بقلم وليد البعاج
رغم اختلافي في عدد من التحليلات التي اعطاها الراهب اليسوعي روبير بندكتي في كتابه هذا عن الشعائر بين الإسلام والمسيحية ،
في تعاطيه مع بعض الحيثيات التي غابت مدلولاتها عنه لكونها تخص الفلسفة الاسلامية الشيعية في التعاطي مع الشعائر الحسينية او قضية الإمام الحسين عليه السلام وواقعة كربلاء بصورة عامة، ولكنها دراسة جديرة بالاهتمام، لكونها تعكس وجهة الاسلام من منظور الاخر المختلف في الدين ، وكذلك تكشف عن الفهم الذي قد وصل للباحثين من الديانات الاخرى عن واقعة كربلاء بدراستهم لشعائرها.
قام مؤلف هذا الدراسة بعمل مقارن بين مناسبتين حضرهما في لبنان، وهما شعائر جنازة المسيح في قرية مسيحية واقعة في محافظة جبل لبنان، وشعائر عاشوراء في مدينة النبطية، وتعد هاتين المناسبتين – عيد الفصح وعاشوراء – الموسمين الروحيين المهمين في حياة كل من الكنيسة المسيحية، والطائفة الإسلامية الشيعية، وعمل بندكتي دراسة سوسيولوجية وأنثربولوجية حول ماهي منزلة الأفعال الطقسية في حياة الجماعات المذهبية، وما العلاقة بين النشاط الشعائري والمحيط الإجتماعي الذي يكتنف الجماعة.
الاحتفال بشعائر جناز المسيح في الفصح، يبتدأ بأبتهالات وقراءات وأناشيد ، ثم من بعدها يتكون موكب الجناز من الجماعة المحتفلة في أحد البيوت، ويحمل النعش الذي يرمز لجنازة المسيح بعد صلبه، ويحمل الى موقع الكنيسة الرعائية. ومن المنطقة التي عمل فيها النعش كان الموكب يتوجه نحو موقع الكنيسة الرعائية المهدمة، وفي المقدمة يمشي أحد الأهالي حاملاً الصليب، ووراء الصليب يسير الكاهن وإلى جانبه فتى يحمل المبخرة، ويحمل النعش ستة رجال من البلدة، ويكون المختار أولهم إلى اليمين، ثم تأتي الجوقة، وفي نهاية الموكب يسير جمهور المؤمنين الذي يرافق الجوقة بالتراتيل.
وطبعاً أصبح شعائر جناز المسيح منبراً سياسياً للمطالبة بحقوق الطائفة المسيحية في لبنان، ويتبين لنا أن الإحتفال الفصحي هو الإطار الذي تجري فيه عملية تحول الرموز اللاهوتية الى رموز اجتماعية سياسية، تجري هذه العملية في خبرة المحتفلين الذهنية، بقدر ما يصبو هؤلاء لإظهار هويتهم المدنية من خلال تأكيد انتمائهم المذهبي.وهذه الشعائر تتمتع بقدرة هائلة على إنشاء الروابط الاجتماعية – النفسية بين المحتفلين، الأمر الذي يلّون خبرتهم بصبغة اجتماعية.
أما احتفالات عاشوراء الشعبية: هي أشد اللحظات كثقافة وجدانية ومعنوية في حياة الجماعة الاسلامية الشيعية ، حيث يعيش أعضاؤها خبرات روحية عميقة ويجددون معنى انتمائهم الى الجماعة ويوطدون عرى تضامنهم.
لقد تحول الحسين واستشهاده الى رسالة يحييها المسلمون الشيعة بواسطة الرموز الشعائرية العاشورائية ، فيحيا الحدث التاريخي ويتحول الى حادثة معاشة وخبرة فكرية – روحية حية. فإن إحياء الذكرى خبرة ذهنية تستحضر الحدث الماضي بقوة الرموز الشعائرية، فتضفي عليه معاني جديدة في سياق الحاضر.
ان الرموز الشعائرية العاشورائية تمتاز بالقدرة على استحضار الحدث الماضي وتأوينه (Actualization ) بإضفاء معنى راهن عليه. كذلك يؤكدان قدرة الرموز الشعائرية على إحياء الخبرة الفكرية – الروحية عند المحتفلين، وذلك بواسطة الفنون الأدبية والتمثيلية التي تزود الشعائر الاحتفالية فاعلية حقيقية، فتجعلها منبع النشاط الاجتماعي والسياسي، وبهذا المعنى يمكننا القول إن معركة كربلاء إنما هي الحدث التأسيسي بالنسبة الى الإسلام الشيعي.
