“تنقيح الأبحاث «للملل الثلاث” تأليف سعد بن منصور بن كمّونة (ت683هـ)، دراسة وتحقيق د. لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل، طبعة 4، في 590ص، وتجليد فاخر.
يقول مقدّم الكتاب سحبان أحمد مروّة (ص6): “إن هذا الكتاب دعوة للمجادلة بالتي هي أحسن، بعيداً عن القذف والبذاءة وتناول الديانات بكلّ بغيضة ونقيصة، وهو كتاب قمين بالقراءة ككلّ كتاب صدر عن عقلٍ وكتب بتعقّل، وغايته الحوار لا تحريض الرعاع”
أما المحقّق الذي تبلغ دراسته نحو ثلثي الكتاب فيقول عنه (ص15): “يحمل في طيّاته رسالة قديمة متجدّدة لا تعتق: الحوار مع الآخر. والإصغاء إليه عارضاً معتقداته من منظوره ورؤيته هو. ونقل الصراع من الشارع وساحات الوغى، إلى مجالس الفكر وصفحات الكتب، وحصره فيها”
ويضيف (ص16): “آن لنا، في هذا الشرق، أن نفهم تراثنا بمعناه الواسع الرحب، ونكفّ عن أن ندقّق بهويّة الكاتب، واستناداً إلى أيّ دينٍ أو طائفةٍ ينتسب مولداً نحدّد مذهبه وفكره ونحدّه به”
وعن منهج ابن كمّونة وطريقته يقول المحقّق: “احترام مقدّسات الآخر وعقائده، لكن دون أن يعني ذلك محاباته أو مسايرته في عرض رأينا فيها” ويضيف: “أسلوبه اللبق والراقي هذا يعود بالأحرى إلى قناعة عميقة بدور الأديان، وضرورتها، وحاجة الناس إليها”
وهو يختصر هذا الأسلوب بعبارتَين (ص17): “قطبَا الأسلوب الكمّوني ومحورَاه: الاحترام والصراحة”.
أمّا عن انتمائه الديني، وما أُثير حوله من جدل، لا سيما بسبب كثرة صيَغ الصلاة على النبي المصطفى في مؤلّفاته، فيقول المحقّق (ص20): “بقي ابن كمّونة على يهوديّته حتى وفاته، وإن كان قد طعّمها بعقلانية فلسفية اكتسبها من اشتغاله الطويل بالفلسفة وانكبابه على آثار ابن ميمون وابن سينا والسهروردي وغيرهم”
وعن يهوديّته الخاصّة والمميّزة يقول (ص21): “يوفّق بين يهودا هاليفي (التيّار الديني) وموسى بن ميمون (التيّار الفلسفي الأرسطي)”
ورغم هذا الانتماء يبقى أن ابن كمّونة في التنقيح يتموضع في موقع خاصّ، فهو يسعى جهده كي يكون على مسافة واحدة من الديانات التي يتحدّث عنها، ويعرض لمعتقداتها، وهو أمر لافتٌ في كتابه وغير مألوفٍ في زمنه. فهو مثلاً (ص21): “لا يتكلّم على شريعة موسى وديانته بصيغة ال”نحن”، بل يبقى على مسافة ما منها، رغم قناعته الراسخة بها”
وأبرز ما في كتاب ابن كمّونة هو تحديداً موقعه المميّز والفريد هذا. فبصرف النظر عن مدى نجاحه في الحفاظ على ما سعى إليه بجدّ أي الحياد، أم لا، فقد أفلح أقلّه في اعتماد أسلوبٍ ينأى بنفسه عن الصراع بين الملل الثلاث، ويستخدم نبرة تقريرية هادئة ومحايدة، وتبقى على مسافة واحدة من المواضيع الخلافية بينها. وهذا لوحده إنجاز في زمنه، ومأثرة تسجَّل له، وتضعه في مصاف روّاد علم الأديان المقارنة ومؤسّسيه.
واستخدام ابن كمّونة لصيَغ الصلوات على أنبياء الملل الثلاث كافّة يدلّ على انفتاح فكري وتسامح ديني وتأثّرٍ بفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا اعتبروا أن كلّ الأديان متساوية وجديرة بالاحترام من حيث هي وجوه مختلفة وتعابير متكاملة للأمر الإلهي. (ص92).
ولهجته الرزينة والودّية تخفّف من حدّة الطعون التي يسوقها، وإن كانت لا تغيّر شيئاً من مضمونها. (ص93).
ومقاربته بالتالي تتّسم بالصراحة في مواجهة الحقيقة والمودّة في مخاطبة المحاور. وهو بجمعه بين اللياقة والصراحة والمودّة والصدق فرض نفسه حقّاً رائداً في الحوار الديني. (ص93).
والتنقيح في الحقيقة محضر جلسة أو جلسات حوار، وابن كمّونة يؤكّد على ذلك بقوله في المقدّمة: “جرت مفاوضات اقتضت أن عملتُ هذه المقالة في تنقيح الأبحاث” (ص184).
وتبقى إشكالية الكتاب الأولى قناعة مؤلّفه بضرورة الأديان وفي الوقت عينه تناقضها. وبالنسبة لابن كمّونة لا يمكن لتاريخ العالم أن يكون تاريخاً للحقيقة: فالحقيقة بنت زمانها” (ص276).
وابن كمّونة حاول أن يخرج عن جلده وانتمائه الديني، فنجح تارة وأخفق طوراً. (ص278)، لكن يبقى مصنفه مأثرة في الفكر الإنساني والأديان المقارنة وجديراً بالقراءة والتدبّر اليوم وكلّ يوم.