إلا بمجال واحد أو اثنين

إلا بمجال واحد أو اثنين، فهي قلعة أو هي جسر أو هي حصن أو هي مخبأ أو هي مغارة أو هي منارة. ولكل قطعة أرض من قصة حكاية طويلة، لكل قطعة أرض نسب يسلسله القدماء في المواريث عن فلان كما يسلسل النسابة نسب قحطان وعدنان. فالأرض هي شجرة العائلة المارونية، وكما افتخر شعراء الجاهلية بأنسابهم، أدخل شعراء الموارنة على الأدب تراثًا جديدًا مجهولاً من قبل، وهو التغني بالأرض، بهوائها وترابها وبحرفها. ومنذ كانت للشعراء الموارنة في الأدب العربي هذه النكهة الفريدة المذاق التي هي نتيجة اختبار فريد من نوعه رسب في ذهنيتهم وفي عمق شعورهم وفي صلوات طقوسهم وخطوط الكلم على أياديهم وعلى تجاعيد جبينهم، فحين يكتب جبران «أيتها الأرض» أو أمين نخلة «المفكرة الريفية» أو أبو شبكة «الألحان» أو صلاح لبكي «من أعماق الجبل»، هؤلاء لا يقفون ويستوقفون على الأطلال الداثرة، بل مصرون من هناك على عمق الحياة وأبعادها، فالأرض هي شريكة الفرح والأسى، تعرف الحياة والموت كما يعرفها الكائن الحي. هي باختصار ولكن بتطاول منهم على اللغة ما يسمونه الرزق، يعني كأنما ترابها هو القوت، ويسمونها ملكًا تخول صاحبها أن يقابل وهو فلاح في الجبل، نفسه بالسلطان المتربع في اسطنبول لأنه هو أيضًا سلطان ولو مخفي. والأرض عند القديسين منهم كشربل الذي نقب الأرض وفلحها وزرعها وعمّر مدة ربع قرن ولم يذق طعم حبة عنب واحدة منها، هذه الأرض، عند القديسين منهم، هي رمز للملكوت منذ ما قال الإنجيل: «طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض أي الملكوت». مع هذه النظرة الجديدة إلى الأرض، استقدم الموارنة نظرة أخرى جديدة هي الوطن، لقد مهّدوا الأرض لتصبح وطنًا. إنه شيء جديد جيء به إلى الشرق الذي لم يعرف، منذ سرجون الاكادي في الألف الثالث قبل المسيح حتى السلطان عبد الحميد،غير فكرة الأمبراطورية الأممية التي تزور الشخص في إطارها العقائدي وتزور الأرض في مداها الأمبريالي، فالأرض مرعى والشعب رعية والأرض وما عليها للملك. الإنسان فيها أجير السلطان، لا حرية له في دنياه، فدنياه للملك ولا حرية له في دينه فالناس حتمًا على دينهم         . أما الموارنة، فقد نشأوا كنقيض للأمبراطوريات أكانت سيلسية أو دينية أم لغوية أم عرقية، فتوجهوا عكس هذه الأمبراطوريات، كما يتوجه العاصي الذي ترعرعوا في جواره إذ بينما انهار الشرق، تجري نزلاً إلى الجنوب، سار العاصي صعدًا صوب الشمال، من الهرمل حتى انطاكيا، هم اتبعوا خطه المعاكس، خطه المعارض سائرين إلى منابعه، سالكين بنهره المعاكس بالفكر وبالحياة، ولأنهم لم يتقبلوا وجودهم من إرادة أحد، ولم يلتزموا جانب امبراطورية ما، أموية كانت أم بيزنطية، لقد كسروا هكذا مبدئيًا المفاهيم السائدة على

أي أنهم جحدوا كل سيادة أموية، فكان هذا الموقف أول فعل تأسيسي للوطن وسط عالم مرتهن بإرادة الأمبراطورية أو الجماعة، إذ إن الوطن هو إرادة طالعة من شعب بينما الأمبراطورية أو الأمة هي منزلق من حتمية نضال، الأول فعل تاريخي والثانية فاعل         ، هو دخول في التحولات، هي استقرار في الثبات.

فلا عجب أن يكون الخليفة الأموي والعاهل البيزنطي تواطآ معًا على إبادتهم لأن هذا وذاك شعرا بما تشكله هذه النزعة المتفردة إلى الوطنية من خطر على الملكية التترية، ولكنهم ثبتوا وعاندوا هذا وذاك وصمدوا مدة أجيال وأجيال على الجبال الوعرة يطلقون منها قيلولة الشرق نداءاتهم التي بشوقون بها العابرين إلى رحلة جديدة لاكتشاف الأرض وتعمير الوطن. فقدر لهم بعض من اختبروا شيئًا من اختباراتهم، فامتدت فكرة الوطن بامتدادهم من الشمال إلى كسروان فالمتن والشوف مع بني عساف فالمعنيين فالشهابيين، يحاولون مرة ويفشلون أخرى ولا يردعون عن المقاصد الخطيرة الخطرة. وإذ طلعت النظريات القومية الوطنية في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر، وجدوا فيها دعامة عظيمة لما كانوا يحاولون إنشاءه، فلا عجب إذًا ان كانوا أول من استقدم للشرق فكرة القومية الوطنية الطالعة من أوروبا على أنقاض الممالك هناك. ولا عجب إذًا أن يدخلوا عند ذاك بمعركة عظيمة مع المنطق الشرقي السائد ومع السلطنة العثمانية ويدفعون ثمن الأهداف آلاف الضحايا ولا يردعون.

عجيب أمرهم وعجيبة هذه المحاولات التي قاموا بها على ضعف عددهم وسوء حالهم ومعاكسة التيار وضغط السلطات، ففي نصف قرن، بين مأساة السنة ال60، ومأساة الحرب العالمية الأولى، اختبروا على المستوى الروحي والفكري والحياة أعظم الإختبارات. فبينما كان شربل والحرديني ورفقا ينطلقون في مغامرات الروح للقداسة، كان غيرهم يتوغلون في مغامرات الفكر والسياسة، الأولون القديسون يبحثون عن وطنهم السماوي والآخرون عن وطنهم الأرضي، وكل من هؤلاء وأولائك يدفع ما توجب عليه من جهود وتضحيات في سبيل الوطن. كان الموارنة أول من شاءوا وطنًا قوامه الأرض واللغة والتاريخ. أما الأرض فقد جهزوها، وأما اللغة فأقبلوا على اقتباسها إذ لم تكن لغة العرب لغتهم، وأسهموا في تجديدها حتى صارت لهم ومنهم فصاروا لها ومنها. وأما التاريخ، إذ لم يكن تاريخ العرب تاريخهم، فقد ربطوا نفسهم منتسبين بواسطة الأساطير إلى الحيرة وغسان ونجران وقبائل الجزيرة. وإذ لم يكن بعد الهجرة لهم حضور في سائر المشرق، تذكروا أنهم من انطاكيا وسائر المشرق حتى تمت لهم القواعد، قواعد الوطن الثلاثة، هبة مشتركة وأرض مشتركة وتاريخ مشترك، ودخلوا الوسيط، دخلوا المعمعة. وإذ كانت الأحداث تأتي كل مرة فتهدم ما يبنون أو تخبّط العقليات عزمهم فتردّهم إلى الوراء، يتقاسر عليهم المجال حينًا فينحدرون، أو يتوسع لهم المجال حينًا فيتطاولون. فهذا المطران الدبس وبطرس البستاني يؤسسان الوطن على أصول التاريخ في إطار سوريا الطبيعية، وهذا نجيب العازوري يوسع مداه حتى الهلال الخصيبن وهذا أمين الريحاني يراه واسعًا حتى يضم الجزيرة العربية. وفي النتيجة فالإطار الوطني الجغرافي، أكان موسعًا ليشمل كل من نطق بالعربية أو مختصرًا على المشرق وحده، فإن الإرادة قائمة لإنشاء وطن مشترك على أرض معينة مع تاريخ مميز بوجه كل الأمبراطوريات أجاءت من الشرق أم من الغرب. ولكن محاولاتهم هذه، أسقطتها العقليات التيوقراطية القائمة بالمشرق كما أسقطتها مطامع سياسة الغرباء. وكما عورضوا في مقاصدهم واتهموا حينذاك بالخيانة والتآمر على الإسلام كما اتهموا مؤخرًا بالمؤامرة على العروبة، إنه قدرهم ولم يهربوا منه. ألغوا قدرهم منذ زمن، منذ بيزنطيا، فطورًا هم متهمون بالهرطقة وتارة بالحرتقة، وهم يريدون شيئًا أعظم من هذا بكثير، ثم يعودون ليتهموا، بعد أن تختلف الظروف ويمر الزمن، ما كان الموارنة يدعون إليه. فأية عقيدة سياسية تثير حماس الشعب تحت شعار الأحزاب والمذاهب القائمة اليوم إلا ومردها إلى فكرة طلع بها هؤلاء الموارنة، فارتدت عليهم؟ من فكرة سوريا الكبرى إلى فكرة الهلال الخصيب إلى فكرة القومية العربية إلى فكرة الوطن العربي، وكان بالنسبة إليهم هذا الوطن، كما كانوا ينظرون إليه مرتفعًا في علو من جبال طوروس إلى جبال اليمن السعيدة فصار منبطحًا بين المحيط والخليج. ومن كل هذا ، لم يوفقوا إلا في إقامة وطن هو لبنان، أرادوه أنموذجًا للمشرق كله، فتعايشت فيه الفئات على مختلف التزاماتها الروحية بالمساواة والولاء له، فكان لبنان هذا مختبرًا لشعوب المشرق، يعرف منه إذا كان الحلم المشرقي الواسع ممكن التطبيق والتحقيق أم بعيد التحقيق. وفي سبيل هذا الوطن، تنازلوا عن اسمهم فتركوا الإسم المعروف الذي اشتهروا به منذ ألف عام، اسم موارنة جبل لبنان، ليتخذوا اسم لبنان فقط في زمن الإنتداب ثم اسم لبنان في الوجه العربي زمن الإستقلال ثم اسم لبنان العربي         وإذ انفجر هذا اللبنان، كان الموارنة بتنازلهم وتناسيهم لذاتهم نسوا هويتهم المارونية، وكان العالم قد نسي اسم الموارنة وكان اسمًا شهيرًا في عواصم الفكر مدة القرون الثلاثة الأخيرة. كان يقال في الغرب حينذاك عالم علاّمة كماروني، وها هم اليوم، بعد كل هذه الجهود العظيمة، يجدون أنفسهم مشردين كما جاءوا للمرة الأولى من جوار انطاكيا وليس لهم وطن، أصبحوا عراة من صداقات الأمبراطوريات القائمة، فلا عجب، فقد كانوا عراة وقت الهجرة الأولى من أمبراطوريات ذلك العصر. وليس لهم، بعد أن تناثرت أحلامهم الكبرى وتفكك هذا الوطن الحبيب الصغير، من مقام يسكنون فيه إلا المارونية من حيث هي مساحة روح وإرادة وحرية. ولقد فهموا الآن أو أظنهم فهموا ما معنى تلك الصلاة التي أورثها إياهم الأجداد وكانوا يرددونها مساء كل جمعة دون أن يفقهوا أيام الترف أعماقها الوجودية، فإذا هي اليوم تبدو لهم بواقعيتها المرة: يا شعبي وصحبي أين عهد الأيمان، أين الوفا بالحب والوداد، ترى ماذا عملي، فصار هذا جزائي، ترى من هو المدعي عليّ وما هو سبب القضاء علي، أما تذكرون الجميل أما تذكرون سخائي…

