“شربل رفيقنا الصامت: حكاية قداسة لبنانية عنوانها الصمت” كتاب للبروفسور لويس صليبا، صدر عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في ط4، و370ص، وتجليد فني فاخر. وهو الخامس من سلسلة “الصمت في التصوّف والأديان” للمؤلف.
ومَن مِن اللبنانيين لا يعرف شربل؟! فهو شفيع للمسيحيين بقدر ما هو للمسلمين! وحول ضريحه يجتمعون، لا فرق بين نصرانيّ ومحمّدي إلا بالتقوى. بل هو نموذج للإنسان اللبناني/العالمي العابر للطوائف والأديان (ص212). لذا قال عنه بطل الاستقلال الرئيس رياض الصلح في جلسةٍ لمجلس الوزراء (ص213): “الأب شربل مخلوف ليس هو للموارنة فحسب، بل هو للبنان أجمع، ولجميع طوائف لبنان على اختلاف نزعاتهم ونِحلهم ومذاهبهم.”
يروي هذا الكتاب سيرة عبقريّ القداسة شربل، ويحكي عن بطولة فضائله، ولكن من زاوية معيّنة واحدة: صمته الذي دوّى في أربعة أرجاء المعمورة!
وهو لا ينفكّ يقارنه بقديسين وعظماء آخرين من لبنان، وعلى رأسهم جبران خليل جبران والطوباوي يعقوب الكبّوشي.
ما الذي يجمع شربل بجبران؟! قد يسأل سائل ويعجب.
كلاهما عبقريّان بشرّاويان شربا من مياه جرديّة مُصقّعة واحدة! وكلاهما
مضيا في مجالهما حتى آخر الطريق، ولم يقبلا بتاتاً أنصاف الحلول! وباختصار كلاهما متطرّفان: “أنا متطرّف لأن من يعتدل بإظهار الحقيقة يبيّن نصف الحقيقة، ويُبقي نصفها الآخر مخفيّاً وراء خوفه من ظنون الناس وتقوّلاتهم” يقول جبران. ومِثله كان شربل متطرّفاً في مجاله. متطرّفاً في عفّته، وهو الذي رفض أن يلتقي أي امرأة، حتى أمّه. وفي طاعته، وقد عُرف بـِ”عريس الطاعة”، فكان بين أيدي رؤسائه وإخوته الرهبان كالجثة بين أيدي غاسلها. وفي فقره وهو الذي رفض طيلة حياته حتى أن يمسّ العملة، أو ينظر إليها! نذوره الرهبانية الثلاثة يمكن اختصارها بكلمة الصمت: الطاعة هي صمتُ المشيئة الذاتية، والعفّة صمتُ الحواسّ والشهوات، والفقر صمتُ الرغبات. وقد عاش شربل فضيلة الصمت المتعدّدة الأبعاد هذه بجذرية وتطرّف حتى بلغ فيها حدّ الكمال. (ص74). وإن عجب المرء من سرّ خلود هذا القدّيس الذي لم يكتب كلمة واحدة في حياته، ولا تفوّه إلا ببضع كلمات. فلعلّ مفتاح هذا السرّ يكمن في قول جبران: “منبر الإنسانية قلبها الصامت، لا عقلها الثرثار.” (ص78).
وصل شربل بصمته إلى حال من الاتصال الدائم لا يعبَّر عنها الكلام، “كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة” يقول المتصوف النفّري. وكأن جبران كان يقصد مواطنه البشرّاوي بالذات عندما قال في النبيّ: “ومنكم من يمتلك الحقيقة بداخله، ولكنّه يأبى أن يعبّر عنها بالكلمات.” (ص117). وهل نحتاج إلى أكثر من هذا لنبيّن عمق القربى الروحيّة بين ابني منطقة بشرّي العبقريين شربل وجبران؟ يبقى أن تُروى مسيرة شربل في القداسة بكلمات من نصوص جبران!
ماذا الآن عن اللبنانيّ الآخر الطوباوي يعقوب الكبّوشي (1875-1954)، يقول المؤلف (ص28): في الحقيقة إن المقارنة بين هذين القدّيسَين اللبنانيَين مغرية ومجدية. وتساهم في فهم روحانيّة كلّ منهما تمايزاً وتشابهاً في آن. وهذا التمايز دليل تعدّدية ووحدة جوهر في آن في التصوّف المسيحي ولا سيما في المسيحية اللبنانية “.
ويروي الكتاب، في ملاحقه، العديد من أعاجيب شربل، ولا سيما تلك التي اجترحها مع نهاد الشامي، ويغوص في تحليلها ودلالاتها وسبر أغوارها. (ص261-277).
كما يدرس في ملحق آخر (ص251-260) تواريخ شربل، وقد وردت مغلوطة في معظم سيَره، ويصحّحها. ويجمع في ملحق ثالث (ص299-320) القصائد الزجلية التي أُنشدت في هذا القدّيس وقد نظمها كبار الشعراء أمثال السبعلي، وسابا، وزغيب والحبيس الخوند وغيرهم.
إنه باختصار موسوعة شربلية وحجر زاوية في عمارة التراث اللبناني.