“من تاريخ الفلسفة المسيحية في أرض الإسلام: التوماوية مفكّروها ودورها في الحوار المسيحي الإسلامي” كتاب موسوعي للبروفسور لويس صليبا صدر عن دار ومكتبة بيبليون في ط2، في 610ص.
الفلسفة المسيحية المشرقية عريقة القِدم، عميقة الأبعاد. ورغم تجذّرها في المنطقة وتاريخ الفكر الفلسفي والديني فهي لم تَعرف بعد من يؤرّخ لها، ويعرض لتيّاراتها العديدة وإبداعاتها الفريدة. ولا يطمح هذا السِفرُ أن يقوم بهذه المهمّة الشاقّة والشيّقة معاً، حسبُه أن يؤرّخ لتيّار مركزي في الفلسفة المسيحية المشرقية: إنه تيّار القدّيس توما الأكويني معلّم معلّمي الكنيسة. وكان لهذا الفيلسوف الأرسطي الذائع السيط تلامذة وأتباع بين مفكّري المشرق حذوا حذوه، واستوحوا من تأليفه البديع بين المشّائية واللاهوت المسيحي. وأكثر هؤلاء الفلاسفة والمفكّرين من لبنان، ولا عجب في ذلك! وبعضهم من مصر والعراق.
ويعود المؤلف إلى بدايات القرن 17″ ليبحث عن جذور الفلسفة التوماوية مع الترجمات الأولى لنصوص الأكويني. وأوّل المترجمين كان المطران الماروني يوحنا الحصروني. ثم المِلفان الموصلي إسحاق بن جُبير (1629-1721) الذي عرّب موسوعة الأكويني الضخمة “الخلاصة اللاهوتية” بكاملها. ولا تزال ترجمته النفيسة هذه كنزاً مدفوناً في أدراج مراكز المخطوطات. وللخلاصة مترجمٌ آخر هو ابن بسكنتا المطران يواصاف الدبسي (1690-1769)، وهو مفكّر ولاهوتي من الطراز الأول. ولكن ثمرات قلمه الخصب، لم تعرف بَعدُ طريقَها إلى المطبعة!
ومن جنود التراث التوماوي المجهولين الأب بطرس نصري من الموصل (1861-1917). وهو مؤرّخ كنسي، ولاهوتي. وله الأصول الشهيّة في الخلاصة اللاهوتية في ثمانية مجلّدات، وهي شرح للخلاصة وترجمة لها في آن. (ص83). وله كذلك ترجمة لموسوعة الأكويني الثانية “الخلاصة ضدّ الأمم” في 1017ص. وكلا الموسوعتين لا تزالان في الأدراج.
وللخلاصة ضدّ الأمم مترجمٌ آخر هو الخوري الماروني جرجس فرج صفير (1842-1928). وأوّل من نشر الخلاصة اللاهوتية بالطبع هو الأسقف الماروني بولس عوّاد (1855-1940)، نقلها عن اللاتينية، ونشرها تباعاً في خمسة مجلّدات. ولأسقف ماروني آخر مآثر توماوية قيّمة. إنه المطران نعمةالله أبي كرم من برمّانا (1851-1931): ترجم الخلاصة ضدّ الأمم ونشر المجلّد الأول منها. كما ترجم موسوعة الفلسفة النظرية للعلّامة والفيلسوف التوماوي الكاردينال مرسيه، ونشرها في 7 مجلّدات، وقدّم لها بدراسة موسّعة. وهذا الحبر اللبناني الجليل لم ينل بعد ما يستحقّ من اهتمام الباحثين، وذلك رغم أصالة فكره، ودقّة ترجماته، وعمق مؤلّفاته. وهو لا يكتفي غالباً بالترجمة وحسب، بل يدرس النصّ التوماوي المترجَم، ويقدّم له، ويحشّيه بنصوص الفلاسفة العرب كابن سينا وابن رشد ليتيح للباحثين المقارنة والموازاة بين مختلف الفلاسفة الأرسطيين.
ويخصّ المؤلف الفيلسوف التوماوي وشيخ الفلاسفة يوسف كرم (1886-1959) بباب كامل (ص263-319). ومَن مِن محبّي الفلسفة العرب ودارسيها لا يعرفه. فكلّ طلّابها درسوا في كتبه الرائدة والواسعة الانتشار مثل تاريخ الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة. ولكن قلّة من يعرف أن هذا المؤرخّ الأصيل للفلسفة لبناني ماروني هاجر والداه إلى مصر، فنُسب إلى هذا القُطر. (ص269): “وعانى يوسف كرم طيلة حياته الجامعية من إغفال متعمّدٍ لحقوقه. وأشار العديد من أصدقائه وتلامذته إلى الظلم الذي لحق به. ومثَلٌ على ذلك قول رئيس جامعة ووزير مصري له: لا أعرف في أية فئة أصنّفك. فأنت لستَ بأجنبي. ولكنك لست مصريّاً صرفاً”. ذلك لأنه كان لبنانيّاً أصيلاً لم تمحُ إقامته الطويلة في مصر عنه هذه الهوية.
ومن مشاهير المفكّرين والفلاسفة التوماويين الآخرين الأب جورج قنواتي (1905-1994) وهو رائد الحوار المسيحي الإسلامي، وله في الفلسفة الإسلامية والمقارنة مؤلفات قيّمة تتصدّر المكتبة الفرنسية في هذا المجال. ويفرد الباحث له باباً كاملاً (ص321-385). والفيلسوف اللبناني شارل مالك (1906-1987) رائد فلسفة حقوق الإنسان وشرعتها العالمية (390-460). والأب عفيف عسيران صاحب السيرة والمؤلفات التي تفوح منها رائحة القداسة (ص481-582).
والخلاصة فالكتاب مرجعٌ لا غنى عنه لدارسي الفلسفة العربية والفلسفة المسيحية في آن.