تعريف وغلاف ومقدّمة وفهارس كتاب وديوان “سائح على ضفاف الذات”/ تأليف لويس صليبا
المؤلّف Auteur : د. لويس صليبا Dr. Lwiis Saliba
أستاذ وباحث في التصوّف والأديان المقارنة
جامعة السوربون – باريس
عنوان الكتاب : سائح على ضفاف الذات
حكاية مسار صوفي وسيرة ذاتية شعرية.
Titre : Pélerin sur les rives du Soi
عدد الصفحات : 370 ص
الصف والتصميم الداخلي: صونيا سبسبي
سنة النشر : ط1: 2014.
الناشر : دار ومكتبة بيبليون
طريق المريميين – حي مار بطرس- جبيل/ بيبلوس ، لبنان
ت: 540256/09-03/847633 ف: 546736/09
Byblion1@gmail.com
www.DarByblion.com
2014 – جميع الحقوق محفوظة
”سائحٌ على ضفاف الذات“، بحثٌ يروح في الداخل، دؤوبٌ في سبر أغوارٍ عاصية على سطحيّةٍ في الرؤية، تبغي المزيد من الرجوع إلى أصالة النفس في الماضي الدفين، لتبرز صورة الحاضر في تطلّعٍ إلى المستقبل الذي يتوق إلى الارتفاع سعيًّا وراء البلوغ!
سائحٌ على ضفاف ذاتٍ تلاقيها في قولاتٍ تفكّريّة، جادت بها انكشافاتٌ نورانيّة لأئمّة المعرفة الإنسانيّة الذين تأمّلهم المؤلِّف عبر محطّات نزل بها خلال سياحةٍ في قراراته! قولاتٌ لجبران ونعيمه ومفكِّرين عرب وأعاجم، وقف في حضرتهم هائمًا في سرّ توصّلاتهم، محدِّدًا وجهته الأدبيّة، منطلقًا في تعبيراته الخاصّة عن الحالة التي يحياها.
جديرٌ بنا التوجّه إلى ”السائح على ضفاف الذات“، ناقلين إليه امتنانًا لاصطحابنا في سياحاته المختلفة الاتّجاهات، نحو هدفٍ واحد وعَينا عليه معه! أما يليق بكلّ واحدٍ منّا أن يقوم برحلته الحقيقيّة في معارج ذاته وولوج أعماق نفسه، فتنير دروبَ حياته في حقائقها السميا، فيلتقيها متوجّهةً نحو العلاء حيث يجد واقعَه ينتمي إلى فوق؟!
عماد يونس فغالي
مدخل للمؤلّف
نحو سيرة ذاتية… شعرية
تحكي محاولات هذا السِفر حكاية حال قد يبدو الإفصاح عنها… من المحال. فهي تاريخ مسار صوفي واختبار. إنها دورة جديدة… أو ماندلا Mandala في التعبير الڤيدي([1]) تبدأ من نقطة لتعود وتنتهي فيها: الولادة ويوم الميلاد الذي مع تكرار حلوله يُشعر بوطأة السنين وثقلها (الباب الأول) لتنتهي بصرخة الولادة وصيحة الوالدة. وهذا الترتيب لم يكن مقصوداً، بل جاء عفواً. ولعلّ ذلك يعود إلى أن البنية الڤيدية غدت أمراً راسخاً ومألوفاً في وعيي. وبين النقطتين: البداية والنهاية التي ترجع إليها سياحات في الداخل وإلى مقامات روحية… وعلى الغانج المقدّس وفي أديار مسيحية وعتبات إسلامية… هي في الحقيقة أسفار ورحلات… تعيد إلى الذات. وكأن المرء يسافر ألوف الأميال ليلقى شيئاً… كامناً أساساً في داخله… في ذاته، ومن هنا العنوان:
سائح… على ضفاف الذات
فالسياحة الروحية، مهما طالت وبعدت، لا معنى لها إذا لم تكن… رجوعاً إلى الذات. فكل السياحات ورحلات الحجّ هي بالأحرى تمهيد ومدخل لهذا الرجوع… أو نمط منه. وفي ذلك أقول (باب3/سائح على ضفاف الغانج):
سائح أنا… أبحر وأسير
وكل يوم أكتشف قارة في مجاهل ذاتي»
فكما تبدأ أناشيد هذه الحلقة من نقطة الولادة لتعود إليها، هكذا أيضاً تبدأ سياحاتها من الذات لتعود إليها… من ضفة إلى ضفة… ولا يعني ذلك إحجاماً عن الدخول إلى حرم الذات وقدس أقداسها. ولكن الإقامة الدائمة هناك غير متاحة إلاّ لِمَن بلغ التحقق والاستنارة، وهو أمر لا أدّعيه، لذا اكتفيت بتسمية سياحتي: على ضفاق الذات.
ومقطوعات هذه المجموعة وأناشيدها وقصائدها المنثورة لُملمت من دفاتر يوميات، بعضها يعود إلى أيام الدارسة 1979 و1980. وبعضها الآخر لا يتجاوز تاريخه سنة أو اثنتين، تأملات هي وانطباعات… تفحّص لحال. لم تكتب في الأصل لتنشر… بل لتؤرّخ لمسار وتجربة داخلية… أو حتى بغرض ما أسميته التداوي بالكتابة. وقد اكتشفت بالاختبار أن الكتابة علاج ناجع لكثير من أدواء النفس.
أكتب عن شيء أتساءل عنه… أو أعاني منه.. فتنكشف لي أحياناً أبواب فرج… أو أعرف من الداخل عنه أموراً لم أفطن إليها سابقاً. فالكتابة بحدّ ذاتها سياحة على ضفاف الذات… وولوج إلى حرمها. وهذا ما تحدّثت عنه في محاولة أسميتها: التداوي بالكتابة. أيّاً يكن، فالكتابة في عرفي واختباري من شأنها أقلّه أن تكون تشخيصاً ناجعاً للمشكلة والداء.
ومحاولات هذه المجموعة ترسم بمجملها ملامح سيرة ذاتية شعرية وخطوطها الرئيسة. ففيها نصوص وابتهالات وأناشيد… وحتى غزليات من عهد الصبا إلى اليوم. دورة من العمر… حلقة كاملة منه حوت عناصر ونماذج تمثيلية من مختلف مراحله… ومشاربه.. ومشاريعه… وطموحاته.. فمتى جمعت ووضعت الواحدة إزاء الأخرى كوّنت بأحجار فسيفسائها لوحة متكاملة… وسيرة ذاتية دوّنت برموز وإشارات وأشعار.
وهكذا فبعد ”سيرة ذاتية فكرية“([2]) ها أنا أدفع بِـ”سيرة ذاتية… شعرية“ إلى عالم الطبع والنشر.
والسيرة الذاتية الشعرية هذه، حكاية مسار صوفي هي. مسار يبحث عن التجربة والاختبار قبل تكديس المعارف والغوص في البراهين العقلية والضياع فيها. وهذا ما جعلني، وفي مسيرتي الشخصية والفكرية أنكفئ عن الفلسفة ولا سيما بطابعها النظري والذهني واتجه نحو التصوّف واليوغا. فالفلسفة، وكم أحببتها في صباي، رمتني في أحضان الإلحاد والتيار العبثي Absurde: ضياع عبّرت عن شيء منه في ما أسميته رحلة من الإيمان… إلى الشك. (باب2)، لأعود وأسترجع بعضاً من إيمان حكيت عنه في مقطوعة ”العبادة واليقين“، (باب 4).
براهين الفلسفة واحد يضرب الآخر ويعطله. أعطني برهاناً على وجود الله أعطك بالمقابل عشرة على عدم وجوده، والعكس صحيح. لذا قرّرت، وبعد زمن طويل من الحيرة والضياع، أن أنهج طريق آخر طريق التصوّف والاختبار. وما أعنيه بالتصوّف هنا البحث الداخلي والتجربة والحدس. أن أسأل ذاتي.. ونفسي عن كثير مما كنت أطرح من إشكاليات كبرى ولا أجد في أجوبة الفلاسفة النظرية والعقلية ما يروي بعضاً من ظمئي. وأفهم تماماً هنا ما يقول المفكّر الفرنسي سرويا H. Sérouya وأوافق عليه:«ليس التصوّف برهاناً على وجود الله، بل هو إحساس بالله»([3]).
أن نشعر بالأمور… نحسّ بها. فحتى أرسطو، المعلّم الأول وكبير الفلاسفة، يقول:«يسير من ضياء الحسّ، خير من كثير من حفظ الحِكمة»([4]).
إحساس داخلي قلت، وحدس أيضاً. وفي ذلك يقول المفكّر الفرنسي هنري دولاكروا Delacroix (1873 – 1937): التصوّف هو الحدس الذي يثأر من المعرفة العقلية»([5]).
ولا نزدرينّ الاختبارات الحدسية الصوفية، فهي ما غيّر مسار التاريخ البشري وأكثر الأديان مدين لها بظهوره. يقول المفكّر الفرنسي بردي L. Bordet «لولا الحدوسات الصوفية التي ميّزت بعض الأشخاص المحظوظين، لما وجدت الأديان. ففي باطن كل ديانة نجد رسالة صوفية. وكل ديانة تفترض التصوّف. ومع ذلك يبقى أكثرنا تديّناً يجهل الحالات الصوفية»([6]) ولو شئنا مناقشة مقولة بردي هذه لسطّرنا في ذلك مجلّدات. وبكلمة نقول: وأي مؤسّس ديانة لم يتحدّث عن تجربة واختبارات صوفيّة؟! أما ما يقوله عن المتدينين الذين يجهلون الحالات الصوفية، ففيه يضع الإصبع على الجرح، فمَن أخذ الدين مجرّد شريعة ومعرفة اكتسابية كُتبية، فسيكون حتماً بعيداً عن التجربة الصوفية والتصوّف، لا بل سيكون عدائياً تجاههما. وهذا تحديداً ما يوضحه لنا الفيلسوف الفرنسي المعروف هنري برغسون (1859 – 1941) ويشرح أسبابه، فمَن لم يعرف مذاق الاختبار والتجربة قد لا يجد فيهما إلاّ شعوذة. يقول برغسون:«لا نريد أن نردّ على تلك الاعتراضات الساخطة التي تصدر عن أولئك الذين لا يرون في الصوفية إلاّ تدجيلاً أو جنوناً. فلئن كان من الناس مَن أوصدت نفوسهم في وجه التجربة الصوفية، فما يستطيعون أن يشعروا منها بشيء، ولا أن يتخيّلوا منها شيئاً. فإن منهم أيضاً مَن لا يرى في الموسيقى إلاّ ضوضاء فارغة، فيعلن رأيه في الموسيقيين بهذه اللهجة من السخط والحنق. فهل يتخذ كلامهم هذه حجة على الموسيقيين؟!»([7]).
ويستوقفنا المثل الذي يضربه برغسون، فهل يؤخذ رأي مَن لا يتذوّق الموسيقى ويخبر العالم الذي من شأنها أن تدخله فيه وموقفه حجّة على الموسيقيين؟! وهكذا التصوّف، قد يبقى طلسماً عند مَن لا يرى في هذا الوجود ولا يخبر منه سوى الجانب الكثيف.
وأكتفي بهذا القدر، فمدخل موجز كهذا لا يتيح لي أن أبسط فلسفة في الحياة ولا أن أشرح دوافع الخيارات… إنها بضعة إلماعات من شأنها أن تضع محور مسار وهويته في رقعة الضوء.
جولة سريعة الآن أو سياحة قصيرة في أبواب هذا الكتاب وأقسامه.
تتجاور الدراسات والمحاولات الشعرية في أكثر مجموعاتي. وقد شرحت وكرّرت مراراً الحكمة والهدف من ذلك، ولا ضرورة للإعادة هنا.
