6- التجسد الخلاصي
ترانا قطعنا كل مآزق التاريخ لنصل أخيرًا إلى مثل هذه الإختيارات التي تحكم علينا بالتبعية أو بالرحيل أو بالإعتزال. هذه الإتجاهات الثلاثة يفسّرها، دون أن يبرّرها، ما يستولي على المسيحيين من فزع وجزع وخيبة وقرف. ولكن تفسيرها ليس تبريرها، فهي لا تتفق مع الجسارة المسيحية الأصلية الخالصة التي ترفض كل أشكال الإستقالة والإنهزامية.
إنما، ليس لنا في واحدة من هذه الإتجاهات، كما ليس لنا في غيرها، لا في الداخل ولا في الخارج، لا من الشرق ولا من الغرب، لا من جامعة الأمم ولا من جامعة العرب، أي لا من الوطن ولا من الإقليم ولا من العالم، ضمانة وطيدة أكيدة.
فبعد أن سكنّا لبنان، فحملنا تذكرة هويته، وانتسبنا إلى العروبة فاتخذنا وجهها، ولازمنا الغرب فالتزمنا «بالخيّر منه»، وجدنا نفسنا عراة من هذه الألبسة، كما يُعرى الخروف من قلادته للذبح. وبينما كنا كالمحكوم عليه سائرين إلى حتفنا، وكان لبنان يكبّنا والعربي يسبّنا والغربي يغتابنا، لم يبقَ لنا من مأوى نلتجي إليه سوى المسيحية. فهي الأرض أو المساحة الروحية التي لم تنهر تحت أقدامنا، حتى كانت تندك وتخسف كل بيوتنا الأخرى المبنية على الرمال. بقيت المسيحية فبقي لنا بيت وأرض وهوية. أعادتنا المحنة إلى هذه الأصالة، بعد أن كادت، منذ بدء الإنتداب حتى بدء الحرب، تطمسها المساحيق السياسية وتحوّلها العلمنة المتكالبة على ترف الحياة إلى منشآت مادية براقة، معدومة الفكر والخلق والروح.
وفي العودة إلى عري المسيحية عودة إلى تاريخ الخلاص، نلجه من الدرب الملوكية أي درب الصليب التي تؤدي إلى بوابة القيامة. فالمسيحية التي لولاها ما بقي شيء على حاله، هي إذن الضمانة الوحيدة بين كل التجاريب التي تعرض لنا، لصون الوجود ودفع الخطر، هي أصحّ وأثبت اتجاه نسير فيه.
وضمانة المسيحية هي أن لا ضمانة لها سوى ذاتها من حيث هي عمل تجسد وتروحن، موت وبعث. لم يسلمها منشئها من وسائل النصر والنجاح الزمني وسيلة واحدة، بل عرّها من كل حيلة ووسيلة، كما تعرّى هو في تجسّده «مفرغًا ذاته من صورة الله ليتخذ صورة العبد»، كما قال بولس الرسول. لم يعطها في مواجهة العالم حجة الحكمة وبراعة المنطق، بل أعطاها روحه الذي هو حجتها الأخيرة وبرهانها القاطع وضمانتها الكفيلة. بالروح تمّ تجسّد المسيح في حشا البتول، وبالروح تمّ الإنبعاث من بطن الأرض. وما حققه الروح تحقق بالمسيح هو عينه ما يتوق الروح إلى تحقيقه في كل مسيحي. فالمسيحي يتميّز أولاً بالإلتزام، أو بالتجسّد، حسب اللغة الموروثة في الإنجيل. وهذا ما يجعله، على حد قول الرسول، يونانيًا مع اليونانيين، وعبرانيًا مع العبرانيين، وعربيًا مع العرب، وأعجميًا مع العجم.
هذا الإندراج الوجودي المصيري يفترض من المسيحي أن يقاسي في الشرق ومعه وفيه ومن أجله، ما قاسى المسيح كما كان حاضرًا في زمانه ومكانه.
لم يكن تجسد المسيح عبثًا أو لهوًا أو انغماسًا في عمق المأساة الإنسانية حتى جازت جميع أمواجها عليه. لقد عانى في تجسده من تزمت الفريسيين، وتعصب الغلاة، وانحلالية الصدوقيين، ورياء رؤساء الدين، ونكران الجميل، وغلاظة الفكر من قبل الجمهور، ما لا يقابل به عذاب، إذا ما تذكرنا رهافة العقل والقلب عند ابن الإنسان. ولكنه لم ينسحب من مهمته الصعبة بل تصدى للتجاريب الثلاث التي جاءه بها الشيطان قبيل افتتاح حياة التبشير العلني. لقد رفض التبعية، كما رفض أن يُعطى «جميع ممالك الدنيا ومجدها» لقاء أن يسجد للمجرب. ورفض الحياد أي التنصل من رسالته، لما رفض أن يكتفي بالترف المادي الفردي، وأن يسخر قدرته على تحويل الحجارة إلى خبز، والإكتفاء «بالخبز وحده». ورفض الإنسحاب لما رفض أن يلقي بنفسه في مغامرة تحطّ به من قمة الرسالة الخطرة إلى حضيض التفاهة والسهولة حيث «لا تعثر بحجر رجله».
التجسد هو عكس الحياد وعكس الإنسحاب، لأنه التزام. ولكن الإلتزام لا يعني الذويان حتى الهوية وسحق الذات، ولا الإستسلام للواقع حتى تكريسه أو الرضوخ للبيئة حتى تطويبها. إنه اتحاد الواقع الزماني والمكاني من أعماقه، والغوص حتى جذوره في نية اختطافه إلى حال غير حاله تكون أرفع وأسمى، على غرار المسيح عندما تدرع الجسد فحوله إلى «جسد روحاني» واختطفه فأصعده معه إلى مجد الآب
فالتجسّد في لغة المسيحية لا يحدّه الإلتزام بل الاقدام، أو جسارة الروح حتى التعرض لخطر الهلاك في سبيل إبلاغ الرسالة حيث يجب أن تبلّغ. بهذه الجسارة تصدى المسيح بكل السلطات القائمة في عصره. واجه المستعمر الروماني:«قولوا لذاك الثعلب أني أنا هنا، اليوم وغدًا وإلى ما شاء الله». وواجه من بيدهم سلطان الشريعة وقوة إجراء الموت عليه: «ليس لأحد سلطان علي، أنا أبذل نفسي باختياري». حتى إنه تطاول على قوى الموت وعلى سلاطين عالم الظلمة، فنزل إلى الجحيم لينتشل «الهابطين من الجب»، ويخرجهم معه إلى النور، في صباح القيامة.
ضمانة المسيحي هي في هذا الإيمان العظيم. فالمسيحي المؤمن «لا يخاف نفسه إذا اصطفّ عليه عسكر وإن قام عليه قتال ففي ذلك ثقته»، كما يقول المزمور. والثقة هذه هي نتيجة الإيمان، هو أعظم الضمانات الممكنة، إذ بالإيمان يعرف، كما يقول يوحنا الإنجيلي، وإن الذي هو فيه، هو أقوى من العالم، وهو المسيح الذي غلب العالم وصرع الموت وكسر مصاريع الجحيم، وأعطي كل سلطان في السماء والأرض ووعد المؤمنين تباعه بأنهم سيستطيعون ما استطاع هو وأكثر من الأعاجيب: باسمي تخرجون الشياطين وتنطقون بلغات مختلفة، وإن شربتم سمًا مميتًا فلا يؤذيكم، وتضعون أيديكم على المرضى فيشفون.
من هذه المسيحية الإنجيلية الصافية، أخذ الرسل الأولون، فأثبتوا أن وعد المخلص صدق وحق، لمّا جاءوا، وهم المستضعفون، بالمعجزات. تغلبوا على فطرة الطبيعة فتخطوها، وعلى أرواح الشر فبددوها، ولم يهابوا الإنسان في سطوة سلطانه، ولا الحيوان في فورة انقضاضه، ولا الشيطان في حيل تجاريبه.
لم يكونوا يتساءلون: كيف لنا بمواجهة أباطرة الرومان وحكمة اليونان، ونحن جماعة زهيدة القدر، محدودة المعرفة. ولم يحتاطوا لنفسهم بضمانة، فهم الضمانة للعالم، مثل ما هي حبة الملح وحبة الحنطة.
كذا نحن اليوم أقليات مهملة، مع أنها أوفر عددًا من الرسل الأولين؛ وسط الأمبراطوريات المعاصرة، وقد كثر عددها وعتادها، لا يمكن أن يقودنا التساؤل إلى الجزع والفزع، أو إلى السقوط في واحدة من التجاريب الثلاث التي لا تزال تراودنا. فالمسيح هو حي اليوم كما بالأمس وإلى الأبد، وروحه لا يزال نارًا وعاصفة، فكل يوم يمكن أن يكون عنصرة تجدد وجه الأرض.
إن للمسيحي من مسلك المسيح وتعليمه ومن مآثر الرسل الأولين والقديسين التابعين، شهادات تطرد الخوف من نفسه، وتدفع به إلى الإلتزام فالإقدام حتى أبعد ما يكون من المغامرات، لا لفتح بلاد وغزو عباد، بل لفتح النفوس وغزو التاريخ. وإذا لم تنطمس في ذاكرته معالم تاريخه المشرقي، فهو يستمد منها شهادات أخرى حية تشدد عزيمته، وتعزز ثقته بنفسه، إذ تذكره بالمنجزات التي حققها أسلافه على كل صعيد ومجال، وفي ظروف كانت أشد هولاً عليهم مما هي الآن عليه. كفاه أن يذكر ولو لماما الدور الذي قاموا به في زيادة هذا الشرق، وفي تفجير الطاقات المكنونة فيه عن طريق بعث المعرفة والعلم وبنيان المدينة منذ بداية العصر الأموي حتى نهاية العباسيين. وأن يذكر من تناسوا أو جهلوا بأن ما من شهادة جريئة، ما من حركة إبداع ظهرت في المشرق منذ ثلاثة قرون إلا ومسيحي وراءها، يدفع ثمنها من دمه وعرقه ودموعه.
فلنا إذن من العصور السالفة، من زمن الوليد الأموي إلى المتوكل العباسي إلى عبد الحميد العثماني، عبر وأمثولات تؤكد لنا أن الضمانات الأكيدة الوحيدة الباقية هي في جسارة الروح على الإلتزام فالإقدام للإبداع. طالما بقي نذر ممن لم تخمد فيه نار الروح، فالمسيحية باقية. ولكن كل مرة كانت تنطفئ المشاعل الروحية فينا، كان يهبط الليل علينا، ولم يكن صياح الديكة من الغرب ليطلع خيطًا واحدًا من الفجر.
وشأننا في هذا شأن كل الأمم. فراغ الفكر والروح هو مقدمة للعدم. إنما لنا حق مكتسب بالرجاء إذ ان شعبًا استمر فيه عناد الفكر من تاوفيل الرهاوي حتى جبران خليل جبران، ولم تخب فيه شعلة الروح من مار مارون إلى مار شربل غير ميؤوس منه، بالرغم مما تواتر عليه من دواعي القنوط وتعاظم فيه من أسباب الجزع واندس فيه من جراثيم الفساد.
فكما تشهد العصور السالفة، يشهد الزمن المعاصر على أن للمسيحي المشرقي لا يزال يختزن من حيوية الإيمان وحس التاريخ وجسارة الفكر ما يخوّله النهوض إلى مستوى القضية التي انتدب لها، والتطوع في سبيلها. وإذ لم يُعرض عليه من أساليب التعبير عنها سوى العنف استقتل فيه، بينما نفسه تشتهي السلم وتعشق المحبة. لقد أظهر لذاته وللآخرين أنه لا يزال يكنز طاقات مدهشة على تخطي الذات، والتجرؤ على مواجهة الموت وإحراج القدر النازل للإتيان بشيء آخر يكون غير الذي كتبوه وقرروه وحتموه. ولكن هذه الطاقات لم تكن في حسبان أحد، على ما يبدو، فلا الغير تصوروا وجودها فيه، ولا القيمون عليه أيضًا تخيلوها عنده، ولا هو نفسه عرف مسبقًا بما كان يخزن في نفسه من قدرات الإيمان والأعمال. هذا الإغفال يدلّ على مدى ما كان الإغتراب عن الذات. وأخطر من إغفال الأمس هو تحريف هذه الطاقات بتحويلها اليوم عن منابعها الروحية إلى شموخ عسكري مميت، أو بتلهيتها بالخصومات الحزبية الضيقة، أو بالمساومة عليها غدًا في سوق النخاسات الذليلة.
كذا تحرّفت قبل المحنة، في عهد السلم، زمن الإستقلال، طاقات أخرى ورثها المسيحيون من حيوية المسيحية، ولكنهم تناسوا روحانية جذورها. مثلا من عقيدة التوحيد الثالوثي المحرج العقل إلى تخطي حدوده، ورثوا مرونة الفكر التي أدت، في حال انحطاطها، إلى «الشطارة» الممقوتة؛ ومن عقيدة التجسد، مثلا، ورثوا الإندفاع لاقتباس المعرفة ولتعمير الأرض، وكلاهما يؤديان، متى انقطعا عن الروحانية، إلى التهالك على المنافع المادية، متى تحولت عن أصولها، هذا السعي الدائب الجشع في طلب الرقي الزمني والترقي المادي.
ولكن هذه المظاهر، أكانت من إنجازات الزمن الإستقلالي أم من بسالات الزمن الحربي،تحمل ، على الزيف والإنحراف، علامات التجسد، وألوانه وصبغته. فالمسيحية، حتى في حال تحويلها عن مصادرها الروحية، هي منبع حيوية، فعليها أولاً وآخرًا الإتكال. إذ لولا الإلتزام بها – ولو تعثر الإلتزام بالأنانيات والانيات – وانحرف عن طرحه الروحي، لما كانت المواثيق والمعاهدات والضمانات والمنشآت، في الداخل والخارج، تنفع شيئًا مهمًا. إنها الضمانة الأكيدة والباقي استعارات موقتة؛ إنها الجسد والباقي أقمصة تتمزق وتتطاير كما تمزقت وتطايرت الوعود والعهود في عصف الرياح الأخيرة.
فالمسيحي يجد نفسه بالنتيجة، عاريًا من كل ما ليس هو المسيحية، وبقدر ما يتعمق التزامه بإيمانه الصافي، تترسخ ثقته بنفسه، ويحمل وحده قدره، أي وجوده ومصيره، كما يحمل الصليب صعدًا إلى أورشليم لتتميم الفصح، أي العبور إلى القيامة. لقد قُدر له أن لا ينتهي من العبور – طالما لم يعبر المشرق كله – إلى جبل الحرية القدسية حيث ركز الصليب على جلجلة، أي على جمجمة آدم العتيق، كمرقاة محتومة إلى الزمن الجديد، زمن الخلاص.