ولكن علامَ يتساءلون؟ فالصلاة نفسها هي الجواب على السؤال إذ ان في المحنة التي حلت بهم علامة تدعوهم إلى العودة إلى الأصول الروحية الفكرية التي انقطعوا عنها منذ ربع قرن فاستسلموا           واسترسلوا في الأباطيل، فأصبحت الأرض موسم تجارة والوطن بؤرة دعارة ودخلت المارونية الأصيلة حالة السرية فلم يعرف عنها إلا ما عبرت عنه بعض مظاهرها القبيحة بصورة التاجر أو الفاجر، وهذه الصورة منحولة مزيفة. أترى المحنة أسقطت كل هذه الأقنعة لتظهر الأصالة؟ من موقف مسيحي أيها الأخوة، علينا أن نبدأ بمحاسبة الذات قبل أن ندين الآخرين، فنحن أول المسؤولين وأول المطالبين بالجواب، فلو كنا نحن على غير ما كنّا لما صرنا إلى ما صرنا. ثم من موقف مسيحي، نؤمن أن كل محنة لها معانيها الروحية أولاً قبل أي معنى، من حيث أن المحنة هي دومًا في النظرة المسيحية إحراج للذات، إحراج لنا للعودة إلى الجذور وإلى مراجع الهوية الصحيحة. فعلى الموارنة أن يتخلوا عن أشياء كثيرة، أن يتجنسوا روحيًا في لبنان ليستحقوا استيطانه من جديد أي أن يدخلوه كما دخلوا أول مرة من حيث هو مجال للفكر ومساحة للروح. على مستوى الفكر والروح، يكون الإنتصار وإلا فكلها هزائم. فالمارونية الحقيقية هي وقفة روحية أو هي ركوع. فالروح هي المبتدأ وإلا فالموارنة هم خبر. آمين.      

شاهد أيضاً

التذكار المسيحي

التذكار المسيحي     كم مرة من سنة إلى سنة، من شهر إلى شهر، بل يوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *