“إشارات شطحات…ورحيل: أناشيد ومختارات صوفية” ديوان للدكتور لويس صليبا، تقديم المستشرق بيير لوري، صدر عن دار ومكتبة بيبليون، ط3، في 225ص وتجليد فني فاخر.
ديوانٌ هو باكورة قريحة الشاعر. وهو في الأساس باحث في التصوّف الإسلامي والتصوّف المقارن، وله أطروحة في الشطح عند الصوفية. وقد جمع في هذا الديوان أبرز شطحات البسطامي والحلّاج مَدخلاً لمحاولات له في الشطح الشعري. تتصدّر الديوان مقدّمة بحثية قيّمة للبروفسور المستشرق بيير لوري، يعرّف فيها بالشطح وأبرز الشطّاحين وعلاقتهم بالشعر. ثمّ ينعطف إلى قصائد الديوان دارساً علاقتها بالشطح. وممّا يقول (ص14): “فالدكتور لويس صليبا يُظهر لنا كم أن الشطح يرافق بحث الإنسان المعاصر ونضالَه. فقصيدتُه حول بعض أقوال نيتشه نوع جديد من الشطح هي وتتوجّه مباشرة إلى أهل عصرنا”.
ويختم لوري مثمّناً نتاجَ الشاعر الباحث، ومنوّهاً بمختلف مجالات نشاطاته (ص18): “يجهد الدكتور لويس صليبا في سبيل التقاء العوالم التي يعرف ويحبّ: الشرق القديم والحديث بجناحَيه المسلم والمسيحي، الشرق الأقصى الهندوسي والبوذي، والثقافة الغربية…إنه ككثير من المفكّرين اللبنانيين عابرٌ يحاول مساعدة إخوته لعبور البرازخ التي تحدّ عوالمنا”.
أما الشاعر فيعرّف بديوانه كما يلي (ص29): “هذه المقطوعات اختيرت من بين الكثير، ومن حِقب أزمنةٍ مختلفة، لتعكس بصدق أحوالاً من الوَجد والوجدان، من الكشف والصفاء…أو حتى الكدر، تركت بصماتها على الورق، ثم رحلت مع الراحلين. وليس في نشرها سوى محاولةٍ لاستحضار هذه الأحوال”
والقسم الأول شطحات لأبي يزيد البسطامي وقصائد مرفوعة إليه. فقد كان للشاعر ولا يزال شيخاً ومعلّماً. فمن شطحته الشهيرة “سبحاني ما أعظم شاني” وغيرها يستوحي الشاعر قصيدة جاء فيها (ص55): “سبحانك مولاي سبحانَكْ/ سبحانكَ ما أعظمَ شانَكْ!/ أبحثُ عنك من أمدٍ بعيد/ بحثَ أبي يزيد عن أبي يزيد/ ذاك الوجهُ المتلألئُ بإشراقةِ الذاتْ/ أجاهدُ أن ألمحه، أن أهاتِفه…ها أنا آتْ/ أوليس أن أراكَ مرة/ خيرٌ من رؤيةِ ربّي ألف مرّة؟”
وللحلّاج الشطّاح الثاني والداعية إلى وحدة الأديان نشيد (ص77): “وحدةُ الأديان سيّدي شققتَ لها الطريق بالشهادة/ فصليبُك على ضفّةِ النهر…جسرُ عبورٍ بين أهل التنزيلِ وأهل الكتاب/ ورمادُ جسدِك المنثور فوق دجلة/ سَفَرٌ من ثقافة الرافدَين إلى حضارةِ ضفافِ الغانج”
وننتقل إلى محور آخر، مسيحيّ هذه المرة. ويتجلّى في نشيد إلى العذراء مريم، نقرأ فيه (ص89): “مريمْ يا أمّي ويا أمَّ الإله/ مريمْ يا حُلُمي مذ قلتُ آه/ أنتِ الأرضُ تهبُنا الخيراتْ/ أنتِ الندى يفتّحُ الزهراتْ/ أنتِ الجمالُ نشتاقُ إلى رؤياه/ أنتِ المثالُ نتوقُ إلى لقياه”
وللهند وتصوّفها مكانةٌ بارزة في الديوان ومقام. فمن قصيدة للمهاتما غاندي (ص107): “أنتَ أيهذا النصفُ عاري/ بقمرٍ أضأتَ عتمتنا/ أنرتَ القرى، المدنَ والبراري/ ومن ظلمةِ العنفِ أخرجتنا”
ومن قصيدة صحو بوذا (ص140): “ما همّ خالقٌ بارئٌ مبدعٌ أم من عدم/ إجهادُ الفكرِ في هذي الأمورِ يتلوهُ الندمْ/ فانظري الهدفَ وشقّي له الطريقْ/ فبذاك تَصحين يوماً…والروحُ طليقْ”.
ومن أواخر القصائد واحدةٌ تُنشد الرحيل الدائم. ألسنا في رحلة لا نهاية لها؟! فلِمَ التعلّق بالحياة وأشيائها؟! وكالسّائح الحاجّ يغنّي الشاعر (ص163): “راحلٌ أنا/ وكلّ حالٍ يزولْ/ سَفَرٌ هي الحياةُ/ الولادةُ سَفَرٌ ووصولْ/ والعمرُ أسفارٌ في الزمانْ/ في الفكرِ، في المكانْ/ في المشاعرِ في الوجدانْ/ وآخرُ العمرِ سَفَرٌ إلى المجهولْ!”
وفي الخلاصة، فالشاعر يفلح بلا ريب في أن يُدخلنا في عالمه الصوفيّ. وقد حشد في سبيل ذلك ليس بنات قريحته وتبصّراته ورؤاه وحسب، بل أنطولوجيا من أجمل ما في أقوال البسطامي وأشعار الحلّاج وغيرهما من شطحات، وزوّق ديوانه بلوحاتٍ من الخطّ العربي ترسم أقوال الصوفية، وأخرى تعرض أيقوناتٍ مسيحيّة وإسلامية وهندوية. وكلّ فئة تؤآزر الأخرى لتكون الجولة في الديوان سياحة صوفية حقيقية تترك بصماتها في القلب وآثارها في الوجدان.