“مرآة القلب: حكايات وأغنيات عاشق”، ديوان للدكتور لويس صليبا، قدّم له البروفسور جاد حاتم، صدر في ط3 عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل، في 191ص، وتجليد فني فاخر.
وكعادته في دواوينه الأخرى يمزج الشاعر قصائده بمجموعة بحوث. فالديوان كما يرد في غلافه الداخلي: محاولات ومختارات في العشق الصوفي، مع ذيل في القُبلة في التصوّف والأديان.
ولوحة الغلاف جدّ معبّرة: شيفا/شاكتي، مأخوذة من اليوغا تانترا والفن الهندي، وترمز إلى اتّحاد الأنوثة والذكورة نحو الإنسان الكامل.
وفي مقدّمة البروفسور حاتم (ص8): “هل عبّر عن واقع مُعاش بالكلمة المناسبة؟ ليست الإجابة بالأمر السهل، ومن هنا اللجوء إلى الشعر…فمن ناحية يُستخدم الشعر كوسيط للكشف، ما يبرّر عنوان هذه المجموعة: مرآة القلب. إذ نجرؤ فيها عن نفسنا، وعن الآخرين، ما نسعى عادة إلى إخفائه عن ذواتنا.”.
أما الشاعر فيقول في تقديمه (ص27): “حكاياتٌ وذكريات هي، وجملة أغنيات. تمتدّ في الزمن عبر حقبة تقارب العشرين من السنوات. لكأنها في مجملها، يوميّات تختصر درب عاشق، وتحكي أخباره. وهي اختيارات ممّا تبقّى من نصوص ضاع منها الكثير”.
ونبدأ الجولة في الديوان، فكأنّنا بين قصائده والصوَر التي تزيّنه والحِكم التي تمهّد للقصائد وترصّع الصفحات في حديقة أزهار، نقطف أقحوانة هنا، ونشمّ وردة هناك، ونتأمل بنفسجة هنالك.
ومن بين الحِكم ما كتبه الشاعر نفسه، كتلك التي تطالعنا في البداية (ص23): “كلّ عملٍ يبسط القلبَ عملٌ صالح. وكلّ عملٍ يقبضُ القلبَ عملٌ طالح”. أو تلك التي تختصر فلسفة الشاعر في العشق الإنساني والإلهي في آن (ص106): “أوّل الحبّ خروجٌ من الوحدة، وآخرُه دخولٌ في وهج التوحيد”.
أما القصائد فهي في مجموعها سيرة ذاتية للشاعر في العشق ببُعديه!
نقرأ من محاولاته الأولى، ومن عمود الشعر التقليدي القديم (ص39):
رحل الجمال إلى ديار الحبّ في سفن الشراع الكبريات الهائمة
قصيدة فُقدت، يقول لنا، ولم يبقَ منها سوى الأبيات الثلاثة الأولى!
ونواصل جولتنا، قصيدة أخرى من زمن الصبا، نقرأ فيها الرباعية التالية (ص41): “إليكِ يا ساكنةَ الأعالي/ يا نسمةً جاءت مع الربيعْ/ ضاعت كما العمرُ يضيعْ/ كما اللصُّ في عتمِ الليالي.
ونطلّ على قصيدةٍ مؤثّرة تحكي قصّة إلفة ففراق، وممّا نقرأ في الخاتمة (ص83): “أفي طريقٍ واحدٍ مشينا مسافة عام/ أم هي الطُرقُ تلاقت…والسلام/ دموعُك تناجيني/ ألا فلنكمل المشوار/ وصوتٌ يناديني/ إرحل يكفيك انتظار/ حبٌّ وسؤالٌ حكايتُنا/ دربٌ وآمالٌ مسيرتُنا/ لا الحبّ كان الجواب/ ولا الدربُ أرجعَتْ ما غاب”
وتطولُ الجولة، وتتعدّدُ الوقفات، وتتنوّع المحطّات. فالشاعر حشد من محاولاته كمّاً ونوعاً ما يشغل القارئ ويثير فيه الحشرية للمتابعة. وتستوقفنا قصيدة من عنوانها اللافت: “عاشق الأختين” (ص87-95). أيمكن للمرء أن يعشق، وفي الوقت عينه أختين؟ لعلّ الحكاية المروية في القصيدة ترمز في الحقيقة إلى أن الخيارات في الحياة، وفي الحبّ كذلك، ليست بين أبيض وأسود. فبينهما درجات لامنتاهية العدد من تنوّعات الرماديّ. ويفلسف الشاعر تجربته بين خيار وأقدار، فمن الذي يختار؟!:
“عاشق الأختين حالُك حالي/ كم حيّرتني أمورُ الحياة/ وما عرفتُ من الحيرة نجاة/ وفي كلّ حيرةٍ تلوحُ أنت ببالي/ هل نحن يا صاحبي من يختار؟/ أم ثمّة من يأخذُ عنّا القرار/ أعواماً وسنين احترتُ/ وبعدها كم فكّرتُ وشعرتُ/ أن الظروفَ اختارت لي، وما اخترتُ.”
أما قصيدة “أميرة الشهوات السود” (ص97-103) فتحكي قصّة التشلّع بين رغبة الجسد وصَبْوة الروح: “كم مرةٍ وقفنا ممزّقين بين رغبتيَن/ نزعةٌ للروح…وشهوةٌ للعين”.
وسيرة الشاعر في العشق هذه سيرة كلّ إنسان على اختلاف في المسارات والتفاصيل! والحبّ البشريّ نموذج ومرقاةٌ للحبّ الإلهيّ. وفي تساميه…وانزلاقه بقي الشاعر صريحاً صادقاً في بَوحه. لم يغمض العين عن الزلّات، ولا هو غضّ الطرف عن التطلّعات والنجاحات. وبين الطهر والعهر، والملائكي والشيطاني مقامٌ لعلّه مقامه. ولكنه في النهاية ليس سوى محطّة. فالمسيرة متواصلة، والهدف بعيد والسالك مصرّ على المضيّ.