زيارة تاريخية… ولكن!
قد لا يختلف اثنان على أن الزيارة التي قام بها قداسة البابا فرنسيس مؤخّراً إلى دولة الإمارات العربية هي بحدّ ذاتها حدث تاريخي واستثنائي مهم جدّاً، وكذلك الوثيقة التي وقّعها البابا وشيخ الأزهر جدّ مهمّة. ولكنّنا نحن في لبنان لا نستطيع أن ننظر إليها إلا من زاويتنا! لذا قلتُ لمن سألني أثناءها، وأكرّر، هذه الزيارة صفعة للبنان “خبطة على الرأس” طبقاً للتعبير اللبناني. فعندما نفكّر أن لبنان كان قبل الحرب 1975 هو عاصمة الشرق، وكانت كل الشركات تجعل مركزها الرئيسيّ في بيروت. هذا الدور أخذته الإمارات بنتيجة الحرب اللبنانية. واليوم حتى العاصمة الفكرية والحوارية لكل العالم العربي التي كانتها بيروت ها هي تهرب من أيدينا! سؤال كبير، فلنطرق أقلّه ونتأمّل ونتبصّر لماذا نرجع نحن في لبنان إلى الوراء؟! مثل بسيط جدّاً معبّر عمّا نقول: لبنان كان بوّابة الكنيسة إلى كلّ الشرق العربي، يوحنا بولس الثاني، بنديكتوس السادس عشر، والذين قبلهما ما من أحدٍ منهم وطئ أرض دولة عربية قبل أن يزور لبنان. لِمَ اليوم غضّ النظر عن لبنان؟!
وبكلمة تختصر وتكثّف أقول: أنا أنظر إلى نفسي في لبنان، فأرى أنّني أرجع إلى الوراء!
مَن المسؤول عن تراجع لبنان في استراتيجية الفاتيكان
الوثيقة التي وُقّعت، أقول وأكرّر، جيّدة جدّاً، ولكن موضوعي ليس هنا. وإنما ما أحبّ أن أطرحه على نفسي: لماذا بعد أن كان لبنان بالنسبة للبابا يوحنا بولس الثاني في كلمته الشهيرة: لبنان أكثر من وطن إنه رسالة. أين لبنان اليوم وأين موقعه بالنسبة للسياسة الفاتيكانية؟!
وهذا التراجع لا ألوم الفاتيكان عليه المُلام الأساسي هو كنيسة لبنان! لأنها هي من يرجع إلى الوراء، ولأنها هي ليست في خطّ البابا فرنسيس، البابا فرنسيس يعمل من أجل كنيسة الفقراء، أو طبقاً لتعبير سلفه وأستاذه ومعلّمه البابا القدّيس يوحنا الثالث والعشرين: “كنيسة كلّ الناس، وخصوصاً كنيسة الفقراء”.أما نحن في لبنان فكنيسة الأغنياء! ومثل معبّر عمّا نقول: البابا فرنسيس يركب سيّارة فيات ثمنها ألفي دولار، ومطران أبرشية عندنا، عندما يُعيّن ويرسمُ مطراناً يشتري سيّارة مرسيدس بـِ مئة ألف دولار: هذا مطرانٌ، وذاك رئيسه الأعلى البابا، فانظروا الفرق!!
أين نحن إذاً من تيّار البابا فرنسيس في الكنسية، ومن توجّهاته؟! البابا فرنسيس في هذه الخطوة أراد برأيي أن يبعث برسالة واضحة إلى الكنيسة في لبنان، وخصوصاً الكنيسة المارونية، أنه ليس راضٍ عنها! وأن أية زيارة له إلى لبنان ستكون دعماً وتثبيتاً لهؤلاء المسؤولين في حين أنه غير راضٍ عنهم، وغير راضٍ عن الطريق الذي يسيرون فيه. وهل ننسى هنا المشهد الذي أحببناه جميعاً في زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان: كان البابا يركب سيّارته الزجاجيّة المصفّحة ليحيّي الجماهير المحتشدة لاستقباله، وإلى جانبه في هذه السيّارة البطريرك الماروني نصرالله صفير! فالزيارة كانت يومها أولاً دعماً للكنيسة المارونية وللحضور المسيحي في لبنان والمشرق.
زيارة البابا وتفعيل الحوار
أما بالنسبة إلى الحوار المسيحي الإسلامي ومدى إسهام هذه الزيارة في تفعيله، فلكي نكون عمليين وواقعيين، مَن بادر إلى هذا الحوار في السابق واليوم هو الكنيسة الكاثوليكية. الكنيسة الكاثوليكية هي رائدة الحوار ليس الحوار المسيحي الإسلامي وحسب، وإنما الحوار مع كلّ الأديان. البابا يوحنا الثالث والعشرون مع المجمع الفاتيكاني الثاني وقبل أن يبدأ هذا المجمع، كانت الخطوة الأساسية التي قام بها أنه نقل الكنيسة الكاثوليكية من خطّ الدفاع عن تاريخها وتبريره والتي بقيت عليه مئات السنين، إلى خطّ الإقرار بالأخطاء والاعتراف بالآخر. وكانت في الحقيقة خطوة جبّارة أن تعترف الكنيسة حيث أخطأت وتستغفر أحياناً، خطّ بدأه يوحنا الثالث والعشرون، وسار عليه من أتوا بعده، وأوصله إلى الذروة يوحنا بولس الثاني.
