ندوة تلفيزيونية عن الأب عفيف عسيران
“عابر يلبس كهنوت المسيح: سيرة الأب عفيف عسيران وروحانيّته”، تأليف د. لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون، في طبعة4، في 652ص، وتجليد فاخر.
سيرة عفيف عسيران (1919-1988) هذا الكاهن البارّ جزء لا يتجزّأ من تاريخ هذا الوطن الصغير، ومسيرة التفاعل والحوار بين مختلف أطيافه.
حكاية مسار مميّز وفريد مشاه باحث جدّي وحقيقي عن حقائق الوجود. والكتاب موسوعي، يبحث المؤلّف فيه ويدقّق ويقارن ويفنّد ليرسم ملامح سيرة تلتصق بالواقع التاريخي وتُقصي الأجيوغرافيا أي كلّ ما يتعلّق بسيَر القدّيسين من عجيب وغريب. فهو يروي سيرة وليّ من لبنان رُفعت دعوى تطويبه إلى روما، وقد تنضج ثمارها فيكرّم هذا الأب البارّ، وترفع صوَره على المذابح. ويصعب تلخيص هذا الكمّ الكبير من الصفحات في حيّز محدود من السطور. وفي ذلك يقول المؤلّف (ص8): “لم نتخيّل عندما لمعت في رأسنا فكرة الترجمة لعفيف أن تبلغ سيرته المرويّة مجلّداً بهذا الحجم، لا سيما وأنّ المعطيات عن حياته ليست غزيرة. بيد أنّنا لم نشأ أن نكتفي بصياغة ما توفّر من روايات وعناصر منشورة وسردها، بل سعينا إلى أن نستكشف الكثير من الأخبار التي لمّا تزل محفوظة في صدور الرواة”
ويضيف الكاتب حاكياً عمّا صادفه من صعاب (ص10): “وسيرة عفيف عند اقتحامها وسبر أغوارها بدت لنا غالباً كجبل الجليد الذي تحدّث عنه فرويد، فالمستور منه يبقى أضعاف المشهور والمنشور. والمستور هو تحديداً تلك الفضائل والمناقب التي يبقى صاحبها ضنيناً في إظهارها مخافة جرح تواضع، أو نفخ أنا”.
وممّا سجّله المؤلّف من ظواهر لافتة في سيرة عسيران (ص11): “إنه المسيحي الذي أمضى سحابة حياته يحاور الإسلام ويخدم المسلمين ويحبّهم. فعفيف كما شدّد تلميذه المطران بولس مطر رائد من أبرز روّاد الحوار المسيحي الإسلامي، ومهندس التلاقي بين المسيحية والإسلام”.
وعمّا استخلص الكاتب من سيرة من يترجِم له (ص13): “عفيف ليس في الحقيقة مجرّد أيقونة ترفع وتكرّم… بل نموذج يُحتذى وأسوة”
وعن طريقته في جمع المعلومات والمعطيات، يقول (ص28): “لم ندع أحداً من أقرباء الأب عفيف أو معارفه أو تلامذته إلا واتّصلنا به أو التقيناه بحثاً عن أية معلومة عنه، أو توضيحاً لتاريخ أو رواية وردت في شهادة. فتجمّع لدينا، بنتيجة ذلك، كمّ من المعلومات والمعطيات والإيضاحات لم يسبق أن كُتبت فضلاً عن أنها لم تنشر. وهي بجملتها تسلّط أضواءً على مترجَمنا وشخصيّته وسيرته”.
ويتابع عن منهجه الاستقصائي والتفنيدي (ص37): “ولعلّ عملنا الطويل في مجال السيرة النبوية ونقد رواياتها وأسنادها قد أفادنا في هذا الصدد، فعمدنا دوماً في عرضنا لسيرة عفيف وسرد أحداثها إلى مقارنة الروايات بعضها ببعض ونقدها والنظر إلى الراوي ومدى صحبته لعفيف”
ويضيف الباحث بشأن ما استخلصه من عمله هذا من فوائد في بحثه التاريخي: “إذا كانت روايات أحداثٍ لم يمضِ على وقوعها أكثر من عقودٍ ثلاثة أو أربعة تتضارب إلى هذا الحدّ، فكم بالحري بشأن روايات السيرة وأقربها تدويناً لأحداثها يفصله عن هذه الأحداث أكثر من قرنَين؟!”
وتطول الرحلة في سيرة عفيف، فهي ترتبط بحقبة من تاريخ لبنان المعاصر حافلة بالأحداث والخضّات، فمن بطولاته خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، يروي مرافق له أن الأب عفيف نزل من الباص ليحمل طفلاً رضيعاً كان عليه أن يجتاز الحاجز سيراً على الأقدام، وواجه مدفع الدبّابة الإسرائيلية. (ص465). طفلٌ لبناني لم يسبق لعفيف أن عرفه أو رآه، ورغم ذلك عرّض حياته لخطر أكيد لينقذه!
ومن أواخر مشاهد هذه السيرة العطرة (ص515): “عفيف يسقط كما القدّيس شربل على المذبح، مشهدان يتكرّران: الأوّل 1898 والثاني 1988 كاهنان مشيا على درب القداسة وسقطا على المذبح قبل أن يتمّا قدّاسهما الأخير: عفيف على خطى شربل حياة ووفاة… وقداسة”
كتابٌ لا غنى عنه لكلّ من يودّ أن يعرف لبنان بوجهه الروحي والحواري.