يوضح ذلك كيف أن الاحتفالات العاشورائية قد غدت على مر القرون جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع الشيعي، بحيث إنها تعتبر في الوقت الحاضر إحدى أهم مؤسساته، فيكفينا أن نطل أطلالة سريعة على الابحاث السوسيولوجية والانثربولوجية المتعلقة بحياة المجتمعات الشيعية كي ندرك مدى رسوخ هذه الاحتفالات في حياة تلك المجتمعات ، فقد كانت هذه الاحتفالات تمثل منبر الحركات الاجتماعية والسياسية في العراق ولبنان كما أنها كانت الأداة السيميائية التي تعتمدها المجتمعات المحلية لاثبات هويتها الاجتماعية السياسية ، وتستعين بها الاحزاب اللبنانية لتعبئة الشعب لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي.
كانت الاحتفالات السنوية بذكرى معركة كربلاء ولا تزال تنطبع بصبغة أخروية ودنيوية. قدسية ودهرية مزدوجة، مما يجعلها تعكس الصورة المتكاملة التي تكونت في أذهان المسلمين الموالين لآل البيت، عن الحدث التأسيسي، في الواقع تطابق في ذلك الحدث البعدان القدسيّ والدهريّ، وانصهرت الناحيتان الأخروية والدنيوية في رؤية متماسكة ونظرة مندمجة الى الكون والمجتمع، تعكس هذه الصورة المتكاملة حقيقة الحدث التأسيسي وتعبر عن بنيته العميقة، حيث كانت معركة كربلاء بين الامام الحسين بن علي ويزيد بن معاوية صراعاً لاهوتياً سياسياً في آن واحد.. وتربت على هذه الرؤية الاخروية – الدنيوية المندمجة، أن معركة كربلاء قد تحولت في الوعي الشيعي، الى مأساة قدسية واصبحت تعني (ولادة الإسلام في شكله الحقيقي) .
وتطرق الكاتب الى تاريخية الاحتفالات بذكرى عاشوراء، من الحكم الاموي والعباسي والعثماني الى العصر الحديث، ولما استطرد ما مرَّ به العزاء الحسيني وزيارة كربلاء من عمليات قمع ومحاربة ، وإصرار الشيعة على إقامتها وزيارة كربلاء، رغم تعرضهم للمحن والبلاء والقتل والسجن. فيقول: فقد تبين لنا من هذا العرض الوجيز لمسار تطور الشعائر العاشورائية عبر التاريخ العربي والاسلامي أمران ذو معنى ومغزى: من جهة ان مراسم العزاء الحسيني كانت قد ارتبطت منذ البدء بتاريخ المعارضة السياسية في الاسلام وتحولت في احيان كثيرة الى شكل من أشكال الرفض والاحتجاج على الرؤية الايدلوجية الرسمية، وتحولت الى ضرب من ضروب المقاومة العلنية تارة والخفية طوراً في ظروف القمع والاضطهاد… ومن جهة ثانية: قد تحولت شعائر العزاء الحسيني الى منبر للخطاب السياسي والاعتراض على الاوضاع الجائرة في المجتمع.
لقد تطرق دارسو سوسيولوجيا العالم العربي الاسلامي الى تفسير المراسم العاشورائية وحاولوا فهمها من منظور الوظيفة التي تؤديها في المجتمعات الشيعية فقد اعتبر كل من (مزاوي 1979) و (قساطلي 1997) و (دونوهيو 1998) أن شعائر العزاء الحسيني بما فيها مواكب اللطم والجنازير والسيوف ، تعبر عن شعور الشعب الشيعي بالهوية والانتماء، وتفصح عن رفض لنخبويّة مراكز السلطة. أما (خوسرو خافار) فقد استعان بمفاهيم التحليل النفسي أداة منهجية تساعده على صوغ فكرة (نزعة الموت الإسلامية)، يرى هذا الباحث: أن هذه النزعة قد ظهرت في أوضح أشكالها في (حركة الشهداء) الايرانية، باسيجي، أثناء الحرب.
التعزية بالاحتفال الشعائري المسرحي بمعركة كربلاء:
في صباح يوم عاشوراء يجري الاحتفال المسرحي باستشهاد الحسين في معركة كربلاء، وتمثل التعزية أو التشبيه، الظاهرة المسرحية الوحيدة في الثقافة الاسلامية. وفي هذه التعزية يمثل (مسرح هواة)، فنجد أن جميع الممثلين والمنشدين والمنظمين (المخرجين) وكل المشاركين في إنتاج هذه المسرحية واخراجها وتمثيلها، هم من غير المحترفين، ويقومون بهذه الفعاليات من أجل خدمة الامام الحسين، والتقرب منه ومواساته، أن التعزية مسرح وشعيرة دينية في آن واحد، بحيث يمكن تشبيهها بالمسرح الديني الشائع في أوروبا القرون الوسطى الذي عرض آلام يسوع المسيح.
كذلك نجد تعزية الشيعة، الممثل يتقمص أدوار الابطال عن طريق محاكاته الوقائع التاريخية واندماجه فيها روحياً ووجدانياً، وبذلك يستطيع أن يعكس مشاعرهم بشكل عفوي، فلا يقوم بأداء دور محدّد ومرسوم له مسبقاً لشخصية معينة فحسب، بل إنه، وفي الوقت نفسه، يشارك المشاهدين فينفعل ويتعاطف وإياهم، وبذلك يؤدي دوراً مزدوجاً كممثل ومشاهد معاً، فالمتكلم والسامع – الممثل والمشاهد ، يتواجدان معاً على المسرح.
ثم أن مسرح عاشوراء لا يركز على المصداقية التاريخية بقدر ما يركز على المصداقية الظنيّة إنسجاماً مع المخيال الشعبي لتلك الوقائع وتأثيرها العاطفي، فقد تُعرَض بعض الحوادث بشكل قد يتعارض وحقائق التاريخ.
يهدف هذا المسرح الشعائري الى مساعدة المشاهدين على أن يعيشوا خبرة روحية حقيقية وهم يتفرجون على مشاهد الحدث التأسيسي، وبالتالي أن هذا المسرح لا يعرض لنا تسلسلاً تاريخياً، بقدر ما يعرض لنا أحداثاً تاريخية محددة ومعروفة ومتداولة بين الناس، وقد سمعها الكلّ أكثّر من مرّة من كتب التاريخ الاسلامي أو كتب المقاتل وقرّاء المجالس الحسينية، وعرف تفاصيلها وحفظ بعض مقاطعها عن ظهر قلب، المهم أنه يعرض تلك الاحداث على شكل مبادئ ورموز وقيم ويجسّدها تجسّيداً حسّيّاً.
ومن أهم مميزات هذه التعزية ما يمكن الاصطلاح عليه بمصطلح (اختفاء المخيال المسرحي) إن الممثل والمشاهد على حد سواء يندمجان وينصهران في ما يحدث على المسرح ويشاركان فيه مشاركة وجدانية الى درجة انهما لا يستطيعان التمييز بين الحدث المسرحي والوقائع التاريخية التي جرت قبل خمسة عشر قرناً .
فالمشاهد هنا، مشاهد ومشارك معاً. يستمع وينشد ويندمج مع الممثلين وبولع شديد، ومن دون عناء أو ملل، بحيث يصبح جزءاً منهم، الى درجة ينسى كونه مشاهداً، فيستولي عليه الانفعال والتوتر الوجداني بحيث تتولد علاقة جدلية وحية بين الممثل والمشاهد بين الحدوث المسرحي والحدث التاريخي الواقعي، أن ما يجري عرضه على المسرح قد تغير في مخيالهما وتحول الى واقع تاريخي، من هنا يتخيل الممثل أنه فعلاً ذلك الشخص الذي يمثله، وهكذا ينظر اليه المشاهد أيضاً. لذلك يحدث أحياناً أن المشاهدين يهجمون على الممثل الذي يؤدي دور شمر كي يمنعوه عن قتل الممثل الذي يؤدي دور الحسين، تكشف هذه التصرفات عن العملية الذهنية التي تفضي الى تحول الخيال المسرحي الى واقع معاش في خبرة الممثل والمشاهد على حد سواء.
ففي نموذج بلبنان نجد أن عملية التأوين (Actualisation ) هذه تظهر أولاً وقبل كل شيء من خلال توزيع الادوار على أعضاء البلدة: فتكون أدوار الحسين ورفاقه حكراً على العلماء، في حين يؤدي أدوار الجند الأموي وقواده الفلاحون والتجار، أما دور شمر بن ذي الجوشن، وهو الخائن الذي قتل الحسين بقطع رأسه فقد أُعطيه شخص مجرم سبق له أن قضي عليه بالسجن.
يتمحور الإخراج المسرحي على فكرة الصراع بين قوى الاسلام الصحيح، ويمثلها العلماء، وقوى الجاهلية المتمثلة في الفلاحين والتجار، ففي الإطار المسرحي تتغلب قوى الجاهلية على قوى الإسلام الصحيح، فنرى الحسين ينال الشهادة ومعسكره يتعرض للنهب والحرق وأعضاء بيته يساقون سبايا الى دمشق، إلا أن انتصار الجاهلية لا يتخطى الإطار المسرحي في الواقع، ما أن انتهت التعزية الى مشهد مقتل الحسين حتى تحول الجند الأموي الظافر الى موكب توّابين يطوف شوارع البلدة بقيادة الإمام المسبي زين العابدين، ويؤدي أعضاؤه شعائر عزاء اللطم والضرب بالجنازير والضرب بالقامات كفارة عن خطاياهم التي ارتكبوها في الإطار المسرحي، وهكذا يتحول انتصار الشرّ الى دنيا الخيال المسرحي التي بدورها تغيب وتختفي وراء واقع موكب التوابين الذي يمثل انتصار الخير.
فكرة الألم المنجي في الديانات الإبراهيمية:
يتطرق بندكتي في كتابه هذا الى موضوع الألم المنجي في فهم مغزى الاحتفالات العاشورائية في سياق الفكر اللاهوتي الشيعي، بمعنى أن كل ما عاناه الحسين من ظلم وجور و ألم في كربلاء له مفعول خلاصي وقوة نجاة… يقول: كانت التقاليد اليهودية القديمة قد عرفت فكرة الألم المنجي، فقد ارتبطت هذه الفكرة بفكرة الأضحية المقدمة الى كفارة عن ذنب أو محافظة على الايمان أو الشرف، أما في المسيحية فقد غدت هذه الفكرة المحور اللاهوتي والاخلاقي للايمان المسيحي، فأن فكرة الالم المنجي مرتبطة بجوهرها بموت يسوع المسيح الذي أصبح يعتبر النموذج المثالي لتضحيات كل أولئك الذين يقبلون الألم أو الموت من أجل إنقاذ غيرهم، أو كفارة عن ذنب غيرهم.
أما في التراث الإسلامي الشيعي فقد انبعثت فكرة الألم المخلص بمأساة كربلاء، ثم ترسخت في التقاليد الكلامية إثر إخفاقات الشيعة في المجال السياسي وتعرضهم للإضطهاد القاسي على يد الحكام . أما الإسلام السني فلم يعرف هذه الفكرة لغياب العنصر المأسوي في حياة الجيل المؤسس.
وهكذا أرتبطت ثورة الحسين وشخصيته ومبادؤه وبطولته وتضحيته بالألم ،من أجل الإرادة الإلهية التي قررت ذلك الألم وتلك الشهادة وتلك النجاة، لأن البشرية لا تستطيع وحدها أن تتغلب على الألم البشري، وبذلك أصبح الاستشهاد طريق الشفاعة والخلاص واصبح الامام الحسين نفسه سفينة النجاة، لانه ضحى بنفسه لأجلهم فعاش الشهادة بصبره وارادته وتضحيته بأهله واصحابه، من أجل إنقاذ المسلمين ونجاتهم وهكذا أتخذ الالم من معنى الشهادة مقدماته المثالية ومؤثراته التاريخية.
ان الاعتقاد باستشهاد الحسين في سبيل الحق والعدالة وتحمله آلام التضحية والفداء لا ينفصل في الوقت نفسه عن مكانة الامام الحسين ودوره في الشفاعة لشيعته ومحبيه يوم القيامة… هذا التصور يعرض الامام الحسين مُنقذ الامة الاسلامية ومدافعاً عنيداً عنها وحامياً إياها باختياره، وحيث لا يستقيم الاسلام الا بقتله ، وهكذا كتب الحسين قدره بدم الشهادة والفداء.
وإضافة الى ذلك هناك في الاعتقاد الشيعي دافع آخر الى تضحية الامام الحسين بنفسه وأهله وأنصاره ، وهذا الدافع هو حالة الانحطاط التي وصل إليها الإسلام تحت حكم الطاغية يزيد بن معاوية، بعد أن اتخذ الحسين قراراً ثورياً لا رجعة عنه ، هو في الحقيقة تعبير عن تلك الوضعية المزرية حين طالب بالقضاء على حكم المستبد الغاشم.
[1] ) روبير بندكتي: هو من مواليد 1936 ، بودابست ، المجر، حيث درس اللغة القديمة اليونانية واللاتينية في بودابست، ودخل الرهبانية اليسوعية سنة 1964 ، درس اللاهوت والفلسفة في ميونخ بالمانيا، واكمل دراسة اللاهوت في ليون بفرنسا، جاء الى لبنان سنة 1969 ، وسافر الى دمشق درس سنتين في جامعة دمشق، وعاد الى فرنسا فانهى دروسه اللاهوتية والكنسية لمدة ثلاث سنوات ليعود الى سوريا قيبقى فيها بحمص عشرون سنة ، ومن ثم تحول الى لبنان ولايزال فيها منذ أكثر من عشرون سنة كذلك وهو استاذ في الجامعة اليسوعية ، التقيته في دير اليسوعيين ببيروت سنة 2013 ،وتناولنا الحديث حول كتابه هذا.