الباب الأول بحث في الهوية الشعرية. أسميته سياحة على ضفاف الشعر. وهو الآخر من نمط سياحات هذه المجموعة. وطريق لمعرفة الهوية… والذات. فالأسلوب هو الإنسان Le style c’est l’homme يقول المثل الفرنسي. فكان لزاماً عليّ أن أعرف هوية ما أكتب وأتعرّف إليها: شعر، أم شعر منثور، أم قصيدة نثر. أم ماذا؟ وقد جلت مطوّلاً على هذه التسميات، وعرضت لآراء وخبرات عدد من الشعراء الحاليين ممَّن أعرف أو أحبّ، لأخرج في النهاية برأي شخصي، وهوية شعرية ذاتية، فأميل بالنتيجة إلى اعتماد ”الشعر المرسل“ تسمية لمحاولاتي هذه. وإنني لسعيد حقّاً لأنني… وأخيراً، وبعد طول بحث، أوضحت هويتي الشعرية الكتابية لذاتي… وللقارئ. وإن كنت لا أدّعي في ذلك الكلمة الفصل والقول الأخير.. فالهوية… وحتى الجانب الأسلوبي منها كالذات هي… لا تكتشف مرّة واحدة وأخيرة… بل يعاد اكتشافها… وسبر أغوارها ومجاهلها… مع الممارسة والخبرة.
وفي الباب الثاني تبدأ القصائد والمحاولات بسياحة عبر أيام العمر وسنواته. إنها بالحري أيام تفترس العمر، ليستيقظ المرء فيجد أن عمره قد ولّى، مضى كومضة: العمر غفلة يقول التعبير الشعبي، وبالتالي هو عمر افترسته الأيام.
وظاهرة التعاقب والتناوب بين الشك والإيمان، وأحياناً الإيمان والإلحاد واضحة في مساري، ولا سيما في ربع القرن الأول من العمر. وقد سررت أيما سرور عندما اكتشفت مقطوعة كتبتها بالفرنسية في خلوة، روحية في 09/07/1980 وأسميتها: قصّة حياتي هي قصّة علاقة بك. كنت يومها في ذروة الإيمان والالتزام بما ورثت عن الأهل من عقيدة ونظرة دينية إلى الحياة وما بعدها. ومع ذلك فإنني أقول عن نفسي ومتوجّهاً إلى الإله:«إنه ملحد نوعاً ما، ولكن حبّك يبقى إيمانه» (باب2) إنها بذرة الشك بالموروث الديني والتي نضجت بل تفجّرت في المحاولة التالية: رحلة من الإيمان إلى الشك..
فإلى أيّ مدى تبقى المحاولة الأخيرة تمثّل كاتبها اليوم؟! بقدر ما أنا معنيّ، بل غارق في الروحانية والاختبار الصوفي، بقدر ما أحذر وأحذّر من نزعة الأديان، ولا سيما الإبراهيمية، إلى التفريق بين الناس… ليتقاتلوا بالنتيجة… بل وليتذابحوا حتى. وها هو معلّمي سوامي شيدانندا (1916 – 2008) أحد كبار الأولياء وزعماء الأديان المعاصرين يقرّ ويقول:«فشل الدين حتى الآن في مهمّته العالمية (…) فهو قد شدّد على العوامل الخاطئة، على العوامل المتغيّرة. شدّد على الشكليات الفارغة بدلاً من التشديد على جوهر الروح. لذا يجب أن يعترف الدين بأنه، حتى الآن في التاريخ البشري، قد أخطأ، ولم يؤدّ مهمته الحقيقية على الأرض، وسبّب الكثير من الألم والعذاب والحروب. يجب أن يعترف بهذا الخطأ ويصحّحه، ويقرّ بأن الوقت قد حان للبدء بفصل جديد ويلعب دور الموحّد»([8]).
والخلاصة لست ببعيد اليوم عمّا قاله معلّمي وإن كنت، منذ ربع قرن، قد تطرّفت ولامست الإلحاد.
وفي الباب الثالث «زرقة قداسة… وبياض صمت» تبدأ سياحتي، وفيها هنا محجّتان: الغانج، ودير للمتوحّدين بين الثلوج.
الحجّ إلى الغانج كان دوماً سياحة في الداخل والذات. إنسياب المياه، جريانها نحو اللانهاية يعيد المرء إلى ذاته التي ينساها غالباً.
