الخلاص: من الثنائية إلى الثلاثية
الأب ميشال حايك
11/3/1983
الشرق هو موطن الغرائب والعجائب والمعجزات:
كان له منذ القديم طاقات مذهلة، على الإتيان بالمفاجآت. ولعلّها لم تنفذ بعد كلّها، عند من ورث النبؤة. بل قد تكون كامنة، في المدى الأعمق والأبعد، وراء الأحداث الجارية في أرضنا، ووراء الوعي الوجداني،
الشرق المستقرّ اللامتحرك، الجامد المجتر تقاليده في قيلولة تحت الشمس، هو أيضاً الشرق المفاجئ بانفعالاته، المباغة بنزواته المداهم بمنزلاته، تلك التي كان يبغت بها العقل، فيخرجه عن القاعدة إلى الشواذ والشذوذ، ويقلب المقاييس بها رأساً على عقب.
فينزل الفجأة في السياق الزمني جاعلاً من المفاجأة شرطاً من شروط اللعبة، وعنصراً أساسياً من عناصر رتبة الوجود.
الشرق وضع القدر بين يدي الله، يلعب به مع الزمن كما يلعبون بالزهر. به يُرجَّع الزمن إلى حالة الصفر. فهو الذي اخترع الصفر. وأي اختراع شرقي عظيم، هذا الصفر، الذي يزدُّ الوجود إلى حالة لا توصف، لاهي العدم، ولا هي الوجود.
حالة الممكنات كلها. فإمكانية الحضور المطلق، وانكانية الغياب المطلق، معلقة على الصفر. ونحن اليوم على الصفر واقفون.
الشرق، سبقه الآخرون للصعود إلى سطح القمر، وإلى النزول حتى نواة الذرّة، وإنما قصَّروا اليوم، عما جاء به في الأمس، إذ جاء منذ الأمس، بمباغتة أعظم، من الصعود إلى القمر، والنزول حتى نواة الذرّة، مباغتة لم تكن بالحسبان. هي التي أصعدت الإنسان حتى سماء سموات الله وأنزلت الله حتى أعمق أعماق الإنسان.
ثلاث مفاجآت هي الديانات التوحيدية الثلاث أحداثٌ، أفعالٌ مواقفٌ للروح أوقفت العالم على سلِّمٍّ مختلف الدرجات والمستويات.
انهضت التاريخ من حالة الانبطاح والتسطيح إلى القيام العامودي على هذا السلِّم المختلف الدرجات صوب اللانهاية.
– من كان يستطيع التكهن، بأن فراعنة مصر ونماريد بابل… سيجرفهم الطوفان في النسيان أو في الفقاهة، وسيعوم على التاريخ مدى أجياله لينقل إلى العالم لوح الوصايا، طفلٌ عبراني رموه في قفّة على مياه النيل هو موسى.
– وهل كان في الحساب، أن يسقط أكاسرة فارس، وأباطرق بيزنطية، تحت سنابك غزاة مستضعفين جاؤوا حفاةً عراةً، بعد أن ألّف ما بين قلوبهم، يتيمٌ من قريش، لم يكن أب أحدٍ من رجالهم هو محمد.
– ومن كان يتجرأ على الظن، أن حلم البشرية المجنون، سوف يحققه ناصري، ومن الناصرة لا يخرج شيء حسن،. لمّا خطف الإنسان من حدود ميتوتته وزجَّه في جوهر لاهوته، بعد أن زجّ لاهوته في جحيم الناسوت: هو المسيح.
هذه الأحداث العميقة الهامة الكبيرة التي وقعت، من قبل. أو كل الأحداث التي وقعت من قبل، وكانت كبيرة هامة، تركزت حول هذه المحاور الروحيَّة الثلاث.
هذه اليهودية والمسيحية والإسلام، شغلت العصور التي سبقت، واستقطبت أحداث الزمن المحوري على حد قول ياسبرز. والتزمت هذا الزمن من أعماقه قبلنا.
وقد يكون أيضاً، أن ما سيحدث في العصور الآتية مرتهن، بانتظار ما سوف تصنع اليهودية والمسيحية والإسلام للعالم أو سوف ما لن تصنعه له ما ستصنع به أو ما سوف لن تصنع به.
فمصير العالم، مُسَلَّم إليها اليوم، لأن نصف سكان يعتنقون عقيدتها، خَلاصُه بيدها، وعلى يدها هلاكه، فإذا لم تنقذه دينياً روحياً، بإحلال السلام، لا بتغذية الحرب والبغض. فقوى البغض سوف تدمّر هذا العالم تدميراً مادياً. وقد تكون المفاجأة العظمى، التي تمحورت فوق أرضنا اللبنانيَّة، هي، في هذا السلام، أو في هذا الدمار يمتد من هنا سلاماً أو دماراً، إلى المنطقة فإلى العالم.
