“مقامات الصمت: محاولات وأبحاث في الصمت والتصوّف واليوغا”، كتاب/ديوان للدكتور لويس صليبا، صدر مؤخّراً في ط3 عن دار ومكتبة بيبليون في 373ص، وتجليد فني فاخر.
قدّم للديوان أستاذ الشاعر المستشرق بيير لوري. وممّا قاله (ص8): “لا بدّ لقارئ هذا الكتاب أن يُدرك، وبسرعة، أنه في حضرة نصوصٍ ليست من المألوف بشيء…وسيلحظ القارئ أنه لا يتعامل مع خواطر واعتبارات وقصائد عن الصمت، بمعنى أن الصمت قد يغدو موضوعَ دراسة. ولكن وبالأحرى، فإن صفحاتِ هذا السفر مستوحاةٌ هي من الصمت التأمّلي، ومنبثقةٌ منه”.
أما الشاعر فيحكي قصّة قصائده قائلاً (ص21): “هذه المقطوعات والأناشيد نُتَفٌ من القلب هي، وفلذات كبد. وفلذات الكبد كالأبناء، والأبناء منهم الصالح ومنهم الأقلّ صلاحاً. وكلّهم عزيز”. إقرار يسجَّلُ للكاتب.
ويقدّم الشاعر لمحاولاته بدراسة لافتة عنوانها “الشعر والصمتُ من جوهر واحد” (ص25-39). ويغوص فيها في أبعاد الشعر ومقوّمات التجربة الشعرية وفق المفهوم الفيديّ، وهو على الأرجح أقدم مفهوم الشعر، وفيه: “إن الشعر ينشأ عن اختبار للسكون والصمت، ويعبّر عن هذا الاختبار. ومن هنا قولنا إن الصمت والشعر ليسا نقيضَين متنافرَين، بل جوهرَين متلازمَين ومنسجمَين. وأصدقُ الشعر وأعمقُه ما انبثق من الصمت، وما أفسح له في أوزانه وقوالبه ومعانيه حيّزاً رحباً”.
والقصيدة الأولى “الحبيب الصامت”: إنه الحكيم اليوغيّ شاندرا سوامي. وقد عاش الشاعر في ديره قرب دهرادون/الهند، على ضفاف نهر اليمونا المقدّس، حقبة تتلمذ فيها عليه. وأُغرم به وبصمته غرام مولانا بشيخه شمس تبريز. وممّا أنشده في عشق معلّمه (ص51): “أيهذا الحبيب: صمتُك يُجَلْجِلُ في أعماقي. يناديني، يصرخُ بي للتلاقي. يوقظُني مع الغسقِ. فأصحو لألمحَ بهاءَ وجهِكَ، كالشمْسِ لحظةَ الإشراقِ.”
وفي دارام سالا عاصمة الدلاي لاما في الهند، وبوحي من قداسة هذا الأخير الذي التقاه مراراً نظم الشاعرُ نشيد “صمت العيون والحواس” (ص71-78)، وفيه يناجي نفسه فيقول: “فاذكري الصمتَ، منه أتيتِ، وإليه المَعادْ، يوم تُهجرُ الأجسادْ ويبلوها الفسادْ. الزمنُ غدّارٌ والعمرُ يهربُ كالغزالْ. فلا تدعي الوقتَ يضيعُ فيضيّعُ الآمالْ. مبتغاكِ وإن كان عسيراً، فليسَ بالأمرِ المُحالْ. هيّا انهضي، وخطوةً سيري نحو المآلْ. على جهدِكِ الذاتيّ، دونَ غيرهِ، دعيهِ الاتّكالْ”.
والقسم الثاني تندرج قصائده تحت عنوان “سائح في المدن المقدّسة”. وقد ساح الشاعر وحجّ إلى فرناسي مدينة الهندوس المقدّسة، وإلى أمرتسار مدينة الذهب والأنوار. أمّا أورشليم القدس، فحجّ بالشوق إليها وأنشدها قصيدة طويلة (ص137-148)، بكى فيها حال المدينة تحت الاحتلال الذي يمنعه أن يتبرّك من هوائها وحجارتها: “يا أورشليم، يا صاحبةَ الجمالْ الذي ليسَ لهُ مِثالْ. فيكِ اجتمعَ الحبُّ والبهاءْ. ها أرواحُ الأبناءْ إليكِ تصبو بحنانْ. أفراحُكِ كانَتْ مسرّتَها، وهي في منفاها الآنْ، تبكي على خرائبِكِ، وتتحسّرُ على المجدِ الذي كانْ، وتشتاقُ لرؤيةِ جبالِكِ المباركةِ، وتسجدُ في الصلواتِ خاشعةً نحو أبوابِكِ”.
ويصلّي الشاعر/السائح كي تعودَ المدينةُ واحة سلامٍ لكلّ الحجّاج من كلّ المشارب والأقطار: “واحةَ صلاةٍ وسلامْ، أرادَكِ المرسلون، فيكِ يتجسّدُ الحبُّ للأنامْ. وساحةَ حربٍ شاءَك الطامعون، فمتى، متى، يُدحرُ الغاصبون؟!”
ويحكي الشاعر قصّةَ حجّه إلى فرناسي، حيث مشى مع ملايين الحجّاج في شوارعها الضيّقة، وأطلّ على الغانج، وغاص فيه كما الملايين تبرّكاً وتطهّراً (ص95): “يا مدينةَ الحجيجْ، قد جئتُكِ أبني معبداً، لقلبيَ المجروحْ. نهرُكِ القدسيُ أبداً، يمحو الذنوبَ قيلَ، يبلسمُ الجروحْ”.
ومن أشرم شاندرا سوامي على ضفاف النهر المقدّس يصدحُ بنشيدٍ إلى الأمّ البعيدة والمنتظِرة (ص154): “بعيدٌ أنا اليومْ، ولكن صورتَكِ في البالْ. وفي كلِّ ما أراهُ من جَمالْ. في دمعةِ الغيمةِ السخيّة. في بسمةِ الزهرةِ الشجيّة. في حفيفِ غصونِ الأشجارْ. في هديرِ الساقيةِ والأنهارْ. وفي تغريدِ طيورِ الماءِ تحومْ، فوق الساقيةِ ليلاً ونهارْ”.
وفي الكتاب ملحق عن الصمت واليوغا يعرّف بالتأمل واليانترا. والخلاصة فهو سِفرٌ يجمع المتعةَ إلى الفائدة، ولا يتركه القارئ، إلا وفي قلبه ووجدانه بصماتٌ منه.