وأذكر هنا أغنية تنشدها فيروز، طالما ردّدتها في صباي:
وأنا يا نهر قد جئت الضفاف | ||
بعدما أتعبني طول الطواف | ||
ليس لي حقل ولا مرج وسيع | ||
ليس لي طاحونة أو لي قطيع | ||
كل ما أملكه شوق عميق | ||
أن أرى طيفي في الغور السحيق([9]) | ||
هكذا أتيت الغانج لا لأستقي أو لأستحمّ، إنما الشوق إلى رؤية الذات كان الدافع، فصفحة مياهه المتلألئة الصافية مرآة تعكس الوجه وما وراء الطيف بل حتى الهالة.
ويتابع الرحبانيان أنشودتهما الرائعة:
أن أرى صورة وجهي في المياه | ||
حائراً في بؤسه أو في هناه | ||
وأرى ما بين تلك القسمات | ||
طيف نهر أزلي الرغبات | ||
إنه قلبي الذي لا يستكين | ||
نهر أشواق وحبّ وحنين([10]) | ||
ضفاف الغانج مرآة، ولكنها تعكس اتجاه النظر إلى الداخل.
تُري الحاجّ قلبه.. وجدانه وذاته:
أرجع إليك يا نهر
لترجعني إلى ذاتي (…)
كلّما سقيتني من مائك…
كلّما زدتني عطشاً، (باب 3/قصيدة سائح على ضفاف).
والخلوة وسط بياض الثلوج وصمتها هي الأخرى عودة إلى الذات… ورجوع إلى ما علق من انطباعات، وما هجع منذ الصبا… بل وقبله بأزمنة من ذكريات.
والباب الرابع مجموعة نجاوى وتسابيح. يستوقفني منها ذاك البحث الدؤوب والجارف عن اليقين (قصيدة العبادة واليقين)، ومَن أمضى سنوات طوال في الشك… كيف يأتيه اليقين؟!
أعبد ربك في انتظار أن يأتيك اليقين واعبده من أجل أن يأتيك… فلا يكون زمن الشك… وقتاً ضائعاً وأمد تيه. واليقين عندها آتٍ لا محالة.
حسب هذه النجاوى أنها صدرت عن قلب صادق… إذا انتابه الشك حيناً، فقد ساده الخشوع غالباً. وسعى دوماً للاستسلام للمشيئة الإلهية والتسليم لها Full Surrender (قصيدة استسلم للمشيئة).
أما الباب الخامس فيستأنف الحجّ والزيارة. والوجهة فيه نحو عتبات الإمامية المقدّسة أولاً. لمشهد الإمام الرضا وعتبة العباس. والاختبار واحد في كل الحُرم والمقامات:
«أياً تكن هوية القداسة
فاستشعارها وتأثيرها…
والتأثر بها يبقى واحداً»
(باب 4/في مقام الإمام الرضا)
ما شعرت به في لورد وأمرتسار وڤراناسي هو الشعور نفسه في مشهد وفي كربلاء.
وتتنوّع مزامير هذا الباب وأناشيده.
واحد مرفوع إلى حبيسة متوحّدة وسط مدينة صاخبة (نازارينا)، عشقتُ صدقها وجذريّتها وصمتها.
وآخر وأخير يسبّح شيڤا والواحد…
كلها في الحقيقة تراتيل توحيدية… تنشد الواحد الأحد.. عبر تجلياته العديدة… المتعدّدة. وهكذا يختم هذا الباب برؤية للأحدية… فيما وراء تعدّد الأشكال.
والباب السادس والأخير، يحكي اختبارات سالك، وبعضٌ ممّا يلقاه على الطريق. التداوي بالكتابة سبق أن أشرت إليه. أما برهة خارج الزمن فيدفعها ذاك الشوق المتجذّر العميق إلى الخروج والثورة على حاجات يخلقها لنا هذا المجتمع الاستهلاكي الذي لا ينفكّ يسربلنا باختراعاته ويحوّلنا إلى مدمني أنترنت وهاتف جوّال… وغيرها من المبتكرات.
