“سائح على ضفاف الذات: حكاية مسار صوفي وسيرة ذاتية شعرية” كتاب للبروفسور لويس صليبا صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في 370ص

“سائح على ضفاف الذات: حكاية مسار صوفي وسيرة ذاتية شعرية” كتاب للبروفسور لويس صليبا صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في 370ص وتجليد فاخر.

السؤال الأول والبديهيّ الذي يتبادر إلى الذهن: من هو هذا السائح؟ ويتلوه مباشرة آخر: لِمَ يبقى على ضفاف ذاته، ولا يلجُ أعماقها؟!

ما السائح إلا الكاتب/الشاعر نفسه. أما سياحته على الضفاف فليست امتناعاً إرادياً عن سبر الأعماق، وإنما هي تعبير عن حقيقة أنّنا نبقى عمراً وأعماراً نسوح على ضفاف ذواتنا حتى ننضج و”تستوي” الثمرة فتنفتح لنا عندها هذه الأعماق. فتكون سياحاتنا الطويلة إعداداً حثيثاً ودؤوباً لذاك الكشف المنتظر.

“سائح أنا أُبحر وأسير، وكلّ يوم أكتشف قارّة في مجاهل ذاتي” يقول الشاعر في مستهلّ مقدّمته (ص14).

تتصدّر الغلاف وتزيّنه صورة لمعلّم الكاتب وواحد من كبار حكماء الهند في القرن 20 سوامي شيدانندا مصلّياً على ضفّة نهر الغانج المقدّس في الهند. والغانج يحتلّ مقاماً مرموقاً في الكتاب وفي حياة الشاعر. فقد أمضى سنواتٍ طويلةً حاجّاً على ضفافه حتى تماهى معه، فبدت هذه الضفاف ضفافاً للذات! فمن غانغوتري منبع الغانج في أعلى جبل في العالم، إلى أوتّاركاشي مدينة النسّاك ومتوحّدي اليوغا في الهملايا، فإلى ريشيكِش العاصمة العالمية لليوغا حيث يعانق النهر المقدّس السهل منصبّاً من الأعالي، فيغدو بحيرة شاسعة تحجّ إليها الملايين للاغتسال والتطهّر. وعلى ضفاف النهر في هذه المدينة المقدّسة التي تمتنع حتى مطاعمها الجميلة عن تقديم الأطعمة غير النباتية والكحول وبث الموسيقى الصاخبة، تنتشر مئات المعابد والأديار والهياكل، فتتعالى فيها رنّات الأجراس صبحاً ومساءً داعية الحجّاج والوافدين إلى الصلاة. فتغدو المدينة بأسرها وكأنها صوت واحد موحَّد موحِّد يصدح. وينتقل الشاعر من دير إلى دير على هذه الضفاف، ومن هيكل إلى آخر، يصلّي مع هذا، ويتأمّل مع ذاك، يصغي إلى عظة حكيم هنا، وترتيل راهبٍ هناك (ص131-133). وبعد الصلوات توزَّع القرابين أطعمة شهيّة على كلّ الحاضرين في المعبد، وكلٌّ يتلقّى نصيبه من البرَكة.

ولا تقتصر سياحات الشاعر ومحجّاته على مقامات الهند. فللأديار المسيحية والعتبات المقدّسة الإسلامية نصيبها. ففي محبسة الأبانا في تولا/البترون يرفع إلى “خليلته” ماريا نازارينا (1907-1990) حبيسة روما وقدّيستها ابتهاله (ص211): “في يوم واحد ولدنا، ولكلّ منّا مسار…الهدف واحدٌ وإن تعدّدت الأسفار. ومصيرنا أن نلتقي وإن طال الانتظار فهلّا شفعتِ لي عسى الخاتمة زفرة تكون في الحضن الإلهيّ وعساني القاكِ في دار القرار.”

وفي العتبة العبّاسية/كربلاء يهتفُ للعبّاس بن عليّ باب الحسين وأخيه (ص197): “ساقي يا ساقي أسكرْتَني من خمرة الباقي…أتيتُ أزورُك وألقي السلامْ، فكنتَ أنت الزائر وأنا المُزارْ، سكنتَ القلبَ هدمتَ الجدارْ، قمراً أطلّيتَ وبدّدتَ الظلام”.

وفي دير الميلاد/اللقلوق للرهبان المتوحّدين يرفعُ التسبيح (ص223): “من جبال لبنان تتصاعد تسابيحي نحوك أيها السيّد، كما تصاعدت من ضفاف الغانج، أنتَ الواحد الأحد بكلّ وجوهك الأُلهانية”.

وكما في كلّ دواوينه الأخرى يُفسح الشاعر للبحث مجالاً رحباً، وكذلك لأقوال الفلاسفة والحكماء: يصطفي منها ما يزيّن قصائده درراً ترصّع أبياتها.

أما البحث، فسياحة على ضفاف الشعر. يغوص فيه في القوالب الشعرية: الأوزان والقوافي عند العرب والشعوب الأخرى من سريان وهنود ويونان. فيرى أن القافية ابتكارٌ عربيّ بامتياز، وعنهم أخذتها الشعوب الأخرى. فالسريان لم يعرفوا القوافي في أشعارهم إلا بعد احتكاكهم بالعرب. وكذلك الأوروبيون لم يعرفوها ولا أثر لها في شعرهم اليوناني القديم، ولم تظهر إلا بعد غزو الأندلس. ولكن العرب بالغوا في حبّ القافية وبلغوا فيها حدّ العبادة، فصار الشعراء ينقّبون في المعاجم عن القوافي قبل أن يباشروا النظم، وأين هذا من الشعر؟! “سلمت القافية وانعدمت العافية” يقول المثل اللبناني (ص62)

ومن الحِكَم منتقيات من درر الإمام الرضا، ع، جمعها الشاعر عند زيارته لمقامه في مشهد/إيران (ص167-175). ونختم بمقولة لأرسطو: “يسير من ضياء الحسّ، خير من كثير من حفظ الحكمة” (ص152)

شاهد أيضاً

أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون في 380 ص.

“أديان الهند وأثرها في جبران:. قراءة جديدة لأدب نابغة المهجر” للدكتور لويس صليبا، صدر عن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *