“نحو الحوار المسيحي-الإمامي: بحوث في نقاط الالتقاء بين المسيحية والتشيّع”، للدكتور لويس صليبا، صدر في ط2 عن دار ومكتبة بيبليون-جبيل في 500ص، وتجليد فني.
فكرة الكتاب رائدة، والمقاربة جديدة. فهو يتناول جانباً من الحوار المسيحيّ-الإسلامي، ويغوص فيه باحثاً عن المشتركات بين أتباع المسيح وشيعة آل البيت.فما الذي يجمع بينهما؟
عاش الفريقان في الدولة الإسلامية متجاورين وفي وئام. وكم من مرّة جمعتهما المصيبة والمآسي الواحدة: الخليفة المتوكّل العبّاسي مثلاً الذي هدم قبر الحسين، هو عينه من ألزم المسيحيين بالغيار والزنّار.
ويتناول الكاتب ظاهرة لم تنل بعد ما تستحقّ من اهتمام ودراسة: مسيحيّو لبنان المعاصر كانوا روّاداً في الدراسات الشيعية ونصرة آل البيت: جبران ونعيمه مثلاً كتبا أجمل القصائد النثرية في الإمام علي. وبولس سلامة نظم أول ملحمة شعرية عربية “عيد الغدير”، وكان الإمام عليّ وأبناؤه موضوعها. أما جورج جرداق، فهو صاحب موسوعة “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية”: دراسة رائدة لفكره السياسي والدينيّ تظهر أسبقيّته لكثير من طروحات الحداثة في حقوق الإنسان. وسليمان كتّاني، ونصري سلهب، وغيرهم: تتوقّف الدراسة عند كلّ مساهمة ناقدة مثمّنة.
وتبقى ميزة الكتاب الأساسية تكمن في دراساته المقارنة: مسيح الفداء وحسين الشهادة، مريم العذراء وفاطمة الزهراء، المهدي والمسيح. ويتحدّث الباحث عن مفهوم من ابتكاره في مقاربة المسيحيّة والتشيّع، إنه “البَدَليّة”. كيف رسمت المصادر الإمامية لوحة للسيّدة فاطمة بملامح مريميّة. وكيف قارنت بين مسيح الفداء وحسين الشهادة. وكيف وازنت بين العباس باب الحسين ويوحنا المعمدان سابق المسيح. وكيف تناولت الظاهرة التفاعلية بين دوريّ المهدي والمسيح في نهاية الأزمنة!
وفي كلّ هذه الأبحاث آلى الكاتب على نفسه العودة إلى المصادر الأساسية: الأناجيل وكتابات الآباء من ناحية، والكتب الأربعة، ونهج البلاغة، وسائر المصادر الشيعية من ناحية أخرى.
وهو لا يرى أي تضارب بين الحوار المسيحي-الإمامي الذي يدعو إليه ويُظهر الفوائد المرجوّة منه، والحوار المسيحي-الإسلامي عموماً. لا بل يؤكّد أنه من شأن الأول أن يدعم الثاني ويكون حجر زاوية له.
ولا يفرش المؤلف الدرب وروداً، بل ينظر نظرة واقعية، فيرى أنه دون الحوار الذي يدعو إليه عقبات جمّة ليس أقلّها ما في الفقه التقليدي الشيعي من نظرة دونية تمنع مثلاً أكل ذبائح الكتابيين، وطعامهم عموماً. ويتوسّع في عرض فتاوى مرجعيات معاصرة في طُهوريّة أهل الكتاب كالسادة محسن الحكيم، والسيستاني، وفضل الله (ص84-98).
ويتوقّف عند أحداث في التاريخ اللبناني هي في الحقيقة مفخرة لهذا الوطن الصغير. فقد نقل الرحّالة ابن جبير أخبار نصارى جبل لبنان ومعاملتهم المميّزة لأولياء الشيعة والمسلمين المنقطعين إلى العبادة (ص110). وجرجس مُشاقة بنى أول مسجد للشيعة في صور والجنوب. وقد حفظ شيعة الجنوب هذا الجميل فحموا المسيحيين في مذابح 1860 (ص111-115). وقائع يحسن تسليط الضوء عليها لتبيان أن تاريخ لبنان ليس سلسلة صراعات وحسب!
ويقدّم الكاتب دراسة، لعلّها الأولى في مجالها: “العبّاس باب الحسين وأخوه: قراءة أنتروبولوجية وصوفية في سيرته وكراماته” (ص147-210). فيدرس الروايات عن العبّاس ويقارنها بما في التقاليد الهندوسية والمسيحية عن شخصيات مشابهة. كالعلاقة بين العبّاس وأخته زينب، وبين لاكشمانا وسيتا الهندويَين. ويتوقّف خصوصاً عند ما يُنسب للعبّاس من كرامات ويحلّلها من زاوية سيكولوجية وعلمية، ويدعو إلى دراستها بتمعّن وحياد، فدلالاتها عديدة وبعيدة، ولا يصحّ الاكتفاء بالمقاربة التقليدية لها.
والخلاصة فلا بديل عن الحوار بين كلّ مكوّنات هذا البلد وأطيافه. وهذا الكتاب خطوة في الطريق الصحيح.