مقدمة كتاب اليوغا في الإسلام_د. لويس صليبا

بعد “اليوغا في المسيحية”([1]) ها هو اليوغا في الإسلام يبصر النور. ولكن شتّان بين الكتابين بنية ومنهجاً  ومقاربة. “اليوغا في المسيحية” ينطلق من نصوص القديسة تريزا الأڤيلية، ومن اختبارها وتجربتها، ويقرأ هذه التجربة قراءة يوغية ليستخرج منها جوامع ومحاور مشتركة بين التقليدين الصوفيين المسيحي والهندوسي، ويبحث في مدى التفاعل المحتمل بينهما. أما “اليوغا في الإسلام” فيستند إلى نصّ واحد: كتاب باتنجل الهندي(ك ب) الذي وضعه البيروني، أو بالحري، ترجمه منذ نحو ألف عام، وبقي ضائعاً مدّة قرون.وهذا النصّ، على قصره، فتح مبين في عالم التصوّف والأديان المقارنة. فهو ليس أول ترجمة لِ “إنجيل اليوغا” أي كتاب “يوغا سوترا” لِ باتنجلي  إلى لغة أجنبية وحسب، بل هو، على الأرجح، أول ترجمة لكتاب هندي مقدّس أو فلسفي إلى لغة أجنبية.

   وبعد أن أنهى الباحث مصنّفه الأول رغب في  وضع آخر مماثل في الإسلام. ولكنه تذكّر كتاب باتنجل للبيروني  الذي عرفه مذ كان يحضّر أطروحة الدكتوراه([2]) ،ورأى من المفيد العودة إليه، والبحث عن صورة لمخطوطته الوحيدة،  وهكذا كان. وظنّ في  البداية أن العمل على نصّ واحد لن يتطلّب من الجهد والوقت ما استغرقه العمل على نصوص عديدة في اليوغا في المسيحية. ولكن سرعان ما تبيّن له أنه أخطأ التقدير. فالعمل في تحقيق المخطوطات القديمة وفكّ رموزها يستلزم من الوقت والجهد أضعاف ما يقتضيه العمل في الكتابة والتأليف. والمحقّقون غالباً ما تُغبن حقوقهم المادّية والمعنوية في آن، كما سيرد في ب1/ف6 من هذا الكتاب.

 ولا يرى الباحث/المحقّق  ضرورة هنا لعرض منهجه في تحقيق مخطوطة البيروني ونشرها، فذلك مشروح في ب1/ف6 من الكتاب.

 وتبقى الإشكالية الكبرى التي تحاول هذه المقدّمة التصدّي لها  هي أن نصّ ك ب (أي كتاب باتنجل للبيروني  كما سيشار إليه غالباً في هذه الدراسة) لو طبع لوحده فلن يتخطَّى حجمه في أقصى الحالات الأربعين صفحة، في حين أن حجم هذا الكتاب يفوق حجم متن ك ب  بنحو عشرة أضعاف!! فإلى ماذا يعود ذلك؟!

هدف الباحث/المحقّق كان في الأساس معرفة مدى التفاعل بين التقليدين الصوفيين  الهندي والإسلامي، وبالتالي هل من أثر للأول في الثاني؟ فسعى أن يجد عند البيروني جواباً عن سؤاله. والدراسة التي تسبق النصّ المحقّق تتمحور في الأساس حول هذا السؤال المركزي.

والفصل الأول:ب1/ف1: “باتنجلي مؤسّس نهج اليوغا” مدخل ضروري إلى اليوغا وكتاب باتنجلي: اليوغا سوترا. وهو يعرّف بالكاتب الهندي Patanjali وعصره وطريقة تأليفه  وأبرز مفسّري الكتاب. ويورد بالإضافة إلى ذلك عدداً  من التعريفات اللازمة لولوج عالم اليوغا وباتنجالي: ما هي اليوغا؟ ما هي السوترا؟ إلخ…

 والفصل الثاني:ب1/ف2: “البيروني مترجم باتنجلي” يلج في عالم البيروني، فيختار من سيرته ما يتعلّق مباشرة بالهند: كيف عاش في حاشية السلطان محمود غازي الهند ورافقه في حروبه، علم أبي الريحان وأخلاقه، مناظرته مع ابن سينا، لينتقل بعدها إلى الحديث عن مؤلفاته وأسلوبه، ويتوقّف خصوصاً عند ما يتعلّق منها بالهند. ويعرض لمشروعه في ترجمة كتب الحكمة الهندية والذي لم يصلنا كاملاً منه سوى ك ب. ويدرس ب1/ف2 حِكَم البيروني والأثر الهندي المحتمل فيها. ثمّ يختم ببحث في ديانة البيروني ومذهبه، وكيف يتنازعه السنّة والشيعة، وكلّ ينسبه إلى مذهبه، ويتشبّث بتبيان انتمائه إليه. ويبحث في سبب هذا الالتباس، وفي كره أبي الريحان للمذهبية.

     ماذا الآن في الفصل الثالث: ب1/ف3: “مخطوطة ضاعت فوجدت”. كما يشير عنوانه، يبحث هذا الفصل في حكاية مخطوطة كتاب باتنجل منذ أن عثر عليها المستشرق ماسينيون إلى أن نشرها المستشرق الألماني ريتّر، وأبرز من درسها من المستشرقين. ويورد كذلك كل ما قاله البيروني عن هذا الكتاب في مصنّفاته الأخرى. ويتوقّف عند إشكالية عنوان المخطوط وبعض المصطلحات غير الدقيقة الواردة فيه، مثل جوكا عوضاً عن يوغا وغيرها. وينتهي الفصل بالتدقيق في مسألة مهمّة:  ألا وهي عمل البيروني في ك ب، فهو لم يترجم الكتاب وفق مفهوم الترجمة في أيامنا، بل تصرّف بالمتن، وقلب أسلوبه، وحوّله إلى سؤال وجواب، وخلط اليوغا سوترا بشرحها مستعيناً بتفاسير مكتوبة حيناً، وشفوية أحياناً. فخرج ك ب العربي من بين يديه، وكأنه لا صلة مباشرة بينه وبين نصّه الأصلي أي يوغا سوترا. فخاله العديد من الباحثين كتاباً آخر مستقلّاً عن هذا الأخير. وفي نهاية الفصل إشارة إلى أن ك ب  للبيروني لم يلقَ حتى اليوم اهتماماً من الباحثين العرب والمسلمين. لذا فالمصنّف الموضوع الآن بين أيدي القرّاء أوّل   دراسة عربية عنه.

 والفصل الرابع: ب1/ف4: “البيروني والهند ولغتها” يركّز على أبي الريحان في علاقته  بالهند: كم أقام فيها؟ وما مدى صحّة ما أشيع عن تعلّمه لغتها أي اللغة السنسكريتية؟ وإلى أي مدى أتقنها؟ ويخلص إلى ما يخالف تماماً ما قاله الباحثون العرب في هذا الصدد. فإقامة الأستاذ الرئيس في شبه القارة لم تتعدَّ، في غالب الظن، الفترة التي استغرقتها غزوات سلطانه محمود الغزنوي. أما معرفته للسنسكريتية، فمقصورة على بعض المبادئ الأولية. وهو لم يعرف حتى فكّ رموز حروف هذه اللغة. كيف قُيّض للأستاذ الرئيس إذاً أن ينقل إلى لغة الضاد هذا الأثر الفلسفي  والصوفي القيّم؟! يبدو التقليد الشفوي  هو الحلّ لهذه الأحجية، فقد استعان أبو الريحان بعلماء هنود: بانديت قرأوا له الكتاب، وشرحوه وفسّروه. وربّما كان بعض هؤلاء يعرف العربية. ثمّ عمل هو على تدوين ما سمع منهم بالعربية، أو نقله إليها عندما تدعو الحاجة. ويورد الفصل بيّنات وبراهين على كلّ ذلك، ويشير إلى حيث أصاب الأستاذ الرئيس في ترجمته، ولا يغفل أخطاءه كذلك وأسبابها. وإذا كان هذا الفصل قد نزع عن البيروني هالة الإعجاز التي أحاطه بها الباحثون العرب،  فهذا لم يكن غرضه، ولكن كان لا بدّ من ذلك لوضع مساهمة الأستاذ الرئيس في موضعها الصحيح، وتوضيح ما لها وما عليها. وذلك في سبيل فهم صحيح لِ ك ب وما يطرح نصّه على الباحث والقارئ من إشكاليات.

 والفصل الخامس: ب1/ف5: “كتاب باتنجلي للبيروني وكتابا الهند واليوغا سوترا” يدرس الفروقات بين ك ب وأصله السنسكريتي “اليوغا سوترا” وأسباب الفروقات الشاسعة بين الكتابين. ويعرض نظريات العلماء وتعليلهم لهذه الظاهرة. بعضهم قال إن الكتابين مختلفان تماماً، وهؤلاء عموماً لم يتيسّر لهم الاطّلاع على ك ب، إذ كانت مخطوطته لمّا تزل ضائعة. ومنذ زمن ريتّر محقّق المخطوطة التي اكتشفها ماسينيون تغيّرت النظرة، ولكن بقيت إشكالية مهمّة: عن أي تفسير لليوغا سوترا نقل البيروني شرحه الذي خلطه بالمتن  وخرج بكتاب واحد يستحيل فيه الفصل بين الاثنين؟! والشرح الذي ضمّنه الأستاذ الرئيس لا يتطابق مع أي من التفاسير المتداولة والمعروفة لليوغا سوترا، فعن أي مصدر نقل؟ عن شرح لا يزال مخطوطاً أو لعله ضائعاً يقول المستشرقان بينيز وغيلبلوم اللذان نقلا ك ب إلى الإنكليزية وعلّقا عليه. ويخلص هذا الفصل إلى عرض رأي كاتبه في هذه الإشكالية التي حيّرت الدارسين، وهو يميل إلى القول إن البيروني نقل، على الأرجح، عن تقليد شفوي أخذ عن مختلف التفاسير المتداولة وزاد عليها، وهذا ما يفسّر تقاطعه مع هذا التفسير تارة ومع ذاك طوراً، وتميّزه عنها كلّها أحياناً. ويورد ما تيسّر له من أدلّة على ذلك. وينتهي الفصل بإشارة إلى عمل البيروني في أسلمة العديد من مفاهيم اليوغا، ممّا زاد الفجوة بين كتابه وأصله السنسكريتي عمقاً.

وفي الفصل السادس: ب1/ف6: “منهجنا في التحقيق والتعليق على كتاب باتنجل الهندي للبيروني” يعرض الكاتب/المحقّق طريقته في تحقيق مخطوطة ك ب ونشرها، وكيف وأين استفاد من أعمال سابقيه ولا سيما ريتّر أول محقّق، وبينيز وغيلبلوم P&G وهما أول من درس ك ب وترجمه إلى لغة غربية. ويذكر أيضاً النقاط التي تميّز بها عمله عمّا سبقه. ليخلص إلى كلمة عامّة بشأن ما يواجهه محقّقو النصوص العربية التراثية اليوم من مصاعب  وهدر لحقوقهم وجهودهم.

  والفصل السابع والأخير من الدراسة: ب1/ف7: “البيروني: تأثراته الهندية وتأثيراته” هو الأطول والأبرز. ففيه توضع مساهمة الأستاذ الرئيس أبي الريحان البيروني في ك ب على محكّ النقد، وتغربل لتمييز ما لها ممّا عليها. فيتّضح أن كفة الإيجابيات ترجح ب«سهولة على الكفة المقابلة والتي تحمل السلبيات. وأوّل ما يدرسه هذا الفصل الطويل منهج أبي الريحان. ولا يمكن فهم خاصّية منهجه الرائد المحايد إلا بالعودة إلى دوافعه في الكتابة. وطالما كرّر الباحث/المحقّق مقولة له تختصر بكلمات ثلاث: الدوافع تحدّد المناهج([3]) .ولمّا كانت دوافع الأستاذ الرئيس محض معرفية جاء منهجه رائداً في الحياد والموضوعية والأسلوب التقريري.  وهو يقارن ولا يفاضل. يقارن بين يوغيي الهند وصوفيي الإسلام ونسّاك المسيحية، فلا ينحاز لأي منهم، ويجد نقاط شبه بل تفاعلاً وتأثراً بينهم. ويقارن كذلك بين عقائد فئات أربع: الهنود، وقدامى اليونان، والنصارى، وأهل الإسلام. فيعرض المشتركات بينهم، ويشير إلى حيث تلتقي هذه العقائد وحيث تختلف، من دون مفاضلة أو انحياز. ومن هنا اعتبر رائداً في علم الأديان المقارنة، ومن مؤسّسي هذا العلم الذي تزداد أهمّيته وتأثيره يوماً بعد يوم في زمننا.

ويتوقّف هذا الفصل(ب1/ف7) عند توفيقات البيروني في ك ب، ومنها اختياره الناجح لعدد من التعابير العربية التي تترجم مفاهيم ومصطلحات هندية يوغية. فهو يترجم مثلاً Dharma  القانون أو النظام الكوني بِ: السنّة او سنّة الحياة. ويترجم Chitta الفكر أو الذهن بِ: النفْس، كالنفس اللوامة طبقاً للتعبير القرآني. ويترجم السيدها Siddha أي اليوغي صاحب القدرات الخارقةبِ: الزاهد. وهي لفتة حاذقة بارعة منه للإشارة إلى أن السيدها الحقيقي هو من زهد في القدرات الخارقة التي وصل إليها، وليس من استخدمها.

   وبعدها يعرض هذا الفصل الأخير من الدراسة للأثر الهندي المحتمل في فكر أبي الريحان  ومنظومته الفلسفية والعلمية، فينفي ما روّج له بعض الكتّاب العرب من إيمان للأستاذ الرئيس بالتقمّص، في حين يؤكّد تبنّيه لعقيدة هندوية/يوغية أخرى: الزمن الدائريYuga وتعاقب العصور والأجيال في حقبات وحلقات دائرية Yugas ولعقيدة أخرى: شمولية الخلاص التي تقول بها الفلسفة الهندية، وتتلخّص في قول الحكيم ڤياسا يكرّره أبو الريحان مراراً في ك ه : «إعرف الخمسة والعشرين بالتفصيل والتحديد، ثمّ الزم أي دين شئت، فعقباك الخلاص.»

   ويشير ب1/ف7 إلى أثر الإسلام في عرض البيروني لعقائد الهند، ليخلص ويختم ببحث في أثر الأستاذ الرئيس في الفكر الإسلامي. فيتبيّن أثراً له في مؤرّخ آخر عاصره هو الكرديزي، وأثراً آخر في الطرق الصوفية التي تنازعت دعوى انتمائه إليها. ويورد نصّاً طويلاً للغضنفر التبريزي يظهر مدى تأثير البيروني في بعض كبار المتصوّفين.

وبالفصل السابع(ب1/ف7) تنتهي  الدراسة المطوّلة ليبدأ بعدها الباب الثاني من هذا السفر، والذي يقدّم المتن المحقّق لِ ك ب للبيروني مذيّلاً بكمّ من التعليقات والحواشي يبلغ أضعافاً مضاعفة من حجم المتن. أمّا منهج التحقيق وطريقته فمعروضان في ب1/ف6 ولا ضرورة للتكرار. فماذا إذاً عن الحواشي والتعليقات؟ في الفصل الآنف الذكر: ب1/ف6 شرح وافٍ لأقسامها وفئاتها. فما الذي يمكن أن يُضاف عليه؟!

 لا بدّ من كلمة بشأن أبرز مصادر هذه الحواشي، وهي ثلاث:

1- تحقيق المستشرق هلموت ريتّر لِ ك ب.

2- ترجمة المستشرقين بينيز وغيلبلوم P&G الإنكليزيةلِ ك ب.

3-ترجمة أستاذنا المرجع في الدراسات السنسكريتية والعلوم الڤيدية العلاّمة روبير كفوري([4])  لِ: “يوغا سوترا” إلى الفرنسية، والعربية من ثمّ.

 

1- فبشأن تحقيق ريتّر، كان لزاماً على الباحث/المحقّق أن يستأنس به. فتجاهله هو الخطأ بعينه. والعلم لا يتطوّر  وينمو إلاّ بتراكم المجهودات والمساهمات. وللمستشرق ريتّر دور الريادة في ك ب للبيروني ، وتحقيقه للنصّ يبقى حجر زاوية في كلّ عمل لاحق يدرس هذا الكتاب أو يحقّقه وينشره. والدراسة والتحقيق والتعليق هي تحديداً لُحمة هذا السفر وسُداه. ([5])

2- ترجمة المستشرقين بينيز وغيلبلوم P&G الإنكليزية لِ ك ب والدراسة والتعليقات الملحقة بها، وهي، مع الأسف، ليست الأولى وحسب، بل والوحيدة حتى صدور هذا السفر. وهذا الأخير يبقى، حتى تاريخه، الدراسة العربية الأولى والوحيدة لِ ك ب. ومن المؤسف حقّاً أن يجهل، أو يتجاهل، الباحثون العرب دراسة هذين المستشرقين لواحد من المصادر العربية البارزة في الفلسفة وعلوم الأديان أي ك ب للبيروني.   

  وقد صعب على الباحث/المحقّق الحصول على نسخة من هذا العمل الجليل. فمكتبات لبنان العامة تخلو من أعداد المجلّة العلمية التي صدر فيها تباعاً على أربع حلقات. ومن المؤسف أنه لم يصدر حتى يومنا في كتاب مستقلّ. فكان لابدّ من تكبّد مشقّات مالية ومادّية جمّة للحصول على نسخة  منه. إذ لا يمكن لأي باحث رصين في ك ب أن يتجاهل هذا العمل أو يتجاوزه. ولكن، وبالمقابل، فهذا لا يعني حتماً تبنّي كلّ ما جاء فيه، ولا حتى أكثره. وهذا تحديداً ما كان موقف الباحث/المحقّق من عمل  P&G. فقد عاد إليه واستأنس به في كلّ شاردة وواردة، فخالفهما مرّة، ووافقهما مراراً. وبكلمة فهو يقرّ بأن عمله في الحواشي والتعليق ما كان على ما هو عليه الآن لولا مساهمة  P&G الرائدة في هذا المجال. ولكن ذلك لا يعني أن العمل الحالي في التعليق والتحشية مجرّد ترجمة لتعليقات هذين المستشرقين الإنكليزية. فقد خالفهما في الكثير ممّا ذهبا إليه،  وأضاف الباحث/المحقّق الكثير من عنديّاته، مستنداً إلى خبرته الطويلة الأمد في حقول الدراسات الهندية والإسلامية. والحواشي والتعليقات على متن ك ب تشهد على ذلك.

3- أعمال العلاّمة المستهند روبير كفوري، ولا سيما ترجمته الفرنسية والعربية من ثمّ لكتاب “يوغا سوترا”.  والباحث/المحقّق عاد إلى الكثير من ترجمات اليوغا سوترا لپاتنجلي كما تشهد على ذلك تعليقاته وحواشيه وفصول دراسته السابقة للمتن المحقّق. واستخدم كذلك النصّ السنسكريتي الأصلي لليوغا سوترا، والترجمات الحرفية وما بين السطور له. ولكن من بين كلّ هذه المصادر العديدة، فهو يرى من واجبه التنويه بعمل أستاذه العلاّمة روبير كفوري المرجع في الدراسات السنسكريتية والعلوم الڤيدية في ترجمة نصّ پاتنجلي إلى الفرنسية، ومن ثمّ إلى العربية. فالباحث/المحقّق تعلّم اللغة السنسكريتية على يد العلاّمة كفوري، ومن خلال “يوغا سوترا” تحديداً. ومن هنا فقد آثر مراراً ترجمته، ولا سيما الفرنسية، على سائر الترجمات، لأنه شهد ولادتها ووضعها، وأصغى إلى شرح العلاّمة لها وتبريره اعتماد هذا المعنى أو هذه الصيغة أو هذا التأويل  دون غيره، بل وشارك أحياناً في ذلك. وهو وإن كان يقرن ترجمة كفوري دوماً بالترجمات الأخرى، ليصل بالنتيجة إلى ترجمته الخاصّة، فإنه، ورغم ذلك، يرى لزاماً عليه أن يقرّ له، بتواضع المريد أمام شيخه، بفضل الريادة المقرونة بالخبرة والتجربة وطول الأناة(الصبر).

  وختاماً يبقى السؤال مطروحاً وملحّا في طرحه: هل من يوغا في الإسلام؟! اليوغا نهج ومسلك كما يوضح ب1/ف1 من هذا السفر. والتصوّف هو، في الحقيقة وببساطة، اليوغا في الإسلام، كما هي اليوغا، بالبساطة عينها، التصوّف الهندوسي أو الهندويّ. فأين تتلاقى اليوغا والتصوّف وأين يفترقان؟! وماذا يقول البيروني في هذا الشأن؟

لا يتيح حجم هذا المدخل تقديم إجابة موسّعة عن هذه الإشكالية الخطيرة. لذا يبدو الاقتصار على رأي الأستاذ الرئيس أمراً حتمياً هنا:

  1- فالبيروني يؤكّد من ناحيته تأثّر التصوّف الإسلامي باليوغا، وعبارته الشهيرة، خير دليل على ذلك، يقول: «وإلى طريق باتنجل ذهبت الصوفية في الاشتغال بالحقّ.» (ك هـ، ص 66) و(ب1/ف7، فق: البيروني ومسألة التأثر).

2- شرح أبي الريحان لمصطلح: التصوّف، وإعادته إلى أصول يونانية، دليل آخر على قوله بالأصول غير الإسلامية للتصوّف الإسلامي.(ب1/ف7)

3- وطرحه في مقدّمة ك ب يذهب في الاتجاه عينه: «هؤلاء [الهنود] قوم لا تخلو أقاويلهم في نحلتهم عن قضايا التناسخ وبلايا الحلول والاتحاد والتولّد لا على حكم الولادة. ولذلك إذا سمعت أقاويلهم تراح منها روائح مركّبة من  عقائد اليونانيين، وفرق النصارى، وأئمّة الصوفيّة.»

وهو في الخاتمة يعود إلى الطرح إيّاه، فيقارن بين يوغيي الهند، ومتصوّفة الإسلام، ونسّاك النصرانية. إنها وحدة الاختبار تجعل من المقارنة أمراً حتمياً وعفويّاً.

  وكلّها أمور تؤكّد أن البيروني يرى أن العلاقة بين متصوّفي الهند أو اليوغيين، وسائر المتصوّفين من مسلمين، ونصارى، ويونان تتخطّى مسألة أوجه شبه وحسب، لتصل إلى تفاعل وثيق، وجدليّة تأثر وتأثير.

  جواب البيروني إذاً واضحٌ جليّ: أجل في الإسلام يوغا، والمتصوّفون المسلمون هم يوغيّو الإسلام الذين أخذوا عن اليوغا الكثير، ويجمعهم بيوغييّ  الهند وحدة الاختبار فيما هو أبعد وأعمق من اختلاف  العقيدة والثقافة والتقاليد.

           ل. صQ.J.C.S.T.B.

      باريس في 29/02/2016.«»([6])

[1] – صليبا، د. لويس، اليوغا في المسيحية دراسة مقارنة بين تصوّفين، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2016، 340ص.

[2]– Saliba, Lwiis, L’Hindouisme et son influence sur la pensée musulmane selon al-Bîrûnî(m. 1048), Paris, Editions Byblion, 1995.

[3] – صليبا، د. لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار؟، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2016، ص375.

[4] -(توضع هنا النبذة الكاملة لسيرة كفوري تؤخذ من اليوغا في المسيحية، ط2، ص89-90)

[5] – سدى وجمعها أسدية ما يمدّ من الخيوط طولاً في النسيج، خلاف لُحمة وهو ما يمدّ عرضاً. فاللحمة والسدى بمجموعهما هما النسيج كلّه.

[6]

شاهد أيضاً

أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون في 380 ص.

“أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *