التذكار المسيحي
كم مرة من سنة إلى سنة، من شهر إلى شهر، بل يوم إلى يوم يقودنا التساؤل إلى تساؤل آخر أمرّ!
ونستنهض أنفسنا ومجتمعنا وديننا ودنيانا، فنسأل نحن ما أصبحنا؟ ما أمسنا؟ ما غدنا؟ إلى ما؟ إلى أي زمن نحن سائرون؟ إلى أي قمة أو قاعة!
والجواب هو الحيرة، هو دائمًا جواب عنيف على قدر المسائل والوقائع المطروحة علينا، النازلة فينا.
أجل لم يوحِ لنا هذا التطلّع إلى الذات، بغير المرارة والأسى، على إنساننا الشرقي التعيس، على مجتمعنا الخاطئ، على مصيرنا الكئيب.
وعلى اللسان كلمات الفشل وعلى الوجوه غبرة التشاؤم:
ولكن هناك تطلّع آخر، لا إلى الذات صوب الأرض، بل إلى السماء صوب الله تعالى.
إليه ترتفع أنظارنا في مساء افتتاح هذه الرياضة، وفي الليلة الأولى من لياليها. أترى ينتهي بنا التأمل بالآلام إلى ذات الخيبة التي منينا بها، في تأملنا بذاتنا وأوضاعنا.
لو أن لنا بقيةً من صبرٍ على الألم، ومن صمود في الإيمان، لأيقنّا من الساعة الألى أنّ أسبوع الألم هذا سيقودنا إلى أحد المجد، لأنه رمز عن أسبوع عمرٍ لنا ينقضي بالهمّ والتعاسة، ويصبح في أحد أيامه صباحَ قيامة كبير، فنحن إذًا الليلة وفي كل ليلة واثقون صاعدون إلى عيد، كما صعد المسيح من أحد إلى أحد الشعانين، إلى أحد القيامة.
وصعود المسيح إلى العيد كان أولاً، نزولاً في نفق الألم، نزولاً في القبر حتى أعماقه، حتى الجحيم! ومن تلك الأعماق حيث نزل صعد إلى القمم، إلى حيث ملّكه الله على كل شيء، وأخضع تحت قدميه كلّ ما في السماوات وما في الأرض.
كذا حياة المسيح أولاً، كذا لا بدّ لها إلاّ أن تكون هي هي في العالم كلّه، أن تكون في التاريخ كله، أن تكون في كلّ إنسان، أن تكون في المسيحيين من بعده:
تناقص بين نزول وصعود، بين تشاؤم وتفاؤل، بين هوان ومجد، إلى أن يستوي بنا المصير على الغبطة المنتظرة في المسيح: الذي هو وعدنا الأول وموعدنا الأخير ورجاؤنا في كل حين.
بين أحد الشعانين وأحد القيامة هوّة من العذاب، نزل المسيح على بركاتها حتى أقاصيها.
وإذا قدّر لنا أن نكون من المقرّبين حقًا منه، يحقّ لنا أن نكون معه إلى فرحة العيد صاعدين.
قد نكون أو يكون بيننا فئة من المنقلبين الذين لا كلام شرف لديهم، أو بهم كأولائك الذين في أحد الشعانين، صفقوا للمسيح ومشوا وراءه، وفرشوا الأرض سعف نخلٍ وزيتونٍ في لقائه، وهو داخل أورشليم دخول الظافرين، ثم لمّا بدأت مراحل الإنحدار والفشل، انقلبوا على المسيح، انسحبوا منه. والذين هللوا يوم أحد الشعانين في أورشليم وهتفوا بحياة الآتي لداوود، أولائك الذين هتفوا لموته ولصلبه.
وكم من الذين إذا ظفروا بالسعادة زمانًا آمنوا، ونذروا، وبنوا مثله قبابا، ثم في آونة الشدة، ثم في آونة المصلحة، ثم لأسباب كامنة أو خسيسة، إن مسّهم الضّرر أو خانهم الزمن في مطامعهم ومطالبهم يشكّون باسمه وبوعده، ويتآمرون عليه في ليالي ضمائرهم مع الصالبين، مع الخائنين.
يتذكر المسيحيون في هذه الليلة ان ظفر المسيحي في الدنيا كان لفترة عابرة، ليتذكروا أن المسيح لم يدعُهم أن يقطعوا شوارع الحياة حاملين علامات الظفر، بل أن يسيروا وراء معلمهم حاملين جراحه وهي سمات المجد الآتي.
ليتذكر المسيحيون أن الظفر الحقيقي لن يؤمّنه لهم زعيم من زعماء الأرض، مهما عظم، ولن تسفر المعركة عن اقتسام غنائم ومقاعد ومقامات، بل هي الكفاح الباطني ضد الشر، والشر قائم ولو انتهت المعارك الأخرى، وأن المنتصر الحقيقي هو من حمل راية المحبة بين الناس.
وليتذكر المسيحيون ويعلموا أن الحرية التي يترقبونها، لا يمكن أن يعطيها أحد لا يملكها. الحق وحده يحرركم، الحق هو الحرية، خذوا ما لكم، الحق لكم وبكم.
وتذكروا أن الحرية، هي فعل باطني، أعطاكم الله إياه حين خلقكم على صورته ومثاله، وأن هذه الخطية لم تنتزع منكم أبدًا، إلا إذا أنتم انتزعتموها، فانتزعوها.
وليتذكر المسيحيون، أن الكنسية تدخل هذا المساء، بأنغامها الحزينة وألوانها السوداء، في أسبوع الآلام العظيمة، ورجاؤها أكبر من كل خيباتها ويأس العالم.
وإذا كان لنا بعد، بقية من شعور ديني، تيقظت نفوسنا إلى هذا التذكار، ودخلنا في متحف الألم العجيب، ونحن ننظر إلى وجه المسيح المعذب، نتطلع إلى رسم ذلك القائم من بين الأموات، حاملاً آثار المعركة الروحية، التي خاضها، جاعلاً من لعنة الصليب الذي سُمّر فوقه بركةً فوق جميع الشعوب.
قال مار بطرس، في برهة هوس قصير لحاملين مع المسيح عاره: لتكن لنا الشجاعة، لا كالرسل حينذاك، بل سنتابع معه السير حتى النهاية، السير في الحياة، السير في تاريخنا، تاريخ هذا الشرق، السير في عمل الفداء، بالرغم كلّ من رفضوا أن يكون لنا رسالة، أو يكون لنا تكليف.
علينا أن نتابع بنشاط، وعزم، وثقة، وإيمان بسبب ما أُعطينا، بسبب عملية المسيح القائم من بين الأموات، نتابع السعي في المشقة، في سفر عبور إلى أرض ميعاد منتظرة، ولنا في آخر الطواف على درب الصليب، وقوف بوجوه تشعّ بالفرح والمجد في حضرة المسيح لدى أبد الآبدين.
إليك يا سيد، نهتف في مساء السير هذه الجمعة العظيمة، نسألك أن تتطلّع إلى الأرض وتنظر، كم انبعثت بعد آلامك من الأمم، وبعد صلبك من صلبان.
وانظر طلباتنا التي ملأت الأرض: صليب في أفريقيا، صليب على آسيا، صليب على القارات الخمس، على الأقطار الأربعة، وأنت معلق فوق الكون مبسوط اليدين، تقطر من جراحك دماء الرحمة.
وانظر، يا سيد، هذا الشرق كم تعذب أو عُذّب من بعدك، فأبناؤه لا يزالون لا يعرفون ما يصنعون. وكلما بطلوا أن يكونوا ضحايا، تحولوا إلى جلادين لبعضهم البعض.
وانظر يا سيد، هو ذا لبنان مثلك، يا ابن الإنسان، يا رجل الآلام، أيها المسيح البار المبتلي:«أنت قلت تعلموا مني، إحملوا صليبكم واتبعوني». هكذا حمل لبنان صليبه، صليبك ومشى في الموت وراءك، ولكنك وعدت يا مسيح الحب، وعدت أن الصليب سيكون خفيفًا والحمل طيّبًا، ولكنه كان أثقل ممّا افترضنا، وأمرّ ممّا اعتقدنا، والموت أقسى ممّا ظننا.
ويا سيد، ابسط يمينك، وانتشل لبنان وأهله، كلّ أهله. انقله من أسبوع الآلام إلى الأحد، أحدك. أعطه الشجاعة ليتابع السير حتى آخر المراحل، فلا يموت تحت الصليب مكسورًا مكسّرًا، بل يسمو على آلامه بالمغفرة والمحبة.
المجد لك، يا سيد، لأنك علمتنا أن نموت دون أن نخشى العدم، لأنك أنت القيامة، أنت وعدنا.
المجد لك يا سيد، لأنك علمت البعض منا، إذا ماتوا قتلاً أن يبقى في فمهم بعض الدم، وبعض التراب: كلمة الصفح والغفران للقاتلين وقبلة الوداع.
الشكر لك يا سيد، لأنك فرضت علينا هذه المعجزة التي لا خلاص بدونها، وهي أن نحبّ، أن نقول بالمحبة، أن نعمل بالمحبة، وأن نقول للبعيد أنت القريب، وأن نحيا مع كل إنسان كأنه أخونا، على مدى دهرنا الفاني والذي لا يزول.
الشكر لك، أسبغت على كل وجع، قيمةَ الفداء. من بعد صلبك ليس سوى صليب واحد، وأنت معلق عليه مع كل من عُلّق على خشبة.
الشكر لك يا سيدي، لأنك عرّيتنا مرة بعد مرة، ولم تنتهِ من عملية التعرية، وبقايا أوساخها المتعددة بأنواعها، وعريتنا من كل شيء أو تكاد، وأبقيت لنا موتنا، موتك.
بهذا الشيء الأخير، الذي تركته لنا بعد أن اقترع الآخرون على لباسك، على لباسنا. بهذا الجسد المعرّى، المعدّ للموت، بهذا الموت الذي هو آخر ما نملكه. بالموت نستطيع مثلك أن نضمن الحياة، أن نؤمن بالحياة، أن نقوم.
هذا الموت موتنا، هو البرهان القاطع أننا موجودون، أنه برهان لا يُقحم.
أموت إذن أنا موجود.
أعطنا يا سيدي، فرح المشابهة بك على رغم الوجع.
دحرج صخرة البغض عن باب قبرك الشرقي. وانسخ عن الوجود آثار الدماء لأبصر في شروق القيامة،لأشهد بالحق أن المحبة هي تخلص العالم، هذا العالم الذي أنقذته لأنك أنت المحبة كلّها، وأن لك الملك والعزة والمجد، إلى الأبد يا أبد الآبدين.