1- السبب والمعنى
إن المحنة القاسية التي تمرّ بها المسيحية في لبنان ولمّا ينتهِ سفر عبورها، لم تكن الأولى من نوعها، لقد سبقتها في الأجيال السالفة محن كثيرة سجّلت بعضها صحف التاريخ وطمست أكثر ممّا سجلت وأهملت الكثير.
إنما لو اقتصرنا على حدثين القرن الأخير وحده فلم يحسب منه سوى الكبائر في المصائب، لكانت هذه النكبة هي الثالثة في الحساب. ففي سنة 1860 تعرض المسيحيون لمجزرة أودت بحياة اثنين وعشرين ألفًا منهم – مع من قتل في الشام – وتشرّد خمس وسبعون ألفًا وخربت ثلثمائة وستون قرية، وهدمت خمسمائة وستون كنيسة واثنان وأربعون ديرًا. وأسماؤها معروفة، ما عدا ما ذكر في مختلف ديار الأمبراطورية العثمانية وجملة «القصارى في نكبات النصارى».
ثم إن أبناء الحرب العالمية الأولى دبرت خطة كانت تستهدف إبادة الموارنة، كما قالوا، بعد أن كانت ابتدأت عملية تصفية الجماعة الأرمنية. ولكن تدخّل رومه لدى ألمانيا وألمانيا لدى تركيا حليفتها أوقف التنفيذ المباشر للمخطط الجهنمي، فلم يهلك منهم – ومن غيرهم – سوى ثلثهم أميت جوعًا وشنقًا.
ثم نزلت الفاجعة الأخيرة ولم تحصَ بعد كل عواقبها. وإن ما يميز هذه عن سابقاتها من الفواجع فهو أنها جعلت المسيحي وبخاصة الماروني، يشعر – صدقه شعوره أم خدعه – بأنه مهدد بالإبادة في قعر داره؛ أنّى أنشأ داره على قمة عالية أو في وادٍ سحيق، لقد اكتشف برعب للمرة الأولى، لدى الوسائل الفتاكة التي كانت مجهولة من قبل، والتي جربت على ساحات لبنان، أن الجبل لن يحميه من بعد وأن شقوق الأرض لن تقيه، وأن عصمته التاريخية في الجغرافية انتهى عهدها، فهو معرض مكشوف في كل مكان.
ثم انه أدرك أيضًا فجأة، مع الدهشة والجزع أنه لا يوجد في العالم مرجع عسكري أو سياسي يدفع عنه خطر الإفناء. فلا هيئة الأمم المتحدة، وفي يدي شرعة حقوق الإنسان، ولا الجامعة العربية، وبين يدي ممثليها، دستور علاقات أفرادها بعضهم مع بعض، ولا أوروبا الغربية، ولديها ذاكرة تاريخ روابطها القديمة والحديثة بمسيحيي الشرق ولبنان أقدمت على شيء ما إن لم يكن بالعمل الحازم، فأقله بالكلام الجازم لتدفع الموت عن جماعة ورث بنوها ثروات حضارات متعددة وقدم بنوها العديد من شهادات الخدمة الإنسانية، وجسدوا في الشرق دعوة إلى ما تنادي به شعوب العالم الحرّ في الغرب من قيم وممارسات.
