“المسيحية بين البوذية والإسلام: مشتركات ومفترقات” كتاب للبروفسور لويس صليبا صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في ط1، وطبعة ثانية في 500ص وتجليد فاخر.
نقرأ في مقدّمة المؤلّف (ص9): “المسيحية من حيث الموقع الزمني، تتموضع في منتصف الطريق بين البوذية والإسلام… فهل من دلالة معيّنة لموقعها هذا الذي يتوسّط ظهور ديانتين عالميّتين أخريين؟! وما مدى تفاعلها مع سابقتها وفعلها في التالية؟”
وتحت عنوان “قراءة نقدية في سبيل الانخراط في حوار الحضارات” يضيف الباحث في مقدّمته: “إنسان اليوم قد سئم من العنف والحروب، وإذا كانت الأديان مولّداً دائماً للعنف والحروب، فستنال نصيبها من سأمه وشجبه!”
والباب الأول مدخل إلى البوذية، ونقرأ فيه: رغم أنه أقدم مؤسّسي الأديان، فبوذا هو اليوم أكثرهم تاريخيّة! هذا ما أثبتته الاكتشافات الأركيولوجية الحديثة. فعام 1898 وجدت بعثة أثآرية بقايا جثّته بعد حرقها، طبقاً للتقليد، وعلى الصندوق المقفل نقشٌ عائد إلى القرن 4 ق م يؤكّد ذلك. كما اكتُشف 1896 عمودٌ من أعمدة الأمبراطور البوذي أشوكا يعود إلى نحو 249 ق م ويؤكّد نقشه أنه موضوع في مسقط رأس بوذا ما يتطابق مع رواية التقليد البوذي.
وفي الباب الثاني: طالما قارن مؤرّخو الأديان بين أشوكا الأمبراطور الهندي (304-232 ق م)، والأمبراطور الروماني قسطنطين (280-337م). الأول اهتدى إلى البوذيّة وهو الذي عمل على نشرها وجعلها ديانة عالميّة واسعة الانتشار، وتتخطّى حدود الهند، ودعا إلى أبرز مجمع في تاريخها. والثاني اهتدى إلى المسيحية وأوقف اضطهادها وحماها ودعا وترأس مجمعها المسكوني الأول: نيقيا. ولكن المقارنة هذه تتوقّف عند هذا الحدّ! فقسطنطين دخل في المسيحية وواصل حروبه، في حين جعلت البوذية أشوكا الفاتح العظيم يتوقّف عن حروبه والفتوحات، وينشر السلام في أرجاء أمبراطوريّته، وبينها وبين الدول المجاورة. فلماذا هذا الفارق، بل التضادّ بين النتيجتين: قسطنطين طبع المسيحية بطابعه، في حين أن أشوكا انطبع بطابع البوذية المسالمة. قسطنطين جعل من المسيحيّة ديناً لدولة وأمبراطورية محاربة فأخذها إلى حيث يريد. وهي إلى اليوم لم تتخلّص بعد من الطابع الذي وسمها به. في حين أخذت البوذية أشوكا كبير أباطرة عصره إلى حيث تريد، وانقلب الذئب حملاً وديعاً مسالماً! وأمضى أشوكا بقيّة عهده يعمل على نشر السلام. وترك عدداً من الأعمدة التي نقش عليها مراسيمه. وأهمّها مرسوم التسامح. وفيه يؤكّد أنه لم ولن يجعل من البوذية دين دولته، ويتعهّد لأبناء أمبراطويّته بتأمين حرّية المعتقد.
جاء في هذا المرسوم (ص83): “أديان الناس على اختلافها جديرة بالاحترام لهذا السبب أو ذاك. والمرء باحترامه أديان الآخرين يساعد على إعلاء شأن ديانته. ولكنّه بتصرّفه المخالف إنما يحفر قبر ديانته، ويسيء إلى أديان الآخرين… هكذا يطيب الوئام: فليصغِ الجميع، وليرغبوا في الإصغاء إلى عقائد الديانات الأخرى”.
ومرسوم التسامح هذا، وسائر مراسيم أشوكا تترجم للمرّة الأولى إلى العربية. وذلك نقلاً عن أوثق المراجع الأركيواوجية التي فكّت رموزها العتيقة، ونقلتها عن لغتها القديمة.
ويعقّب الباحث على مرسوم التسامح لأشوكا، وممّا يقول (ص85): “يبدو مرسوم التسامح وكأنه قد كُتب اليوم، فهو ورغم قدمه لم يفقد آنيّته، ويتوجّه للإنسان المعاصر، بقدر توجّهه للهنديّ منذ 2250 عاماً: كلّ الأديان جديرة بالاحترام والمرء باحترامه أديان الآخرين إنما يُعلي شأن ديانته، وباحتقارها وتكفيرها إنما يحفر قبر ديانته! أما الدعوة إلى الإصغاء إلى الآخر فتضع الإصبع على الجرح في مأساتنا المعاصرة، ولا سيما في هذا الشرق: ما من أحد يصغي إلى الآخر، ويفهم عقيدته من فمه”
وفي الكتاب فصول عديدة أخرى في الإصلاح في المسيحة والإسلام والجدل فالحوار بين الديانتين.
والكتاب بالمختصر جديد في طرحه، أكاديميّ في مقاربته، رزين في أسلوبه، رصين في لهجته حواري في طابعه. وتحتاجه المكتبة العربية التي تفتقر إلى الكثير من الدراسات المحايدة في الأديان المقارنة.