للمرة الأولى، منذ قيام الدهر، يملك الإنسان، من وسائل الموت، ما يمكِّنه من تدمير 14 كوكباً على شاكلة كوكبنا كما يقولون. فبوسع الإنسان أن يهدم بيته على رأسه، بفعلٍ شمشوتي، هو عمل انتحار أي فعل يأس. وفعل اليأس هو عكس الأفعال الدينية التي تركّز عليها الديانت التوحيد عقيدتها:
اليأس: هو عكس الإيمان الإسلامي،
هو عكس الرجاء اليهودي ،
هو عكس الحب المسيحي،
أجل اليأس المؤدي إلى الانتحار، هو خلاص، ولكنه عكس الخلاص الروحي، هو أسوأ أنواع الخلاص فالمسيحية واليهودية والإسلام، المبنية على قواعد الإيمان بالحياة، وعلى رجاء الحياة، وعلى محبة الحياة تواجه اليوم عالماً على وشك القنوط، يملك الإطاحة بالأرض كلها، بما فيها أرض الموعد فلسطين لبنان سوريا الأردن…
فبعد أن بدأ هذا العالم، عمليَّة تصفية للتركة التي ورثها، تصفية للمعرفة، وللأخلاق وللقيم، ها هو يشارك اليوم تصفية الرصيد كله من الزمن. لأن تسكير الحساب كله أصبح في يده. وقد لا انتهي من هذا الكلام، إلا ويكون انتهى كل شيء. ما يدريك، لعل الساعة قد إذا كان الإنسان، لم يبرع ذاته، فهو يستطيع على الأقل أن يمحو ذاته، هذا العمل النصفوي الذاتي، هو فعل خلق، فعل إبداع، فعل خلاصٍ، لكنه معكوس. للانتحار. أي لإبداع الذات بإبادتها، قيمة جماليَّة عند البعض، لا حد لها،لأنها تعطي صانعيها أن يمارس اللامتناهي والأزلي واللامحدود. فإنه إلهٌ إذ يقضي على نفسه هو بأن يموت.
أتتركه الديانات، وقد تعهدته أجيالاً، فسلّمها نفسه، واستودعها مصيره، ووعدته بإن إيمانه، سيؤدّيه إلى رجاء سماوي، أي مرجعٍ له سواها؟ بعد أن اختبر الإنسانُ الحاضر، كالإبن الشاطر. اختبر كل مغامرات المجهول، في مختلف الأبعاد. وماذا كسب من المغامرة، سوى العُري، والجوع والحنين إلى أب الحنين إلى آب:
أفي السموات آبٌ رحمان؟ والخلق في الأرض تراهم عبادُه؟
كيف يبرهن أنه خلقنا من العدم الأولي إذا لم ينقذنا من العدم الثاني الوشيك؟ وأين البرهان؟ إلا عند من تسلموا تراث النبؤآت، وزعموا أن الجزوة الإلهية كم تخمد، وأن الله، هو سبحانه هو الحي الباقي؟ وإذا كان، يتعالى من العالم اليوم، ضجيجُ النُعاة الذين ينادون. إن الله قد مات، فإن في هذا صراخ يتامى خائفين، وكاد يدركهم الرعب من الفراغ والليل، والوحشة والصمت الآتي.
إن صراخهم صريخ، إن نداءهم استغاثة بمنادى تتخذ صفة التقريع والتنديد، يطلقونها صوب المقامات الروحيَّة الكبرى، أو صوب ما يعادلها من البدع الدينيَّة، المتكاثرة اليوم، يتكاثر التوق إلى معجزة، والشوق إلى انقاذ المطلوب إذاً، معجزة إنقاذ، وإلا فسيدرك الويل جميع الناس.
ومن تراه يأتي بالمعجزة؟ إلا من زعموا أنهم أهل الإعجاز؟ ومن يُنقذ، إلا من ادّعوا أنهم يملكون وسائل الإنقاذ؟
ولن يثبت ادعاؤهم تخليص العالم إلا إذا بدؤا فخلًَّصوا ذاتهم وخلّصوا الشرق. وتخليص الذات يعني عملية العودة إلى الأصول الروحيّة الحقيقية.
عودة، لا للاجتراء والتحجّ والتقوقع، بل عودة لاستلامها الروح الأولى، لاستلام الشعلة لتحرق الثياب العتيقة والقمصان الوسخة، وتحول نار المحرقة. إلى نورٍ على الحقيقة؛ يعني أ، هناك عملية تحرير للعقيدة، مما تراكم عليها، وعلق بها من تفاسير وتصورات. خلقت للمؤمنين بها، نماذج إيمانٍ هم أقرب إلى الشماسنة والعناترة والزيران منهم إلى الأولياء الصالحين والودعاء والأتقياء والقلوب، الذين نالوا وعد
الطوباويات في إنجيل يسوع.
هذا تخليص الذات،
أما الشرق،الذي سلّم أمره للديانات الثلاث، واستلسلم لها منذ أجيال وقرون، فعليها خلاصه، وكاد يهلك بؤساً، وكاد يقدم على الإنتحار.
لقد علق به منها أو علق بها منه، تلك الجدليّة، تلك الثنائية، التي تشطر تاريخ الشرق وإنسانه ومجتمعه شطرين:
الثنائية، التي ما برجت تتردد فصولها من جيل لجيل كما سردتهاكتب الوحي ونصوص الأساطير الثنائية، التي لا تزال تتفجَّر تحت أنظارنا الآن ثنائية تتمثل بصنفين من الناس، لم تنقطع أبداً عثرتهما، وكلٌ يعرف رموزهما في التوراة.
قابين – هابيل، اسماعيل – اسحق، عيسو – يعقوب، عرب – وَعَبَر، ابن أرض – ابن قفر، آكل قرب وشوك – وشارب عسل ولبن….
على رغم ما اصطبغ به التاريخ هنا، من كل لون وعيب وحليّة. فكان بابلياً ومصرياً، وآرامياً، وآشورياً، وفارسياً، وإغريقياً، ورومانياً، وبيزنطياً، وعربياً وتركياً وفرنجياً هذا التاريخ، بالرغم من كل هذه الحظوظ، وكل هذه النحوس. بقي عاجزاً عن التخلّص من طاغوت الثنائية. التي ما برحت تتحكم به منذ قيامه.
عجيب أمره هذا الشرق، لقد جعل من الفعل الثلاثي، في الخمسين لهجة الساميَّة المعروفة، لقد جعل من الفعل الثلاثي أصل لغته، واللغة هي الحياة ولكنه، في ممارسته الحياة، لم يستطع أن يتخطّى المثنى إلى الثلاثي. بقي في حالة الأضداد في ذهنية النقض في التحدّي… بقي دون الحالة الثلاثية التي هي موقف الوساطة، بين الواحد والثاني.
وقد تكون، ديانات التوحيد، غذَّت هذه النزعة، وطلبت من بنيها، أن تحاول توحيد اللغة، والدين والأخلاق والقيم،.. لتنعكس وحدة الله في السماء، على كل ما في الأرض، ابتداءً من بيزنطية حتى قيام هذه الساعة،
إن الثنائية، هذه تعني بالنتيجة، تحدّي الواحد للثاني، إن الثنائية، تعني رفض الآخر، والآخر من هو؟ الآخر هو أخي؛
هابيل هو أخٌ لقايين. والصراع قائم، والمسألة المهمَّة عند أهل المشرق: هي من يقتل مين؟ من يكون قايين؟ من يكون البطل؟ من يكون القاتل؟
ولكنَّ تاريخنا نفسه، لعن هذا البطل، ووسمه بعلامة اللعنة على وجهه.
أيظلّ إذاً تاريخنا، يدور في هذه المأساة العائلية،
– أخٌ مصبوغ بالدم.
– وآخر موسوم باللعنة؟
بالأمس، شعَّت من الشرق أنوار الوحي، فأضاءت إلى البعيد، درب السالكين في ظلال الموت. واليوم، يمكن أن يكون إنقاذ الشرق، مقدِّمة لعملية خلاص تمتد إلى أطراف العالم، وأن القيِّمين على تراثات الخلاص، هم مسؤولون عن هذه الرسالة. وليس من العبث، أن يكونوا عادوا فوضعوا في حالة مواجهة فوق أرض المشرق. حول القدس، موعدهم الأخروي مع المسيح، هذه المواجهة، لا يمكن أن تكون في مقصد الله، إلا لكي يتعارفوا ويتصافوا ويتبادلوا المسؤولية لاستعجال زمن الخلاص، وإنهاء أزمنة البغض المميت، وإقامة وضعٍ مبنيٍ على دستور روحي، يكون دليلاً للعالم، المضيع روحه، الفاقد رجاءه وإيمانه وحبَّه.
فهذه المواجهة هي بحد ذاتها معجزة من التدبير الإلهي.
أتكون حقاً مواجهة؟ أي تعارفاً وجه لوجه أو تتحول إلى مظاهرة، أي تنكراً ظهراً إلى ظهر؟ فتضيع الِقبلة على الجميع، ويتيه الحجاج إلى مدينة السلام، في كل سبيل من الليل.
إن النور، الذي منح للشرق قديماً لينير العالم يمكن أن يتحول على يدهم، إلى نار تحرق العالم. وكم هم مسؤولون عن حرائق أشعلوها، فظنوها محرقات. حتى قال الله لهم:
” لقد كرهت نفسي أعيادكم ومحرقاتكم”
بدل أن يكون هذا الشرق، تلك الجنة المستعادة التي حلم بهاالشرقي بعد أن ضيّعها بنهمه وصلفه يصبح المشرق لا جنة بل جحيماً آكلة، وعوض أن يبدأ منه، فعل التكوين الإنساني، الجديد، ينتشر منه الوباء على الدنيا. فيكون المشرق، حلم أبهى الوعود، ثم حطمها. بعث بأجمل الأحلام، ثم حوّلها إلى أهوال. فهو إذاً, فوقعٌ فريدٌ، وقَدَر فريد. تتواعد فيه وعليه المطلقات، فلا يقع حادث فيه إلا وله دويّ عظيم، يتردد مدى العالم والزمن.
ونحن، في لبنان. لبنان، من حيث هو خلاصة المشرق الحضارية والعرقية والروحيَّة من حيث جامع التراثات الروحية والمطلقات من حيث هو مفهرس اخفاقات المشرق ومكاسب ما أصعب مقامنا في لبنان.
كل رجاءات التاريخ معلّقة بين يَديك، وأبواب الموت مفتوحة تحت قدميك. لبنان، كان اليوم، كما كان بالأمس، هو المحك والمختبر، من مصيره يعرف. من مصيره تعرفون مصير الشرق. ويستدّل على الآتي من سني العالم:
أعنصرة أم بابل؟ تنتظرنا وتنتظرهم؟ والمفاجأة قريبة، لا بد منها؛ لقاءً ثلاثياً على مستوى الروح؟ أو فوضى ثنائية يتخلط فيها الحابل بالنابل ويتخبّط هابيل بدمه ويتيه قايين مصحوباً باللعنة؟
لقد كان لبنان، منذ ثلاثة قرون، يعلّم الشرق أساليب الحياة، ويمشي في المقدّمة لاختبار فنون الوجود، فيطحن ويعجن ويخبز ما يقيت به روح هذا المشرق وفكر المشرق،
وها هو، منذ ثماني سنوات، يدخل أمام الجميع معمعان الموت، هذه المرّة، سباقاً في الموت نفسه، ليدّل الجميع، على أية ميتة سيموتون إذا شاؤا أ، يصحلوا للحياة.
لقد ألقوا على كتفيه، مسؤولية قضية الشرق برمتها. أي إبطال الصراع الثنائي العتيق المستحكم الموروث من زمن آدم. إذا كان الله قد أعدَّه إلى هذه المهمة، فعلّمه كيف يبطل التحدّي المزمن، بالميثاق. فهم، قد جمَّعوا فيه، كل ما أفرز الشرق، منمذاهب ومعائب ومصائب، فورث الأصالة والشذوذ، كان مطهراً وقازورة، مغارة لصوص ومنارة أقداس.
لقد حشروا كل هذا في رقعة ضيّقة، بين بحري الرمل والماء. هناك صلبوه وقالوا له:
– خلّص نفسك خلصنا.
– خلّص المشرق أو مت.
– إنزل عن الصليب وأنزلنا معك.
– أو إصعد إلى السماء وخذنا معك إلى الملكوت.
إن وارء الضغوط الضيقات، التي أنزلت بلبنان، هذه النوازل المُتَأتية من المشرق نفسه إن معناها المستتر، هو استغاثة إلى لبنان. ليَستنبط إلى هؤلاء جميعاً. نوعاً من الوجود يكون جديداً. بشكل الميثاقية التي جعلها فلسفة ثباته وتموُّه، وهم كانوا عن إنجازها عاجزين. وإنجازها للجميع، هو الإعجاز المطلوب منه. وثمن الإعجاز باهظ جداً، ولم يكن ذلك عليه بكثير، لقد دفع الكثير.
أترى سدد حساب الفاتورة كلها؟
لقد وضعوا لبنان، في قلب المأساة، حمّلوه سيرة المشرق كلها، بما فيها من أوساخ، ليجمعها ويحرقها كطائر الفينيق، الذي ورث لبنان اسمه واختباره أيضاً.
ومن الرماد، كانت تطلع شرنقة تصير طيراً جديداً، كما جاء في الأسطورة، ويحمل الفنيسق رماد أبيه، أي رماد ذاته الماضية البالية، ويضعها في هيكل الشمس، في بعلبك،
هذه المحرقة قد لا تكرهها نفسك يا الله. ولتطب لنا بعدها أيام العيد، في زمن جديد.س