“القرابين البشرية في اليهودية القديمة: ذبيحة يفتاح في التوراة والتلمود والميثولوجيا والمسيحية والإسلام والآداب” تأليف د. لويس صليبا، صدر مؤخّراً في ط2 أضيف إليها بحثٌ جديد، وفي 500ص وتجليد فاخر.
نُشر هذا الكتاب في طبعتين متتاليتين منذ مطلع هذه السنة. فلماذا هذا الاهتمام الملحوظ به؟! غلافه جبرانيّ المنحى والأسلوب، وهو الشاعر والرسّام الإنكليزي وليم بلايك معلّم جبران مَن رسم لوحته. ولكن، وفي ما هو أبعد من الغلاف الجذّاب، يبقى الموضوع ومنهجية دراسته ما سبّب له هذا الرواج. فهو يدرس مسألة أثارت الكثير من اللغط والنقاش عبر التاريخ، ويصل فيها إلى جوابٍ حاسمٍ يجلو كلّ لُبسٍ. يقول المؤلّف ملخّصاً نتائج بحثه (الغلاف): “رغم كلّ آيات التوراة العديدة التي تحرّمها، فالذبائح البشريّة كانت جزءاً أساسيّاً من طقوس اليهوديّة القديمة، وذبيحة يفتاح، أو تقديم ابنته الوحيدة البتول قرباناً لم تكن شواذاً عن القاعدة، بل كانت مثالاً لقاعدة متّبعة انقرضت. واليهود لم يختلفوا في ذلك عن عرب الجاهليّة وسائر الشعوب الساميّة المجاورة التي مارست هذه الطقوس”.
والدراسة بيبلية تلموديّة وآبائية وميثولوجيّة في آن. فهي ترجعُ أولاً إلى سفر القضاة فصل11 الذي روى الحدث الغريب، فتنقل ترجمة دقيقة عن العبرية له، وتورد قراءة تحليلية وتفسيرية لسطورِه وما بين السطور. ثمّ تعود لتدرس النصّ في سياقه. وهنا تتوسّع في عرض وتحليل ومناقشة نظرية المستشرق والأركيولوجي الفرنسي رنيه ديسّو الذي أكّد، استناداً إلى الاكتشافات الأثرية الثابتة والتي شارك في عددٍ منها، أن القرابين البشريّة كانت جزءاً من اليهوديّة القديمة (ص60-67) ثمّ تورد آراء العلماء التالين الذين وافقوه في ما ذهب إليه.
وتقدّم الدراسة تعريباً دقيقاً لنصّ يوسيفوس المؤرّخ اليهودي في هذا الشأن، لتعود وتنقل النصوص التلموديّة لذبيحة يفتاح: نصوص قديمة لم تعرفها المكتبة العربية من قبل. ثمّ تنتقل لتبحث في التأويل المحدَث لنذر يفتاح والقائل إنه نذَرَ ابنته للبتوليّة الدائمة لا للمحرُقة. تفسير ابتدعه علماء التلمود في العصور الوسطى لأمر في نفس يعقوب، فتدرس الصراع اليهودي المسيحي على تفسير هذا النصّ التوراتي ودلالاته، ولتعود وتخصّص فصلاً موسّعاً تعرض فيه وتحلّل تفاسير آباء الكنيسة في الشرق والغرب لهذا النصّ (ص149-178). وذبيحة يفتاح قدحت قريحة الشعراء قديماً وحديثاً، وأوّلهم الآباء السريان. فللقديس يعقوب السروجي قصيدة ملحمية من 254 بيتاً في الموضوع. وتقدّم الدراسة تعريباً أميناً لها، ثم تحلّلها وتقارنها بقصيدة سريانية أخرى “سوغيتا على يفتاح البارّ وابنته لمار إسحاق” (ص231-244)، كما تقدّم تعريباً دقيقاً لهذه الأخيرة.
ولبنت يفتاح نظائر ميثولوجيّة أخرى أبرزها إيفيجينيا عند الإغريق. فيدرس الكتاب نصّ هذه الأسطورة كما وردت في مسرحيّات قدامى اليونان. ويعرض للتناصّ بين التوراة والميثولوجيّات (ص257-263). وتبقى المفارقة الكبرى في قصّة بنت يفتاح أنّها تحوّلت، على ما يبدو، إلى إلهة عبدتها شعوب عديدة بأسماء مختلفة، ومنها عرب الجاهليّة الذين ماهوا بينها وبين إلهتهم المشهورة اللات. وقد أشار عددٌ من المؤرّخين القدماء إلى هذا التحوّل الميثولوجي، وأكّدوا أن اللات ليست، في الحقيقة، سوى بنت يفتاح وقد أُلبست ثوباً عربياً جاهليّاً. وهنا يستفيض الباحث في عرض وتعريب وتحليل نصوص هؤلاء القدماء أمثال إيشوعداد المروزي (ق9 م) والقديس ابيفانوس أسقف سلامينا (ت403م) وغيرهما. كما ينقل ما في القرآن والسيرة النبوية من إشارات واضحة إلى القرابين البشرية عند الجاهليين ويغوص في خفايا دلالاتها.
والباب الأخير يدرس “بنت يفتاح في الأدب اللبناني”. وأبرز المبدعين سعيد عقل في مسرحية “بنت يفتاح”، فيقدّم الباحث قراءة نقديّة تحليلية لهذه التحفة الشعرية المسرحية، وهي بلا ريب من أبرز ما كُتب في الموضوع عالمياً، وعبر العصور. كما يرى المؤلّف أثراً بيّنا لقصّة بنت يفتاح في مسرحيّة جبال الصوّان للأخوين رحباني، فيتبسّط في تظهيره وتحليله.
والكتاب عموماً جديدٌ في موضوعه ونصوصه المعرّبة، ومساحة تفاعلٍ وحوارٍ معمّق بين الديانات الإبراهيمية الثلاث.