.
يحيى أبو زكريا: لا لا الجزائر عربية مسلمة.
دكتور محمّد الأمين بلغيت شكراً جزيلاً لك، كنت معنا من أرض الجزائر، جزائر الشهداء والأحرار.
الدكتور المفكر اللبناني لويس صليبا شكراً جزيلاً لك أمتعتنا.
لويس صليبا: أليس لنا كلمة أخيرة أقلّه؟!
مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها إلى أن ألقاكم، هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبداً ودائعه.