ثم إنه اكتشف أيضًا وبالوقت نفسه ما هو أمرّ من كل هذا، لما وجد أن ليس له في الضيق صديق. بل ان من ظنهم أصحابه منذ الأمس البعيد، لم يكونوا بالحقيقة سوى أصحاب مصلحة، لقد خدعوه إذن لما صوروا له فتصور معهم عن يقين مصطنع غير راسخ تاريخ الأمس بشكل أسطوري أثبت الحاضر خرافيته. باطلاً إذن كان وفاؤه لمن ظنهم خلانًا وأعوانًا، وباطلة كانت الصداقات. وإذ تبددت أوهامها كلها فانتهكت حرمة الجبل المنيع وبدا حق الأمم الضعيفة ضعيفًا وتقلّصت أسطورة الحماية وأوهام أساطيرها وعى ذاته على حقيقتها فرأى نفسه يتيمًا من كل انتساب، منبوذًا عن كلّ باب، عاريًا عن كل ضمانة، منفردًا مع مصيره، محاصرًا على أرضه كطريدة في مرمى القناصين. إذا لم يكن له أو للبعض من بنبه اختيار غير عملية الإنتحار ليجد له فيها المخرج الممكن الوحيد من الحصار، بينما البعض ممن تعودوا، والبعض الآخرون يحاولون بأساليب السياسة إبعاد الأخطار. وها هو اليوم في حالة ضياع نفسي كبير، هو أشدّ عليه من ضياع ممتلكاته وأمواله. يستولي عليه ما هو أمرّ من الفزع، إنه الجزع. كل هذا يحلّ به. وما ذنبه!
ترى لماذا كل هذا؟ سؤال يطرح كما ورد في أسبوع صلاة الآلام المارونية:
«ترى ماذا عملي فصار هذا جزائي؟
ترى من هو المدعي وما هو وجوب قضائي؟
أما تذكرون الجميل أما تذكرون سخائي؟»
أنتم العرب والغرب والعجم، «ترى ماذا عملي»
الجواب عن السؤال هو في البحث عن الأسباب وهي عديدة.
فمن الخارج أسباب، منها العنف الذي يفتك بالدول، ويحتاج العالم اليوم من أقصاه إلى أقصاه، وقد مرّ بنا كالوباء، وإذ وجد تربة خصبة في مخيمات اللاجئين إلى لبنان والمنبوذين عشش وباض وأفرخ فيها. ومنها الصراعات المستحكمة بالمنطقة بين دول الجامعة العربية التي جمعت وكدست من التناقضات والأضداد والعقد والأوهام ما لا يطاق، ولم يكن من وسائل الإفراج سوى القتال ومن ساحة للتعبير سوى لبنان.
ومن الأسباب الخارجية أنانية الدول الكبرى التي حكمت على هذا الشعب الصغير أن يضحي بكيانه ليحل عقده أحكمتها الأمم المتحدة نفسها وعجزت بعد ذاك عن حلّها. لقد «استضعفوه موصفوه» كديك المعرّة ولا يعجب لهذه اللاخلاقية العالمية إلا البسطاء الساذجون الذين يؤخذون بالظواهر والأقوال فينسون أن لكل دولة من هذه الدول الكبرى تاريخ قديم وحديث جدًا حافل بالبشاعات والجرائم ضدّ الإنسانية: أكانت الضحية بولونية أم جزائرية أم مجرية أم تشيكوسلافية أم فييتنامية.
ثم إن هناك أسبابًا وطنية، وهذه أخطر من تلك، إذ لولا هذه لما كانت تلك أدّت إلى النتائج التي حلت بنا.
من الأسباب الداخلية، لا مبالاة العامة المتهالكة على العيش الآني دون حساب للآتي، ومنها قصر النظر السياسي الذي أظهر عجزه عن إقامة دولة صالحة للحياة وعن تربية مواطن سليم، ومنها تحجّر المؤسسات الدينية التي تعيش على حساب الوحي السلفي فلا تستوحي منه نورًا للحاضر وللمستقبل. ومنها انعدام نخبة فكرية ملتزمة حرة واعية شجاعة. وبالإختصار، لقد تلاقت عليه جميع الأسباب التي من شأنها أن تقود بلدًا إلى الإفلاس، وهذا كله على خلل في الجهاز الذي تركّب منه لبنان، كما تركّب غيره من البلدان المشرقية، لما افترضوه، كما افترضوها اعتباطًا، استنادًا إلى شركة اللغة، انه أمة واحدة، بينما هو مجموعة أمم ومخلوطة شعوب قذفتها الأقدار إليه منذ قديم الزمن، جيلاً بعد جيل، فجمعتها المصلحة على اصطلاح لم يشاؤوه هم بل شاءه لهم غيرهم في زمن الإنتداب ولكنهم فبلوا به كأهون الشرور في بدء الأستقلال، طالما المصالح المشتركة قائمة.
ويمكن أن نعدّد للمحنة أسبابًا أخرى، قريبة أو بعيدة، مباشرة أو غير مباشرة، في نفسنا وفي غيلانا، في فطرة صنفنا البشري وفي سوء إرادة الآخرين. لقد قيل في كل هذا الشيء الكثير، وفي كل رأي صواب.
ليس يعنينا هنا من الإشارة إلى الأسباب نتائجها والمسببين وفعائلهم سوى أن كل هذا «مادة» التاريخ لا صورته، إنها علامات حسّية ولكن مدلولاتها أبعد من ظواهرها. نتبصّر في ما وراء الأحداث والمحدثين فنستبصر المعنى الروحي ونقرأ على ضوئه حقيقة التاريخ في عمقه لا في ما بدا من أعراضه.
من هذا النظر المسيحي، يبدو لنا أن الأحداث الأخيرة وما سبقها وما سيلحقها حتمًا لا يجوز أن تعتبر نتائج وضعية لأسباب عادية، بل يجب أن نرى فيها امتدادًا لسيرة روحية ما برحت عبر الأجيال الطويلة تتمظهر في مشاهد مختلفة وتتقمص لباسات متغيرة حسب اختلاف وتغيير الأزمنة. على أن الخيط الذي يربط الفصول بعضها ببعض على تنوع المشاهد وتغيّر الممثلين، هو المعنى الروحي الذي يستطيع المسيحي كشفه من بين الإستعارات، إذا صحّ أن المسيحي أعطي روح النبوءة، كما يؤكد بولس الرسول. فلا بدّ إذن من هذه المحاولة الإستكشافية. فقد يتبدّى لنا إثرها أو من خلالها، سرّ وجودنا العميق، ويتضح لنا، إن أمكن، وجه مصيرنا في المشرق، فلا تأخذنا الفجأة كل مرة التقيناه في مسارنا الزمني.
أي تناقض عند المسيحيين هو الذي يجعلهم يشعرون، كلما أصابتهم محنة، إنهم أُصيبوا بها بسبب مسيحيتهم، بينما أرادوا شرحها وتعليلها، تراهم يستفسرون عن الأسباب خارج المسيحية. لقد وجب إبطال هذا التناقض بين ما يدل عليه الشعور وبين ما يعلله ويعلنه العقل، وذلك بانطلاقة واضحة صريحة من الموقف المسيحي. فالتساؤلات جميعها مردّها إلى سؤال واحد أساسي: «ماذا يعني أننا مسيحيون هنا؟».
وإذ نقول «مسيحيون» لا نعني بالتحديد والضرورة المسيحية من حيث هي مؤسسة دينية لها عقائدها وأنظمتها ورسومها وأهدافها، ولا من حيث هي بشري له أسلوب عيش ونوع تفكير وطريقة عبادة، لا نعني إذن جماعة مطبوعة بطابع مميز في الفكر والحياة، بل المسيحية التي نعنيها هنا هي تلك العملية الروحية الإنقلابية العظمى الهادفة إلى تحويل هذا العالم إلى شكل المسيح، أي إلى أن يتم في كل شيء ما تمّ بالمسيح، أنموذج الوجود. وذلك لن يكون إلاّ على يد من تحوّلوا هم أولاً إلى المسيح فالتزموا سيرته وحققوا بحياتهم ما تحقق بالمسيح وما لزم عليهم إنجازه في العالم.
لقد حدّد بولس هوية المسيحي إنطلاقًا من شريعة الوجود التي يسير بموجبها، قال: «أنتم الذين اصطبغتم بالمسيح فإنما اصطبغتم بسر موته وقيامته». هذا معناه أن صبغة العماد المائي التي يصطبغ بها المسيحي هي نفسها الصبغة الدموية التي اصطبغ بها المسيح. فإذا الوجود المسيحي كله مرميّ في حوض مياه الموت والبعث على شبه المسيح. فالمسيحي متجسد حتمًا في عمق وكثافة الزمان والمكان يقاسي فيها، على أشدّ ما تكون المقاساة المتطوعة، الصلب والموت والنزول إلى الجحيم ثم النهوض فإنهاض العالم من حالة القِدَم والعفن إلى بهاء الفصح الجديد.
