ندوة عن التصوّف والهرمسية بيير لوري ولويس صليبا
“من تاريخ الهرمسية والصوفية في الإسلام” تأليف المستشرق البروفسور بيير لوري Lory، ترجمة وتقديم د. لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في ط4، في 318ص، وتجليد فني.
وضع المترجم وجامع الكتاب ثلاث مقدّمات له. يقول في الأولى (ص9): “لم نتوقّع هذا الرواج لكتاب أكاديميّ الطابع وتخصّصي الموضوع، ولكن يبدو أن الميزتَين المذكورتَين كانتا من أسباب انتشاره وسرعة نفاده”
وينتقل في المقدّمة الثانية إلى التعريف بعبارة الهرمسية التي نَحَتَها (ص15): “هرمس هو عينه النبي إدريس المذكور في القرآن وأخنوخ التوراة وإليه نُسبت علوم الفلك والتنجيم وخصوصاً الخيمياء”. وهكذا “فما نقصده بالهرمسية هو مجموع العلوم الباطنية: علم الحروف والتنجيم والسيمياء أو سحر الحروف، ولا سيما الخيمياء”
وعن بحوث الكتاب يقول جامعها ومترجمها (ص17): “راعينا أن تمثّل مجمل مجالات البحث التي تطرّق إليها المستشرق لوري في الدراسات الإسلامية: الخيمياء في أرض الإسلام، علوم السحر بما فيها علم الحروف والتنجيم، والصوفيّة في علاقتهم بالقرآن”.
وعن طريقته في الترجمة يقول (ص23): “اجتهدنا أن نعكس في النصّ العربي الموقف الذي يتّخذه الكاتب من موضوعه (…) فهو يعرض ويحلّل بهدوء ولا يبتغي أن يصدم” ويضيف “حاولنا الإفادة ما أمكن من ميزة أنّنا نترجم لمؤلّف حيّ يتقن العربية، فأطلعناه على ترجمة كلّ مقال وأخذنا بملاحظاته، وأردناه أن يشعر كما لو أنّ النصّ تعبير عربي مباشر منه”
وفي المقدّمة الثالثة يتحدّث المترجم عن منهجية أستاذه (ص26): “مقاربة لوري يمكن تلخيصها بعبارة حياد إيجابي لكنه موضوعي، وعلاقته بموضوعه علاقة حبّ وتفاعل” ويضيف (ص27): “إنها المقاربة الحوارية: أن نفرض الصمت لحين على وجهات نظرنا، كي نفهم محاورنا كما يفهم هو نفسه”
ويعرّف المستشرق لوري الخيمياء على أنّها (ص34): “علم التحوّلات بامتياز: تبتغي تحويل المعادن البخسة إلى معادن ثمينة كالذهب والفضّة بواسطة حافز يسمّى حجر الفلاسفة، لكنها تتخطّى هذا الهدف المعدني وتطمح إلى ما هو أسمى: أي تطوير الإنسان الكبير الكامن بذاره في الإنسان الصغير العادي الذي يُحِسّ بداخله نداء الحقّ”
أما عن السحر فيقول لوري (ص34-35): “ليس هو ألاعيب المشعوذين المتلاعبين بسذاجة وضائقة الرجال والنساء القادمين لاستشارتهم، فالسحر في بُعده الفلسفي ينبثق عن رؤيا شموليّة للعالم. والسيمياء نظامٌ من المعارف والتجارب تهدف إلى فهم الانسجام الداخلي للكون، وبالتالي التأثير على بعض ظواهره”
وعن الصوفيّة والقرآن يقول (ص36): “التفسير الباطني المسمّى التأويل تعبير يمكن أن يُفهم كـ”عودة إلى المعنى الأوّل” ولكن من المستحسن أن يُفهم كـ”دفعٍ إلى المعنى الأخير”
ونرى نحن أنّه هنا تحديداً يلتقي التأويل بمفهومه الصوفي مع التأوين في علوم التفسير البيبلية الحديثة. وهو يعني في ما يعنيه استنباط المعنى الآني للآية الذي يتوجّه إلى المؤمن المعاصر. فدفع التفسير إلى المعنى الأخير عمليّة متواصلة مستمرّة ولا نهاية لها، ولا حدود من شأنها أن تتوقّف عندها، ففي كلّ عصر ومصر معنى أخير. “خير برهة للقاء الحقّ هو الآن” يقول متصوّف من الشرق (ص283)، فآنيّة اللقاء من خلال الكلمة الإلهية فرصة متوفّرة باستمرار عبر النصّ المقدّس الذي يتيح في كلّ آن معنى وتفسيراً.
وهكذا…فبين التأويل الصوفي والتأوين البيبلي مشتركات ونقاط التقاء عديدة يحسن استثمارها لتطوير حوار بنّاء مثمر بين التقليدَين.
ويختم لوري (ص284): “اللغة تكوّننا وتبنينا. وهذا ما يفسّر أن بعض الكلمات تستطيع، بطريقة يتعذّر شرحها ظاهريّاً، أن تشفي أو تُمرض. كما يشرح سحر الكلمة الذي يتكلّم عليه الحديث النبوي: “إن من البيانِ لسحراً” فالكلمات لا تلمس فقط ذكاءنا وإدراكنا، بل تصل إلى أعماق وعينا، وحتى إلى حياتنا العضويّة والجسديّة. وبذلك نستطيع أن نعي أهمّية الأدب السحري”
إنّها قراءة عميقة ومميّزة لجانبٍ مهمّ من تراثنا لا يزال مغيّباً أو مهمّشاً ونحتاج إلى بحّاثة علّامة مثل المستشرق لوري ليعيد وضعه في رقعة الضوء.