ووقفة وإطراقة أمام صرخة الولادة…. وصيحة الوالدة. إنها تجربة حقيقية كشفت لي غابات عذراء من هذا المجهول الذي ندعوه الذات. خروج عن المألوف ربّما… فاختبار كهذا لا نعيشه كل يوم… وخروج على الأسلوب المألوف أيضاً. فلم يكن أمامي مفرّ من سرد واقعة… والنثر بالتالي، ولا يهمّ القالب… إذا كانت الغاية إيصال رسالة.
وبهذا الاختبار تُختم الحلقة بالعودة إلى نقطة البداية.
أما الذيل فقصائد غزلية عامّية وجدتها أثناء النكش والبحث عن محاولات هذه المجموعة وأناشيدها . وكانت ضائعة، ففاتني أن أضمّها إلى ”الرغبة المبتسرة“([11]). فهي من جوّها وتحكي عن حُبّ مبتسر. ولكن أليست السياحة في الآخر… وفي جمالاته هي الأخرى نمطاً من السياحة في الذات؟ وقد قيل في ذلك:«البحث عن النصف الآخر». أو الأنا الآخر L’autre moi، إنها أقلّه من تنويعات البحث عن الذات والسياحة على ضفافها. والآخر كثيراً ما يكون كصفحة مياه النهر: مرآة تعكس ما في داخلنا وترينا ذاتنا.
طالما استشهدت بأمين الريحاني (1876 – 1940) ”أبو الشعر المنثور“ في هذا المصنّف. فلا بأس أن أضيف اقتباساً آخر هنا. يقول:«السياحة الروحية التي يمرّ بها السائح على جزائر الحبّ هي سياحة أوّلها عالم الأزل وآخرها عالم الخلود»([12]). سياحة تبدأ إذاً من المطلق (اللابداية) لتصبّ وتنتهي فيه، فتعود الحلقة الڤيدية إلى نقطة البداية.
والدورة هذه أو الحلقة التي تعود إلى نقطة البداية ليست مقصورة على بنية الريك ڤيدا وإنّما تعكس بنية الكون، وهي ناموس كوني كوسمولوجي كما تعلّم الڤيدا وكذلك الفلسفة اليونانية. يقول أرسطو:«أواخر حركات الفلك كأوائلها، وإنشاء العالم كتلاشيه في الحقيقة لا في الحسّ»([13]).
وختاماً، فقد أطلت الشرح والتمهيد لبحوث ومحاولات كنت قد اختصرت الحديث عنها في البداية بعبارتين: ”حكاية حال“، ”وسيرة ذاتية شعرية“.
وكما في الحلقة الڤيدية، أعود في النهاية إلى نقطة البداية. وحال كل امرئ وسالك، على فرادتها، نموذج هي لأحوال البشر وسعيهم، وما في مساراتهم من ذروات ووهاد. أَمَلي أن يجد كل قارئ لهذه النتف، المبعثرة سابقاً والمجموعة هنا، بعضاً من ذاته…. فتساعده على مزيد من وعي هذه الذات… وسبر أغوارها.
ل. ص. Q.J.C.S.T.B
باريس في 05/11/2013
[1] – شرحنا الماندلا في عدد من مؤلّفاتنا آخرها مقدمة المجموعة السابقة: جدلية الحضور والغياب. وفي أقدم كتاب في العالم”ريك ڤيدا“ دراسة ترجمة وتعليقات، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2011، ص 166 – 167.
[2] – صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار مع بحوث في اليوغا والتصوفين الإسلامي والهندوسي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2012، 300ص.
[3]– Sérouya, Henri, le mysticisme, Que sais-je, Paris, PUF, 1956, p8.
[4] – الحاتمي، م. س، ص 278.
[5]– Delacroix, Henri, Etudes d’histoire et de phychologie du mysticisme Paris, Felix Alcan, 1908, p VII.
[6]– Bordet, Louis, Religion et mysticisme, Paris, PUF, 1959, p134.
[7]– Bergson, Henri, ɶuvres, Paris, PUF, 1950, p. 1400.
