“إنجيل الأمّ المغبوطة: حكيمة الهند مآ أنندا مايي سيرتها، تعاليمها، معجزاتها وأمثالها”، تأليف أ. م. لويس صليبا، صدر مؤخّراً عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في 364ص وتجليد فاخر.
مآ أنندا مايي (1896-1982) واحدة من أبرز حكماء الهند المعاصرين. ورغم مقامها السامي في عالم التصوّف، وشهرتها العالمية في هذا المجال، فلم تعرف المكتبة العربية، قبل هذا الإصدار، أيّ كتابٍ لها أو عنها، ومن هنا أهمّية هذا السِفر. وشأنها شأن بوذا وسقراط والمسيح، لم تترك مآ أي إثرٍ مكتوب، بل هي أصلاً لم تتعلّم القراءة والكتابة، ورغم ذلك ناقشت كبار الحكماء والفلاسفة والمفكّرين وفاقتهم معرفة وحكمة. ودوّن تلامذتها ومرافقوها أقوالها وتعاليمها وحكمها وأمثالها وأحاديثها ومحاضراتها، بل هم لم يتركوا أية كلمة لها تضيع هباءً فصدرت عشرات الكتب وبمختلف لغات الهند والعالم التي تجمع مأثوراتها. وكسائر كبار الحكماء جمعت تعاليم مآ الحكمة إلى البساطة. وهذا السفر شاءه المؤلّف تلميذ مآ أن يضمّ أهمّ جوانب هذه التعاليم وأبعادها. فهو في بابه الأول يروي سيرتها ويؤرّخ لأبرز مراحل حياتها من فتاةٍ قروية بسيطة ولدت في أحدى قرى البنغال (بنغلادش) إلى كبيرة حكماء الهند وقدّيسيها ومتصوّفيها في الزمن الراهن. والباب الثاني ينتقي أحداثاً معبّرة وعميقة الدلالة من هذه السيرة ويتوسّع في عرضها وتأويلها، كمثل لقاءتها بالمهاتما غاندي وما دار بينهما من حوارات (ب2/ف30)، أو زيارات الحكيم يوغانندا لها وما نقل عنها من أقوال وأفعال (ب2/ف29). أما الباب الثالث فمخصّصٌ لما روي عنها من معجزات، وهي كثيرة جدّاً انتقى الكاتب أكثرها شيوعاً وتداولاً: شفاءات (ف13-16)، إحياء موتى (ف22)، انخطافات (ف25)، وغيرها.
والباب الرابع، وهو الأطول، يقدّم مجموعة من تعاليمها الصوفية والروحية وحكمها مرتّبة بحسب المواضيع: الله، الأم الإلهية، الذات، المسلك، وغيرها…
وكالمسيح وبوذا وسائر كبار الحكماء علّمت مآ بالأمثال، والباب الخامس والأخير يجمع باقة من أمثالها وحكاياتها التلقينية والتفاسير التي أعطتها لهذه الأمثال البعيدة المغزى مثل حكاية النحلة واللوتس (ف25)، وغيرها. يقول المؤلّف عن عمله (ص8): “استغرق التحضير لهذا السفر سنوات عديدة كان الكاتب يعود فيها إلى مصادر سيرة مآ وتعاليمها في الإنكليزية والفرنسية والألمانية والهندية، يطالع وينتقي حتى تجمّعت لديه أنطولوجيا واسعة انتُخبت من عشرات المصادر”.
وعن عنوان كتابه اللافت يقول (ص9): “إنجيل مصطلح تجاوز مدلولاته الكتابية والبيبليّة الضيّقة ليعني عموماً الكتاب الأساسي (…) والمقصود من استخدام هذه التسمية في عنوان هذا السفر أنّه يحوي زبدة بشارة مآ من سيرة وتعاليم”.
ويؤكّد المؤلّف أن مصنّفه (ص11): “كتاب صوفيّ أكثر ممّا هو تاريخيّ أكاديميّ”، يشدّد على الطابع الروحي والحِكَمي، وإن كان لا يهمل الحدث التاريخي وتأويله.
وعن أسلوب حكيمة الهند، يقول الباحث (ص19): “كلام مآ في حكَمها وسائر تعاليمها، حديثٌ من القلب إلى القلب. وإذا خرجت الكلمة من الفم فلن تتجاوز الآذان، أما إذا خرجت من القلب، فستستقرّ حتماً في القلوب والأذهان، وهذا ما ينطبق تماماً على كلام مآ”.
وممّا يستوقف القارئ في هذا السفر النفيس صوَر هذه الحكيمة التي تزيّن الكثير من صفحاته. وفي ذلك يقول المؤلّف (ص23): “صور مآ ظاهرة صوفية جديرة بالدراسة”، وهو ينقل عن الحكيم أرنو ديجاردان: “كانت صور مآ أنندا مايي، ولسنواتٍ عديدة، تعليماً حقيقيّاً لي، ولكثيرين غيري. بضعُ دقائق من الصمت المتنبّه قبالة الوجه والنظرة المشعّة كانت تمنحني معرفة أكثر ممّا أجد في أحسن الكتب، معرفة حقيقيّة تغيّر من يحصل عليها”.
وكانت مآ محور تلاقٍ وحوار بنّاء بين الهندوسية وكلّ من الإسلام والمسيحية. ولدت ونشأت في بلدة ذات أكثرية سكّانية مسلمة، وشاركت المسلمين صلواتهم ورتّلت القرآن، وكبّرت. وعرفت المسيح وأمّه مريم معرفة صوفية اختبارية وشابهتهما سيرة وفضيلة وتعاليم.
فلهذه الأسباب مجتمعة، ولكثيرٍ غيرها، فهذا السِفر بنصوصه وصوَره وإخراجه تحفة جديرة بأن تكون “كتاب المخدّة” لسالكي درب التصوّف والتحقّق، ففيه يجدون زاداً يوميّاً يدفعهم باستمرار إلى متابعة المسار.