بهذا الأنموذج الوجودي ختمت فطرة الطبيعة البشرية منذ أن تجسد المسيح فيها. وبه يطبع المسيحيون من ماء وزيت العماد. ولكن لا يحقق البعض منه إلا القلائل منهم هم القديسون، بينما يظلّ عند الكثيرين توقًا وعند الأكثرين ذكرى باردة.
وفي كل حال، فسنّة الموت واليعث – سواء تحققت في قلة من النفوس أو ظلت دعوة تذكارية بعيدة في حياة الأكثرية – تنعكس دومًا مفاعيلها، فتبدو نتائجها ظاهرة في المناخ الفكري واللون الإجتماعي وفي كل إنجازات التاريخ العلماني. أي إنها تمسح المدنية المنتسبة إلى المسيحية بمسحة خاصة تجعلها خاضعة لديناميكية وهي التجديد والتفسير والتحول من وضع إلى آخر. إنها جدليّة الموت والبعث أبدًا، كل المجتمعات المسيحية دلائل حية على هذه الحركيّة الملاصقة للبنية المسيحية.
وهذه الشريعة تتخذ عندنا، نحن المسيحيين المشرقيين، شكلاً عليه من الحدة أقصاها بسبب القربى الخاصة التي تربطنا بالمسيح البشري، لأنه، إذا صحت للمسيح قرابة زمنية، فنحن ألزم الناس انتماء إليه، وألصق الدنيا بالموقع الجغرافي حيث علّم وتمّم تدابير الفداء، وأسبق الشعوب إلى فعل الإيمان به، حتى قيل أن يشهد له تلميذ رسول، وأوفى الأمم، في لغة صلاتنا، للكلمة الآرامية التي بها نطق بشري لخلاص العالم.
بسبب هذه الإنتماءات الفريدة، أصبح وجودنا البشري امتدادًا فريدًا لتلك الكلمة المتجسدة، فخصصنا بالتزام مميز وهو أن نتابع ونكمل في البقعة نفسها سيرة الأمة وفدائه، فنختبر بميتاتنا موته ونشهد بقياماتنا لقيامته، جيلاً بعد جيل، فنظل نمزت ونقوم مثله حتى يموت الشرق ويقوم انسانه ويدخل العهد الجديد، أي زمن الروح حيث الحرية.
«هذا الكلام صعب فمن يطيق سماعه»، قال الرسل يوم أخبرهم المعلم عن معجزة تحويل مادة العالم إلى جسده. حينذاك أحجم البعض وارتدوا عن مرافقته، كذا أحجم البعض منا مرارًا، إذ لم يطيقوا حمل المسؤولية الشديدة. فهذا هاجر عنها جسديًا إلى مكان أسلم، وذاك هجرها إلى عقيدة أسهل، وآخرون استعفوا منها فتلهّوا عنها بمطالب عقائدية أخرى، وبقيت بقية مسيحية لم تتخلَّ، في مرامها العميق، عن الغاية الروحية التي لأجلها استُبقي عليها. ويكفي ، إن لم يعِ الكلّ، أن يعي بعض الأفراد، حين يتأملون بأمسهم وغدهم، معنى استمرارهم وحضورهم ومصيرهم، فيذكّروا عامة الآخرين منبئين بما كان، متنبئين بما سيكون.
والغوص في مثل هذا التأمل، على ضوء سنة الموت والبعث، يؤدي إلى كشف صورة المسيحية في وجهيها الأصيلين: وجه مبرّح «صليبي» أي حامل سمات الهوان والصلب والموت، ووجه قيامي يشعّ بوعود البعث والتجديد والشمول.