أجل، ولنقلها بجرأة وصراحة: الحوار المسيحي الإسلامي يراوح مكانه. ويقول د. أحميدة النيفر أحد كبار المحاورين المسلمين في أسباب ذلك: “لأن الطرف الآخر الأكثر حاجة إلى الحوار [أي الطرف المسلم] كان الطرف الأكثر زهداً فيه، والأقلّ اهتماماً واكتراثاً به”. أما بعد الزيارة التاريخيّة هذه فنحن اليوم نجد، وبعد مضي أكثر من نصف قرن، أن ثمة المزيد من الاهتمام، وعساه خير، إذ لا نستطيع أن نقول أكثر من ذلك!
المطلوب قبول الآخر وليس التسامح وحسب
الحوار يراوح مكانه، أجل لأن الحوار يتطلّب أموراً عديدة: قبول الآخر، فأنت لا تحاور الآخر كي تبشّره، وتُقنعه أنك أنت الصحّ وهو الغلط! عليك أن تقبله كما هو. فإلى أي حدّ نحن نقبل الآخر؟!
لا نزال إلى اليوم نقول ونردّد وندعو إلى التسامح! ولكن ما هو التسامح؟
يعني أنّني مخطئ وأنت تسامحني على خطئيتي هذه!
فما المطلوب إذا؟ نحن علينا لا أن ننشر ثقافة التسامح، وإنما ثقافة الحوار وأساسها قبول الآخر كما هو، لا تبشيره، ولا تخطئته. وإنما محاولة فهمه كما هو. سماع كلمته ومعرفة طريقته في التفكير كما يفكّر هو، لا كما نُسقط أفكارنا وأحكامنا المسبقة عليه!
والعبارة التي استوقفتني، هي التي قالها قداسة البابا فرنسيس خلال زيارته: “ينبغي منح سكّان المنطقة، ويقصد في ذلك الشرق الأوسط من مختلف الديانات حقّ المواطنة كاملاً”، وهو أمر لم يحصل حتى اليوم!
وهنا أسارع إلى التعقيب أن هذا لا يعني أن الإسلام ينكر حقّ المواطنة، أو هو ضدّها. فإذا عدنا إلى وثيقة المدينة التي وقّعها الرسول، ص، مع يهود المدينة أي يثرب مباشرة بعد الهجرة النبويّة، ففيها حقوق مواطنة وكأنّنا نقرأ وثيقة حقوق إنسان بالمعنى الحديث. فالتفسير وشرح النصّ هو الذي يحتاج إلى ما نسمّيه “التأوين”. أي جعل النصّ ومعناه آنيّاً. فإذاً بقينا على طريقتنا القديمة في مقاربة النصوص وشرحها وتفسيرها فسيبقى الحوار بالتأكيد يراوح مكانه! ومن هنا فحقوق المواطنة ما هي؟ وماذا تعني؟
تعني دولة علمانية، وتعني الفصل بين الدين والدولة.وتعني أن علينا أن نقطع هذا الجسر الذي قطعته أوروبا بعد القرون الوسطى، وهو فصل الدين عن الدولة. فما من حلّ سوى ذلك. ولكن هل نحن معدّين ومهيأين لذلك؟! هنا يكمن السؤال الكبير!
وفي الخلاصة نقول إن زيارة البابا خطوة مهمّة جدّاً، ولكن علينا نحن اللبنانيين أن نأخذ عِبَراً منها، ولنكفّ عن التباهي بأنفسنا والاعتقاد أن العالم بأسره بحاجة إلينا! أو أن العالم لا يستطيع أن يستغني عنّا. فها هو العالم يستغني أكثر فأكثر عنّا لأنّنا لا نحبّ أنفسنا، ولا نعمل ما يجب علينا فعله.
أمامنا ورشة كبرى! فخامة الرئيس عون في أيلول 2017 في كلمته في الجمعية العامّة للأمم المتّحدة طرح مبادرة تقضي بأن يكون لبنان أرض حوار الحضارات والديانات. ولكن لم تلقَ هذه المبادرة، حتى يومنا هذا، ما تستحقّ من اهتمام، وفي النهاية ها هي هذه المبادرة تُسرق منّا، وتذهب إلى مكانٍ آخر! وعسانا اليوم نسترجع شيئاً من هذا الدور!