“توما الأكويني والإسلام: بحوث في مصادره الإسلامية وردوده على الفلاسفة”، كتاب للبروفسور لويس صليبا، صدر مؤخّراً في ط2، ضمن سلسلة توما الأكويني معلّم معلّمي الكنيسة، عن دار ومكتبة بيبليون في 400ص.
قسّم المؤلف كتابه إلى بابين ومحورَين: الأول تناول الأكويني في علاقته بابن سينا، في حين ركّز الثاني على القدّيس توما في تفاعله مع ابن رشد.
ولكن مصادر الفلسفة التوماوية الإسلامية لا تقتصر على هذين الفيلسوفين، بل كان لمعلّم المعلّمين إلمام بأفكار الغزالي وابن طفيل وابن باجة وغيرهم، ويُعرف هؤلاء بالمصادر التوماوية الصغرى، في حين تبقى المصادر الكبرى محصورة في ابن سينا وابن رشد.(ص10).
ولم يكن القديس توما مجرّد شارح لأرسطو، بل له عليه فضل أفلوطين على أفلاطون كما يقول إتيين جلسون. (ص16). وماذا عن ابن سينا وموقعه من أفلاطون وأرسطو؟ ابن سينا لم يبنِ بناءه الأفلاطوني إلا بحجارة مشّائية، يقول الكاتب أي كان مذهبه مألفة بين الأفلاطونية والأرسطية. (ص30). أما القديس توما فكان أكثر قرباً والتصاقاً بالأرسطية، ولكن على تمايز عنها فرضه إيمانه المسيحي(ص31). فالمبادئ واحدة بين توما وأرسطو، لكن الأهداف مختلفة.
ماذا الآن عن الأكويني وابن رشد تقارباً وتمايزاً؟! شروحات الأكويني لأرسطو تختلف عن شروحات ابن رشد له. الأكويني يقدّم للنصّ ويستخلص نتائجه، في حين يشرحه ابن رشد من أجل إعادة كتابته من جديد. وفي شروحات ابن رشد كثيراً ما يلتبس الأمر على القارئ بين قول أرسطو وقول الشارح، والأمر يختلف عند الأكويني الذي يبقى شرحه غير متداخل مع المتن. (ص36)، وبالمعنى المعاصر فتموما أكثر أكاديمية وموضوعية في شرحه، ولا يخلط آراءه بآراء أرسطو. ومن هنا نقده الصارم لابن رشد وقوله: “لم يكن ابن رشد مشّائياً [أرسطيّاً] بقدر ما كان مشوِّهاً للمشّائية”. وهنا يبرز عمل الأكويني في إدخاله أرسطو ركناً وحجر زاوية للاهوت المسيحي والفلسفة القروسطية، وذلك بإنقاذ أرسطو عبر التضحية بشرّاحه. فنصوص الفيلسوف الإغريقي وصلت الغرب القروسطي مختلطة بالشروح. وهذا ما جعل القدّيس توما يطلب من صديقه الراهب غيليوم دو موربيك العمل على إنجاز ترجمات أخرى مباشرة عن النصّ اليوناني. (ص37).
ويطرح المؤلف إشكالية بارزة: لماذا نجح إصلاح الأكويني في المسيحية وتوفيقه بين الفلسفة والاهوت، وفشل المشروع المماثل لابن رشد في الإسلام؟ فقضى فيلسوف قرطبة مغموماً مضّطهداً وأُحرقت كتبه؟! ولماذا اعتُبر في الغرب القروسطي نموذجاً للفيلسوف المتزندق؟!
وتبقى مسألة الخلاف الأساسية بين الأكويني وابن رشد هي قِدم العالم. ويلخّصها الباحث بالمعادلة التالية (ص86): “توما وابن رشد متّفقان في الخَلق، ومختلفان في القِدم”. ويضيف: “الأكويني قام في المسيحية بما فعله الفارابي في الإسلام، وابن ميمون في اليهودية: ثلاثة فلاسفة مسلم ويهودي ومسيحي ينكرون أن أرسطو قال بقدم العالم، ويلجأون إلى نصوص الوحي لحسم المسألة، والقول بحدوث العالم”.
أما ابن رشد، فخلافاً لهؤلاء كان جوابه من نصوص أرسطو نفسها اذ اعتبر أن قول أرسطو بأزلية الحركة وأزلية الزمان فضلاً عن أزلية الجواهر يعني حتماً القول بأزليةالعالم. وهو بذلك كان أقرب إلى فكر أرسطو من زملائه الآخرين الثلاثة!
ولا يكتفي المؤلف بآرائه، بل يورد نصوصاً لكبار الباحثين في الفلسفة القروسطية من عرب وأجانب، ويعلّق عليها ويعقّب. وتبدو هذه النصوص وكأنها العمود الفقري للكتاب، فمن خلالها تتوزّع مباحثه. فنقرأ فيه أبحاث إرنست رينان، ولويس غارديه، وفرح أنطون، وجورج قنواتي، وماجد فخري وغيرهم في القديس توما وجدلية علاقته بفلاسفة الإسلام ولا سيما ابن سينا وابن رشد.
والخلاصة فالكتاب لبِنة حوارية تُظهر كم كان التفاعل عميقاً بين فلاسفة القرون الوسطى، من دون أن تحول المسافات الفكرية والجغرافية والدينية دونه! والقدّيس توما بحدّ ذاته كان نموذجاً للانفتاح على فلاسفة الإسلام وسائر الديانات، ومن هنا جُدّته الدائمة، وظهوره فيلسوفاً معاصراً عبر تيّار التوماوية المحدثة الذي لا يزال فاعلاً في الغرب والشرق.