[8] – كفوري، روبير، هكذا تكلّم الحكماء، بيروت، حلقة الدراسات الهندية، ط1، 1999، ص 224.
[9] – الأخوان رحباني، أغنية النهر العظيم، 1956.
[10] – م. ن.
[11] – صليبا، د. لويس، الرغبة المبتسرة بحوث ومحاولات في المحرّم، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2013.
[12] – الريحاني، أمين، بذور للزارعين، بيروت، دار الجيل، ط6، 1989، ص 261.
[13] – الحاتمي، أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر، الرسالة الحاتمية فيما وافق.
المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة، تحقيق فؤاد إفرام البستاني، مجلة المشرق، سنة 29، 1931، ص 764.
محتويات الكتاب
كتب للدكتور لويس صليبا…………………………… 2
بطاقة الكتاب……………………………………… 4
الإهداء ………………………………………….. 5
مقدّمة عماد فغالي…………………………………. 6
مدخل، نحو سيرة ذاتية… شعرية……………… 10
سائح… على ضفاف الذات…………………………. 13
باب1/سياحة على ضفاف… الشِعر……………. 25
فصل 1: في الشِعر المنثور…………………………. 27
– بحث عن الذات لا مسألة تسميات………….. 29
– بين قصيدة النثر والشِعر المنثور……………. 31
– الريحاني رائد الشِعر المنثور بالعربية………… 33
– الشِعر العمودي والنثر المنظوم……………… 36
– الشِعر المنثور ونثر القرآن…………………. 44
– الشِعر المنثور والنثر الشعري………………. 46
– الشِعر المترجم شِعر منثور………………… 47
فصل 2: الشِعر أعظم من أن يكون نظماً وقافية………….. 51
– وصايا عشر ساخرة………………………. 53
– التحرّر من التقليد في المعنى والمبنى……….. 54
– أفصح الكلام الوقف………………………. 56
– الإفهام لا الإبهام…………………………. 58
– سلمت القافية وانعدمت العافية……………… 62
فصل 3: قصيدة النثر والشِعر الحر…………………… 65
– الشِعر الحرّ وقصيدة التفعيلة………………. 67
– قصيدة النثر تعبير يخضع للاجتهاد…………. 70
– قصيدة النثر بين المتحمّسين والمعارضين……. 71
– الحداثة في الشِعر ثورة بيضاء……………… 75
فصل 4: خيارات في الشِعر… وهوية…………………. 77
– تكاثر الشعراء وندرة القرّاء…………………. 79
– عقدة الإعجاز وراء تقديس الوزن……………. 80
– الوزن والقافية نتاج للثقافة الشفوية…………… 81
– ما الفرق بين الشِعر المنثور وقصيدة النثر؟!….. 84
– الشِعر المرسل خيارنا……………………… 86
باب2/أيام تفترس العمر……………………….. 89
I – إمنحني طهارة القلب…………………….. 90
II – قصّة حياتي هي قصّة علاقة بك………… 92
III – أقوال في الإيمان والشك والنكران………… 94
– رحلة من الإيمان… إلى الشك في ربع قرن من العمر 99
IV – إني عالم بأعمالك…………………….. 105
– على عتبة الخمسين………………………… 107
– نصف قرن مضى………………………….. 109
V – الأفكار التي تكوّن الذهن…………………….. 112
– الحزن انفعال… والسعادة فطرة……………….. 114
باب3/زرقة قداسة… وبياض صمت…………… 117
I – قداسة نهر…………………………… 121
II – عاشق الغانج…………………………. 124
III – النهر المعلِّم…………………………. 127
IV – سائح على ضفاف الغانج……………… 131
V – ألونُ الصمتِ… هو البياض؟………….. 134
VI – كراتٌ من ثلج… وأخرى من نار………… 140
VII- إجعلني أعمل… بصمت انهمارك……….. 142
باب 4/نجاوى وتسابيح………………………… 149
I – أعنّي على طاعتك وعبادتك…………….. 153
II – استسلم للمشيئة الإلهية………………… 155
II – العبادة واليقين……………………….. 157
IV – كلما زدتني منك…زدتني من كل شيء…… 159
V – عتب… ورجاء……………………….. 162
باب 5/في صحبة الأولياء……………………… 165
فصل 1: في حضرة الإمام الرضا…………………….. 165
– في العقل والمعرفة……………………………….. 169
– في الإيمان والعبادة………………………………. 170
– في الصمت وحفظ اللسان…………………………. 171
– في التواضع……………………………………. 173
– في النوم وقوى الإنسان…………………………… 173
– في خصال المؤمن………………………………. 173
– تمام الإيمان…………………………………….. 174
– في مقام الإمام الرضا…………………………. 177
– زيارة ثانية للإمام الرضا………………………. 183
فصل2: العباس حامل لواء الحسين………………….. 189
أبو الفضل العباس………………………………. 191
حكايتي مع أبي الفضل………………………….. 191
– أنشودة إلى العباس………………………………. 195
فصل 3: الحبيسة… الحبيبة………………………… 201
– من أقوال نازارينا………………………………… 203
– نازارينا الحبيسة… الحبيبة………………………… 207
فصل 4: مزمور لشيڤا… وللواحد………………… 213
– مزمور لشيڤا……………………………………. 219
باب6/عود على بدء……………………………. 227
فصل 1: التداوي بالكتابة…………………………… 231
فصل 2: برهة خارج الزمن…………………………. 237
– برهة خارج الزمن………………………………… 241
فصل 3: نرسم عن الآخرين صورة…………………… 249
فصل 4: الولادة… والوالدة…………………………. 255
– صرخة الولادة… وصيحة الوالدة…………………… 258
ذيل/زجليات وغزليات…من عهد الصبا……….. 263
– دانا امرأة لا يدركها إلاّ الآلهة………………………. 265
– دانا نوّرت سمانا ………………………………… 267
– مجنون دانا…………………………………….. 270
– الوردات غيرانين…………………………………. 271
ملحق أول: مقدّمات كتب…………………………… 273
مقدّمة قراءة نقدية لمصادر السيرة النبوية………………. 274
تقديم الدهمابادا كتاب البوذية المقدّس…………………. 279
سلسلة يهودية بأقلام يهودية، تعريف………………….. 281
تقديم المعاملات والحدود في شرع اليهود………………. 283
ملحق ثاني: حكاية صحبة وقداسة شهيد…………….. 287
كلمة في ذكرى عفيف عسيران………………………. 288
ملحق ثالث: وقائع ندوة كتاب سيرة عفيف عسيران……. 293
تقديم الكتاب عماد فغالي……………………………. 295
تقديم المطران ميشال عون………………………….. 297
الدكتور حسن عواضة………………………………. 297
تقديم المؤلّف د. لويس صليبا………………………… 298
ندوة حول كتاب”مسلم يلبس كهنوت المسيح“………… 299
فتوّته والبحث عن الله ……………………………… 300
الإيمان المسيحي………………………………….. 301
الاختبار الروحي والعماد……………………………. 303
تمييز دعوة الله له………………………………….. 304
عفيف كاهناً للمشرّدين……………………………… 305
كلمة د. حسن عواضة……………………………… 307
كاهن مسيحي في خدمة الفقراء المسلمين……………. 314
الكتاب الأربعون…………………………………… 315
الحاجة إلى كتّاب سير مدققين……………………….. 316
التمحيص أدّى إلى بعض الإطالة……………………. 318
نحو عنوان لا يثير حساسية…………………………. 319
عفيف تحدّ للمسيحيين لا للمسلمين…………………… 322
من جريدة النهار 2013…………………………….. 324
من جريدة الديار 2013…………………………….. 325
من جريدة الأنوار 2013……………………………. 326
من مجلة الرعية 2014…………………………….. 327
ملحق رابع:”رحمة أريد… لا ذبيحة“………………… 331
ملحق خامس: الصمت في الهندوسية واليوغا………… 337
الصمت في الهندوسية واليوغا……………………….. 338
مكتبة البحث……………………………………… 348
فهرس الصور…………………………………….. 354
فهرس التراجم وسائر الحواشي……………………….. 357
محتويات الكتاب…………………………………… 359