“الرغبة المبتسرة: محاولات وأبحاث في المحرّم” دراسةٌ وديوان للدكتور لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون، في ط2، في 272ص وتجليد فنّي فاخر.
يفلحُ الغلاف المميّز في نقل أجواء هذا السِفر: أحمر بلون الرغبات والشهوات، وأسود يرمز إلى صدّها وبترها. الأحمر والأسود كما يقول الأديب الفرنسي ستاندال في روايته الشهيرة التي تحمل هذا العنوان. أمّا اللوحة ففنّية مشهورة تصوّر مشهداً من الكتاب المقدّس/سفر نشيد الأناشيد، وفيه عروس النشيد تبكي، على أسوار أورشليم، حبيبها الضائع: {حرّاس الأسوار نزعوا إزاري عنّي. أستحلفكن يا بنات أورشليم أن تُخبرن حبيبي حين تجدنه أني مريضة من الحبّ} (نشيد 5/7-8).
قدّمت للديوان الشاعرة والصحافية ماجدة داغر، وممّا قالت (صIII): “يُغري نداء لويس صليبا لسماع الأصوات الكثيرة فيه. أصواتٌ تختزنُ حضارات وتواريخ وأناشيد وابتهالات وطقوساً…وشعراً…فمدارات الرغبة تغلّف النصوص المتهافتة بشبقٍ أدبيّ فريد، يصنع توليفة مبتكرة فيها علميّة البحث، ودقّة التوثيق، وفيها سحر التاريخ وعظمة الأسطورة وتَورياتها. أما في ثناياها فجماليّة الشعر، وانثياله بين حكايات المؤلف وأغانيه”.
أما الباحث/الشاعر فيقول في تقديمه (ص11): “رغبة بُترت وابتسرت… فولّدت وجعاً يئنّ ويصرخُ في الوجدان…فتساقط الأنين لتلتقطه الأوراق…حبراً يقطر من جرح”. ليختم قائلاً: “الرغبة في الجسد هي. وكثيرة هي المسالك التي تنطلق من أحاسيس الجسد وتستند إليها للوصول إلى ما وراء الجسد. وفي هذا تكمن مفارقة الاختبار الصوفي. كلّ ينطلق من الجسد، من وعينا لأحاسيسه. البعض يبقى العمر في دائرته…والبعض يكسر الحلقة، يصعّد الرغبة في قنوات أخرى…إلى مقامات أخرى أبعد من الجسد”.
والباب الأول رحلة في نشيد الأناشيد من البيبليا، والذي وُصف بأنه “أجمل نشيد في الكون”. ولكن لِمَ يستهلّ الشاعر ديوانه بدراسة النشيد السليمانيّ الشهير؟! يجيب (ص18): “لا شكّ أن في الجدل الذي دار حول هذا السفر النفيس، وفي مستويات الفهم لمضامينه إضاءة على الإشكالية التي تطرحها محاولاتنا: الحبّ الجسدي وسائر وجوه الحبّ. المحرّم وقمع التحريم لكثير من عواطف الإنسان وأشكال حبّه”. ومن النشيد السليماني ننتقل مع الباحث/الشاعر إلى آخر أكثر قِدماً منه. إنه أنشودة ياما ويامي من أقدم كتاب في العالم: ريك فيدا. يعرّب الكاتب هذا النشيد ساعياً إلى الحفاظ على جوّه الشعري المبدع، ويقدّم له بدراسة توضح مرامية وخفايا معانيه. ونقرأ في هذا النشيد قول ياما الإنسان الأول (ص77): {وأنتِ أيا يامي. ألا ضمّي إليك رجلاً آخر وليعانقك كما تلفّ العريشة الشجرة وتحضنها من كلّ جانب. وليكن اتّحادكما هنيئاً}.
والجولة في أناشيد الشاعر تطول. لذا نكتفي بقطف زهراتٍ منها. نقرأ من قصيدة بعنوان “ثوبك جنّة وجحيم” (ص98): “ليلٌ…ونهارْ/ دهشةٌ وانبهارْ/ جنّةٌ…متعةٌ للأنظارْ/ وجحيمٌ يشعلُ الأهواءَ بالنارْ/ ذاك رداؤك اليوم صارْ/ بياضه براءة الأطفال الأطهارْ/ وسواده رغباتٌ هاجهةٌ…تُثارْ.
ومن قصيدة أخرى نقرأ هذا التودّد الاستغفاريّ (ص135): “أزينبُ اسمكِ عندي للحبِّ رديفْ/ أذكُرُهُ فالكثيفُ يستحيلُ اللطيفْ/ هلّا غفرتِ الآن دون تسويفْ/ فالمغفرةُ آيةٌ لم تعرفِ التحريفْ”
ومن قصيدة ثالثة: “قُبلة في معبد” (ص153): “صلاتُنا دعواتْ/ ارتفعت وابتهالاتْ/ وقبلةٌ هبطتْ/ استجابةً للصلواتْ/ أتكونُ القُبلةُ صلاةْ؟!/ شوقُ الاتّحادِ صلاةْ/ وللخالقِ مناجاةْ/ وقُبلةُ المحبّين المتوحّدين/ ترنيمةٌ للرحمن…والحياةْ”.
ونتوه في حكايا الشاعر. فعن ورطةٍ غراميّة يروي (ص170): “كيف الخروجُ دون أن يعرف الناطورْ/ بابه مفتوحٌ، والبابان متجاورانْ/ أنظرُ حولي، فإذا فُتحةٌ في السورْ/ هبطَ الليلُ، فلن يرى الجيرانْ”.
والخلاصة فجدليّة المقدّس والدنيويّ تجوب قصائد هذا الديوان، بل هي تطغى على جوّها العامّ. فمعظمها يتنازعه قُطبان: العشق الصوفي أو الإلهي…وتَجسُّده أحياناً في العشق البشريّ. والشاعر مشلّعٌ بين القطبين هذين: فهل بمقدوره أن يجمع الليل والنهار كما جمعهما ذاك الثوب؟! ولكن أبسببِ هذا التشلّع المؤلم تقفُ رغباته دوماً أمام جدار، فيكون مصيرها الحتميّ الابتسار؟! يبقى التساؤل مطروحاً، وجوابه مجرّد تخمين، ولعلّ البيت الأخير خير ما يعبّر عنه (ص229): “اليوم حول الهيكلِ طفنا/ فمتى، متى ندخلُ قدسَ الأقداسْ؟!”