“جدليةُ الحضورِ والغياب: بحوثٌ ومحاولات في التجربة الصوفية والحَضرة” كتاب للدكتور لويس صليبا صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في ط2، في 320ص، وتجليد فاخر.
يجمعُ الكاتب في سِفره هذا بين البحث الأكاديمي والمحاولات الشعرية، وهذا دأبه في دوواين خمسة أخرى له.
ومن بحوثه فيه نظريّته في الشعر يعرضها في دراسة تتوسّط الاقتضاب والإسهاب (فصل4، ص53-65). ويتناول فيه قصيدة النثر ونشأتها وشعراءها في الغرب. ويخلص إلى تحديد مفهومه هو لها (ص65): “قصيدةُ النثر تعبيرٌ شاعريّ غنائي وجدانيّ لا يلتزمُ قوالبَ الشعر ولا أوزانَه وقوافيه، ولا يشترطُ طولاً ولا قِصَراً. إنها نفَس شاعريّ موسيقيّ في قالب نثريّ، وإخراج طباعيّ يحاكي إخراج الشعر”.
ماذا عن الموضوع الذي تدور حوله محاولات هذا السِفر؟ هل يُنهي رحيلُ امرئ ووفاته كلّ حضورٍ له في الدنيا؟ أم أن الرحيل لا يعدو كونَه تغيّر في الحضور؟! “غابوا في الحضور” تقول التقاليد المسيحيّة عن المتوفّين. (ص10). وإذا صحّ أن الحضور هذا يتحوّل ولا ينعدمُ، فكيف لنا أن نخبره؟ أو هل من سبيلٍ للتواصل والاتّصال به؟!
وبالطبع ما من جوابٍ فيصل وقطعي لسؤالٍ كهذا حيّر الإنسان مذ وعى وجوده ومصيره. والأجوبةُ على مستوى الفكر والعقل تبقى كلّها تخمينية! وحده الاختبار أو التجربة الصوفية تتيح بعضاً من مذاق! وفي ذلك يقول الشاعر/الباحث في المقدّمة (ص13): “محاولات هذا السِفر تعبّر في الغالب عن اختبار داخليّ، وقد كُتبت في الغالب في خلوات صامتة، فهي تنحو باتّجاه نقل اختبار والبوح به. وغالباً ما يقصّر البوح عن التعبير…وتنوء الكلمات والألفاظ تحت ثقل التجربة الداخليّة الحميمة.”
ولكن أيّ اختبار تحديداً، أو طبقاً للتعبير التقليديّ، ما هي مناسبة هذه القصائد؟ يسارع الشاعر إلى الإجابة (ص10): “هذا السِفر ولد من رحم مناسبة أليمة ذكّرت بأخرى سبقتها: فقد الأب وافتقاده، والذي ذكّرني بفقد الأب الروحي/المعلّم”.
فقد المعلّم جعله يهتف يوم زار مقامه (ص136): “شيدانندا: أنت معي، وأنا في حضرتك! وما الموت إلا حاجزٌ وهميٌ بيننا”.
أما فقد الأب فعاشه في تمزّق حقيقيّ بين اللطيف من كيانه…والكثيف. اللطيفُ في حال من يقين يؤكّد أن الحضور باقٍ ولمّا يزل، وإن اختلف…والكثيف يسأل كيف وأين؟! الشعور على يقين من الحضور…والفكر، كدأبه دوماً، يتساءل ويشكّك. بئسه، فهو عاجز عن لمس هذا الحضور أو حتى تلمّسه واستشفافه.
ينشد الشاعر (ص82): “ومن أحبّ بهذا القدر وبهذه الجذريّة، حبّه يبقى… ذبذباته تعلق في الحيطان”.
أما الرحيل الذي لم يستطع أن يلغي حضور الأب، فعنه يقول: “أنت رحلتَ دون أن تغيب. لقد اختلف حضورُك وتغيّر ليس إلا. فقط انقلب الكثيف إلى لطيف. فأنتَ إن رحلتَ فلن تتركني…لن تتركنا. ستبقى ملائكتك حاضرة. حنانُك وحبُّك حاضراً، وحضورُك سيبقى يضجُّ في هذا البيت!”
وعن يقينه بالحضور الأبويّ المستمرّ والباقي بعد الرحيل ينشد الشاعر (ص95): “لقد كُشف الغطاء…وانزاح الغشاء. وأعلم الآن علم اليقين أنك رحلتَ…وبقي حضورُك. حضورٌ سيرافقني إلى آخر الدرب. حضورٌ أحسُّ به وكأنّه نسمةٌ دافئة. غلافٌ أثيريّ يطوّق كياني…يدفئني وينعشني في آن، يصحبني كملاكٍ حارسٍ تارةً، ويتبعني كالظلّ طوراً، حتى يحينُ أوان اللقاء من جديد”.
ويستحضرُ الكاتب كبار الشعراء والمفكّرين الذين عاشوا تجربة مماثلة. فينقل مثلاً عن الفيلسوف لايبنيز (ص70): “لقد قدّمت لنا الطبيعة من خلال النوم وحالات الإغماء، عيّنات تجعلنا نقضي بأن الموت ليس تعطيلاً لجميع الوظائف، بل هو فقط توقّف بعض الوظائف الأكثر بروزاً للعين”
ويتناول في بحث موجز الحضور الإلهي: ما تقوله عنه المسيحيّة والهندوسية، وكيف عاشه كبار الأولياء والقدّيسين أمثال شارل دوفوكو. وما سمّاه آباء البرّية “التألّه بتناول القربان” (ص50).ويشدو الحضرة الإلهية، ويحكي عن إحضار الغائبين (باب4، ص139-153)
والخلاصة، فهو سِفرٌ ينبعُ من القلب والمشاعر، ويحاكي القلب والمشاعر في… محاولاته. ولا تفوته مخاطبة العقل والوجدان وتشغيل الفكر في بحوثه. ولأنه كذلك…فهو جدير أن يُقرأ ويُحكى عنه.
تكريم وزير الصحّة مروان حمادة لموظّفي مستشفى قلب يسوع/الحازمية ومن بينهم طانيوس الياس صليبا في 18 حزيران 1993، وقائع الاحتفال على الرابط التالي: