دراسة الإسلام من الداخل: يمكن مشاهدة هذه الشهادة على الروابط التالية:
د. لويس صليبا
دراسة الإسلام من الداخل: قصّة تجربة
قد لا تضيف شهادتي هذه وحكايتي مع الإسلام شيئاً استثنائياً، أو حتى جديداً على دراساتي الإسلامية، ولكنني أرويها لأسباب عديدة، أبرزها اثنان:
1-نزولاً عند طلب، أو بالحري إلحاح الكثيرين من الأصدقاء والقرّاء. والناس غالباً ما تهتمّ بسيرة الكاتب والمفكِّر، أكثر من اهتمامها بكتاباته أو بفكره.
2- من شأن قصّتي هذه أن تكون نموذجاً حيّاً عمّا أسمّيه دراسة الدين من الداخل الذي أتحدّث دوماً عنه، وأدعو إليه. وغالباً ما أُسأل وأُطالب بأمثلة عنه.
ولدتُ وعشتُ طفولتي وصباي في مدينة ضمّت وتضمّ بين أهلها مختلف أطياف النسيج اللبناني وطوائفه. لذا أسميتها في عدد من أبحاثي: «جبيل مدينة السلم الأهلي والتنوّع الثقافي-الديني. »( ) وممّا لا ريب فيه أن هذه المدينة الحبيبة أتاحت لي، ومنذ الصغر، فرصة الانفتاح على الآخر المختلف. بل وأثارت فيّ الحشرية لمعرفة إلى ماذا يعود هذا الاختلاف، وكيف يعيش هذا الآخر المختلف طقوسه وعقيدته وإيمانه.
ودرست في المرحلتين الابتدائية والتكميلية في مدرسة الفرير أو الإخوة المريميين-جبيل وعمشيت. وكنّا في كلّ الصفوف التي تدرّجتُ فيها أكثرية من الطلاّب المسيحيين، وأقلّية من المسلمين. وهذه الأقلّية تشاركنا في كلّ الدروس والنشاطات الفنية والرياضية ما عدا في اثنين: درس التعليم المسيحي، إذ كان التلامذة المسلمون يخرجون من الصف فيه ويلعبون في الملعب. والأمر عينه يتكرّر في الحصّة المخصّصة للقداس. هذا المشهد الذي يعاد كلّ أسبوع حفر عميقاً في الوجدان كما رويت في كتاب لي( ) وكنت أتساءل في قرارة نفسي: ما سرّ هذا الاختلاف؟! وأمنّي النفس هذه بجواب واضح عن هذا التساؤل البديهيّ. وحمَلت لي قراءاتي الأولى في الأديان وتاريخها، وكذلك دروس الأدب العربي والتاريخ في مختلف الصفوف عناصر إجابة أولية عن إشكاليتي هذه. ولكنها ما كانت لتُشبع نهمي، بل على العكس، كانت تحفزني لمزيد من البحث والاستقصاء عن هذا الآخر المختلف. وفي الصفوف التكميلية قرأت روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان كلّها وتبلغ 22 رواية. وكان عمّي الخوري فرنسيس صليبا أديباً وكاهناً منفتحاً وعارفاً بالإسلام، ومديراً للدروس العربية في مدرسة إخوة المدارس المسيحية/فرن الشبّاك-بيروت( ). فاشترى لي تفسير الجلالين ونهج البلاغة المنسوب للإمام علي كما رويت في بحث سابق لي( ).وكان يواكب قراءاتي ويجيب عن أسئلتي، ويصطحبني إلى عدد من المساجد والأماكن الأثرية الإسلامية. وأذكر منها زيارة للجامع الأموي في دمشق تركت في نفسي أثراً طيباً عن هذا الدين وهذه الحضارة والثقافة التي أطرح بشأنها العديد من الأسئلة.
وكنت في الصفّ الثاني الثانوي عندما وقعت العام 1979 على كتاب “قسّ ونبي” بحث في نشأة الإسلام. وكان قد صدر لتوّه، فالتهمته في يومين. وكان من شأنه أن يزيد فيّ التساؤل كما رويت في دراسة لي.( )
وهذه الأحداث والدروس والقراءات لم تتح في الحقيقة لي سوى معرفة نظرية وكُتبية للإسلام. وما كانت لتروي الغليل.
ودار الزمن دورته لأصل إلى السنة الجامعية الأولى(1980-1981). نجحتُ في مباراة الدخول إلى كلّية الطبّ في الجامعة اليسوعية-بيروت، وذلك على غير رغبة حقيقية مني بدراسة الطبّ. فدخلتها نزولاً عند إلحاح الأهل. كانت هذه الكلّية، أو الطبّية كما يعرفها العامّة، على خطوط التماس، وفي الجانب الشرقي من طريق الشام التي شطرت العاصمة بيروت شطرين: الشرقية أو القسم المسيحي، والغربية أو الشطر المسلم. ولعلّ الطبّية كانت يومها الصرح الجامعي الوحيد الذي يضمّ طلاّباً من الشطرين الغربي والشرقي،يساعدها موقعها على ذلك. في حين أن الجامعة اللبنانية كانت قد انقسمت إلى جامعتين، وتشرذمت سائر الجامعات. كان الطلاّب المسلمون في السنة الجامعية الأولى/طبّ لا يقلّون عن عشرة، ويجيئون من الشطر الغربيّ من العاصمة. وكانوا أقلّية مقارنة بالطلاّب المسيحيين الذين يتجاوز عددهم الأربعين. وكانوا يتحلّقون حول واحد منهم: طالب مميّز من طرابلس اسمه رامي ضرغام. وكان يعرف القرآنن أو أكثره، عن ظهر قلب، ويحفظ الكثير من الأحاديث النبوية، ويلمّ بالكثير من تفاصيل أحكام الفقه والشريعة. قرأ أكثر مؤلفات سيد قطب، ولا سيما تفسيره في ظلال القرآن. وإلى كلّ ذلك كان ذا شخصية محبَّبة ودودة، يهوى الحوار، ولا يتعب من الإجابة عن الأسئلة، لا سيما ما يتعلّق منها بإيمانه وقناعاته الدينية. كلّ هذه الصفات جعلتني أنجذب إليه، فكنت واحداً ممّن يتحلّقون حوله. وكان هو شيخي الأول. مع رامي ضرغام عرفت وجهاً من الإسلام طالما بحثت عنه. الإسلام كما يعيشه مؤمنوه ويحبّونه ويحكون عنه ويدافعون. علّمني هذا الشاب الودود الوضوء والصلاة، وكم كنت أفرح عندما كنت وسائر الطلاّب المسلمين نذهب معه لأداء صلاة الجمعة في واحد من الجوامع القريبة من الطبّية.
وكان برنامج الدروس والمحاضرات في الكلّية غير منظّم، وفيه الكثير من الفجوات. درسٌ مثلاً من الساعة الثامنة حتى العاشرة صباحاً، يليه وقت فراغ حتى الظهر. وأوقات الفراغ الكثيرة هذه غالباً ما كنت أقضيها مع رامي.أطرحُ عليه الأسئلة النظرية منها والعملية: كيف يعيش إيمانه مثلاً، أسئلة عن أحكام الوضوء والصلاة التي كنا نؤدّيها معاً، أسئلة عن القرآن وسيرة الرسول،صلعم، إلى ما هنالك ممّا كان يخطر لي، أو تثيره قراءاتي، أو سبق لها أن أثارته. وكان يجيب برحابة صدر وطول أناة. ويُظهر في إجاباته معرفة معمّقة، وانفتاحاً على الآخر المختلف. وكثيراً ما كنت أخالفه الرأي، فندخل في نقاشات طويلة وعسيرة يسعفه فيها أصدقاؤه الطلاب المسلمون روّاد حلقته، في حين أبقى وحيداً في ساحة الجدل والنقاش، فما من أحد ممّن يشاطرني الرأي يهتمّ في الدخول في نقاشات مماثلة. وما كان الخلاف في الرأي بيني وبين صديقي وشيخي رامي يفسد في الودّ قضية بيننا.
ومن الطلاّب المسلمين الآخرين الذين كان لهم شأن في حياتي عبد الناصر العاكوم. وكان من المتفوّقين والودودين في آن. لكن لم يكن له اهتمام بالمسائل الدينية. أسأله عن الإسلام فيغنّي لي خوليو اغليسياس بصوته الشجيّ. أدعوه ليذهب معنا إلى صلاة الجمعة فلا يجيب. حتى إنني تعبت من دعوته وأقلعت عن ذلك. واكتفيت بالإصغاء الى نوادره وأغانيه عندما نلتقي في أوقات الفراغ. وهذا الصديق الودود عاد ليدعوني لاحقاً إلى الإسلام، عندما التقيته صدفة في باريس(نحو سنة 1995). فسبحان مغيّر الأحوال.
لم أكمل دراسة الطبّ، إذ لم أشعر أن هذا ما أريد وأبحث عنه. فتركت الطبّية قبل نهاية عامي الجامعيّ الأول بقليل. وفرّقت بيني وبين شيخي رامي ضرغام الظروف والأيام. وما عدت التقيته مذّاك، وحتى يومي هذا، سوى مرّة واحدة. ولا أزال إلى اليوم أحتفظ بذكرى طيّبة عطرة عنه، وأدعو له بالخير. فقد تعلّمت منه ما كان أكثر أهمّية في حياتي وفائدة ممّا تعلّمته في كلّية الطبّ. ومن علّمني حرفاً كنت له عبداً يقول المثل العربيّ القديم. وبمغادرتي الطبّية انقضت الحقبة الأولى ممّا أسمّيه دراسة الإسلام من الداخل.فقد كانت خير تمهيد لها، وأتاحت لي أوّل فرصة اتّصال جدّي وتفاعل مع هذا الدين وهذه الثقافة التي أحببت واخترتُ مجالاً لتخصّصي.
وكنت في سنتي الجامعية الأولى قد تسجّلت في الجامعة اللبنانية-كلية الآداب الفرع الثاني/قسم اللغة العربية وآدابها.وذلك بالتوازي والتزامن مع دراسة الطب. فلمّا تركت هذه الأخيرة تابعت الدراسة في الأولى، فأتاحت لي معرفة جيدة في الثقافة الإسلامية. ولكنها بقيت مقصورة على الجانب النظري.
ودار الزمن دورة أخرى أَنساني فيها مشروعي في دراسة الإسلام من الداخل الذي ظهرت براعمه الأولى في كلّية الطبّ. فقد كنت غائصاً في متابعة تحصيلي الجامعي في مجالات ثلاث في آن واحد:
1-اللغة العربية وآدابها.في كلية الآداب/ الجامعة اللبنانية- الفرع الأول/ الأونيسكو. وذلك بعد أن نقلت تسجيلي من الفرع الثاني(الفنار في المنطقة الشرقية/المسيحية)، إثر نجاحي في نهاية السنة الأولى. لأني رغبت أن أدرس الإسلام على مسلمين. وأسمع مشايخ أمثال العلاّمة الشيخ صبحي الصالح يحدّثونني عن النظم الإسلامية والفقه. وكان هذا الأخير من أبرز أساتذتي في الفرع الأول. وخياري هذا عرّضني لمخاطر عديدة، في زمن كان الوطن فيه مشلّعاً بين منطقتين مسيحية وإسلامية. والمنتقل من الأولى إلى الثانية لا بدّ له أن يتعرّض إلى مخاطر الخطف، بل والوقوع الحتمي فيه على الحواجز التي تخطف على الهوية، كما رويت في مقدّمة كتابي السُنّة والشيعة.( )
2- العلوم الاجتماعية في معهد العلوم الاجتماعية/الجامعة اللبنانية-الفرع الثاني /الرابية.
3-التوثيق والإعلام في كلية الإعلام/الجامعة اللبنانية- الفرع الثاني/الفنار.
وبديهي أن لا تتيح لي متابعة كلّ هذه الدروس في آن التفكير بمشاريع أخرى. وفي العام 1985 كنت قد تعلّمت اليوغا والتأمل كما رويت في كتاب سابق.( ) وكنت قد حصلت على إجازتين الأولى في اللغة العربية، والثانية في العلوم الاجتماعية، وعلى وشك إنهاء الدراسة الجامعية للحصول على إجازة في التوثيق والإعلام. وكنت يومها في حيرة وأتساءل في أي مجال من هذه الثلاثة أكمل دراساتي الجامعية العليا. وفي يوم من أيام هذه السنة وخلال ممارسة التأمل الذي تعلّمته في اليوغا رأيت رؤيا أدهشتني. رأيت نفسي شيخاً صوفياً على محرابه يصلّي في زاوية صوفيّة. لم يكن وجه هذا الشيخ وجهي، ولا جسمه جسمي، ولا كان يشبهني حتى في الشكل. ورغم كلّ ذلك، فقد كنت على يقين أثناء هذه الرؤيا وبعدها أني هذا الشيخ بلا ريب. وقد شرحَتْ هذه الرؤيا صدري، وأشعرتني بكثير من الغبطة أثناءها وبعدها. ولكنّني لم أفهم سرّها ومغزاها. فهل هذا الشيخ الصوفي الورع هو أنا. وإذا كان الجواب إيجاباً فلمَ نختلف وجهاً وجسماً وشكلاً؟! أي وبكلمة لمَ هو أنا وليس أنا؟!
لم أخبر أحداً بما رأيت، ومن عساه أن يفهم هذه الرؤيا/اللغز؟! وكانت تعليمات اليوغا تركّز على أن نحّدث عن اختباراتنا أثناء التأمل.ولكنّني ذهبت إلى معلّمي المرجع في الدراسات الڤيدية وأستاذ اليوغا والتأمل والعلوم السنسيكريتية روبير كفوري( ). وكانت لي جلسة طويلة معه، أخبرته فيها بما رأيت، وطلبت منه تفسيراً له. ولن أدخل في تفاصيل ما شرحه لي، لا سيما وأن أكثره يتعلّق بحياتي الخاصّة. ولكنني بكلمة موجزة أقول: فهمت ممّا قاله لي شيئاً مهمّاً عن سرّ علاقتي الغامضة وما كنت أسمّيه يومها انجذابي للإسلام، وقرّرت أن أمضي في دراسته والتعرّف إليه من الداخل وعيشه.
ولم تكن الخيارات المتاحة أمامي يومها عديدة. فالوطن مقسّم، وليس لي سوى مدينتي جبيل وجامعها للتعرّف إلى الإسلام من الداخل. فبدأت أتردّد على مسجد جبيل ولا سيما أيام الجمعة للصلاة. وتعلّمت من جديد أحكام الصلاة والوضوء من إمام المسجد الشيخ غسّان اللقيس.وكنت أتردّد على هذا الجامع أيام صوم رمضان، وأعيش أجواء هذا الشهر الفضيل صائماً مع الصائمين، ومصلّياً التراويح مع المصلّين. وكانت أعداد المصلّين أيام الجمعة لا تتجاوز غالباً أصابع اليدين. فالوطن في حرب أهلية، وجبيل من صُلب المنطقة المسيحية، وإن كانت على شيء من الانفتاح والتعدّدية التي لم تعرفها سائر المناطق والمدن. ويبدو أن زياراتي الدورية والمتكرّرة لمسجد جبيل أثارت انتباه قوى الأمر الواقع والميليشيات المسيطرة، فأسمعني عدد من المقرّبين منها ملاحظات وتساؤلات جعلتني أقلع عن المواظبة على الجُمعات في جامع جبيل، وانتظر فرصة أخرى تتيح لي أن أعيش هذا الاختبار الداخلي بعيداً عن أي حسيب أو رقيب. وما كانت هذه الفرصة لتتوفّر وتتيسّر في ظروف الحرب الضروس السائدة في لبنان يومها. لا سيما وأن الإقامة في المنطقة الغربية/الإسلامية دونها محاذير ليس أقلّها الخطف على الحواجز الطائفية، كما أشرت إلى ذلك في كتابي السُنة والشيعة الآنف الذكر.( ) فكان عليّ باختصار أن انتظر حتى أغادر هذا البلد.
ومرّت سنوات انصرفت فيها للعمل وصرفت النظر مؤقتاً عن متابعة الدراسة الجامعية العليا. وكان بعدها أن سافرت في أواخر العام 1991 الى باريس، وأقمت هناك للعمل وكذلك للدراسة. وعندما تسجّلت في جامعة السوربون4 لم أتردّد لحظة في استئناف مشروعي القديم: التخصّص في الدراسات الإسلامية. ولكن أين أتعرّف إلى الإسلام من الداخل، كما كنت دوماً أخطّط وأحلم؟ كانت ظروف العمل في باريس تستدعي أن أسافر إلى القاهرة أقلّه مرة أو مرتين في السنة.وكانت مدةّ كل سفرة لا تقلّ عن شهر، وتمتدّ أحياناً إلى شهرين أو أكثر. فبدا لي الحلّ بسيطاً ومؤاتياً في آن: أتابع دراساتي النظرية والأكاديمية في السوربون، وأستفيد من سفراتي إلى القاهرة وإقامتي فيها للتعرّف إلى الإسلام من الداخل وعيشه. وهكذا كان.
ولو شئت أن اتحدّث عن دراستي الأكاديمية للإسلام لطال الحديث وتشعّب. فقد امتدّت إلى نحو اثني عشر عاماً هي مدّة إقامتي الأولى في باريس. وشملت مرحلة ما قبل إعداد أطروحة الدكتوراه، وخلال هذا الإعداد، وما بعده. فقد كنت دوماً أحرص على الإفادة من إقامتي في باريس لحضور دروس ومحاضرات المستشرقيرن وسائر علماء الإسلاميات. ولم أقصّر في هذا المجال، فتتلمذت على دانيال ريغ Daniel Reig، وجان باتريك غيّوم، وجمال الدين بن شيخ، ومحمد علي أمير معزّي،ومحمد أركون، ودانيال جيماري Gimaret، وغي مونوMonnot، وميشال شودكيڤيتس وغيرهم كثر ممّن لا تحضرني الآن أسماؤهم. ويبقى أن أبرز من أثّر فيّ، من أشرف على أطروحتي للدكتوراه أي المستشرق بيير لوري Pierre Lory، أحببت فيه الباحث والإنسان في آن. وأعجبتني مقاربته للإسلام التي تجمع الودّ إلى المنهجية الأكاديمية. وجمعني ب لوري حبّه للتصوّف الإسلامي ولا سيما أبي يزيد البسطامي. وقد تحدّثت عن هذا المستشرق الحبيب الودود في عدد من مؤلفاتي لا سيما في ترجمتي لأحد أعماله( ). فلا ضرورة للتكرار.
وأبرز ما أكبرته في هؤلاء المستشرقين جدّيتهم في البحث. وأذكر هنا، وعلى سبيل المثل، ما قاله لنا ميشال شودكيڤيتس في آخر محاضرة له قبل أن يحال إلى التقاعد: « منذ أربعين سنة وأنا أدرس ابن عربي وأبحث في مؤلفاته، ولا أزال في أول الطريق.» هذه الجدّية والرصانة حاولت دوماً أن أتكسّبها من هؤلاء المستشرقين والباحثين وأجسّدها في مؤلفاتي، وعساني أكون قد أفلحت. أما ما يقال ويكرَّر عن تحامل المستشرقين على الإسلام، فلم ألمح له أثراً، أقلّه فيمن عرفت منهم وتتلمذت عليه.
وأكتفي بهذا القدر عن أساتذتي المستشرقين. فأكثرهم تحدّثت عنه مرة أو أكثر في مؤلفاتي، ما يعفيني من أن أكرّر هنا ما سبق وقلت.
وأكثر ما أحببت في الإسلام درساً وعيشاً في آن التصوّف. ولا عجب في ذلك، فقد أتيته من خلفية اليوغا أي التصوّف الهندي، فكان من الطبيعي أن يكون التصوّف أوّل ما أثار اهتمامي. ولكنّني لم أقتصر عليه، فتعمّقت في الدراسات القرآنية وفي السيرة النبوية والفقه. القرآن قرأته بداية في الفرنسية، وتعرّفت إلى كل ترجماته المتوفّرة. واستحسنت منها ترجمة المستشرقة دانيالّ ماسون Masson. وسرعان ما ضحكت من نفسي، فالترجمة، أية ترجمة، لا تعدو كونها مجرّد تفسير معيّن لهذا النصّ المهمّ، أو هي كما يقول المسلمون ترجمة لمعاني القرآن لا للقرآن نفسه. لذا شرعت أقرأه بالعربية، وأحفظ ما أحتاج لأداء الصلاة. وفي الدراسات القرآنية والسيرة قرأت أعمال ريجيس بلاشيرRégis Blachere . وتعمّقت في تراث لويس ماسينيون Massignon إذ أعجبتني مقاربته الودودة للإسلام. وقرأت لأكثر المستشرقين المنتمين إلى مدرسته، ولا سيما روجيه أرنالديز Arnaldez وغارديه Gardet.
ويبقى أن غرضي الأساسي من هذه الشهادة هو أن أعرض لدراستي للإسلام من الداخل وعيشي له واحداً من أبنائه، وهو ما أتيح لي وتيسّر في القاهرة وليس في باريس.
في مصر عشت الإسلام بين الأزهر والحسين. صرحان عريقان تفصل بينهما طريق، ونجتاز المسافة في نفق تحت الطريق. في الأزهر كنت أتابع بعض الدروس، وما كانت لتزيد على معرفتي الشيء الكثير، سوى أنها مأخوذة عن مشايخ الأزهر، وممهورة بطابعهم وذهنيتهم، ممّا يتيح لي معرفة طريقتهم في التفكير، ونهجهم في مقاربة الدراسات الإسلامية. ولكن الأثر الحاسم يبقى ما عشته وخبرته في الحسين. والحسين هو تحديداً مقام رأس سيدنا الحسين : جامع فسيح الأرجاء في وسطه مقام الرأس المقدّس. وفي هذا الصرح عشتُ أحلى ذكرياتي وتجاربي في دراسة الإسلام من الداخل. تحيط بالمسجد ساحة واسعة تتوزّع فيها المكتبات الإسلامية ومراكز الطرق الصوفية المنتشرة والفاعلة في مصر. وخلفه خان الخليلي أشهر شارع سياحي-شعبي في القاهرة. في الحسين تحلو الصلوات وغالباً ما يتيسّر لي أن أؤدّيها جماعة. ويحلو الطواف حول مقام الرأس المقدّس. فكلّ جماعة تؤمّ الحسين لا بدّ لها من أن تطوف به. وطقوس الطواف هذه مؤثرة، بسيطة، وخشوعية في آن. فلم أكن أدعها تفوتني. أما الأوقات التي تفصل بين صلاة وأخرى، أو بين طواف وآخر، فكنت أقضيها غالباً جالساً مستقبلاً القبلة وقارئاً للقرآن. والجوّ الخشوعي السائد كان يجعل من مجرّد القراءة هذه صلاة. ثمة سور قرأتها مراراً وتكراراً ولا أزال، وأوّلها سورة مريم، وهي الأحبّ إلى قلبي. تليها قصار السور، ففيها الكثير من الشاعرية والجرس الموسيقي الرنّان، وتحلو قراءتها في الصلوات. ويبقى أن أحلى ذكرى عن الحسين قضاء نهارات رمضان فيه. ليل القاهرة في رمضان نهار، ونهارها ليل. يصحو الصائمون متأخرين جداً، ويكادون لا ينامون ليلاً. أذهب إلى الحسين نحو الظهر، أصلّي مع المصلّين، وأطوف مع الطائفين. وأجلس للتجهّد وقراءة القرآن. وعند آذان الفطار أصلّي وأخرج لأفطر في أحد مطاعم خان الخليلي. ولذّتي الكبرى أن أفطر على الكشري بعد صيام النهار. أخرج من الحسين عند الفطار لأجد القاهرة تتلألأ بالأنوار وكأن ليلها انقلب نهاراً، وهي إلى ذلك تعجّ بموائد الرحمن، والناس يدعونك لتفطر معهم مجّاناً، ففي إفطار الصائم في عرفهم ثواب وأجر ما بعده أجر. روح التضامن الرمضانية والإحساس بالمساواة بين فقير وغنيّ وسيّد وأجير كم يحلو للمرء أن يشعر بها ويعيشها. وبعد الفطار أعود إلى الحسين للمشاركة في صلاة التراويح. في البداية كنت أشعر وكأنني سأسقط أرضاً من فرط الإعياء من كثرة الركوع والسجود في التراويح. ولا شكّ أن هذه الصلاة الكثيرة الركوع والسجود رياضة مثالية للفكر والجسم معاً. وبعد التراويح ما أحلى السياحة في ليل القاهرة الرمضاني. فليلها نهار، كما أسلفت، وهي لا تنام حتى السحور. وهكذا عشت مع مسلمي مصر واحداً منهم نفرح معاً ، وكذا نصلّي ونطوف ونفطر معاً أبناء عائلة واحدة. والخلق كلّهم عيال الله، يقول الحديث الشريف، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله.( )
ما أحببته في الإسلام
أكثر ما أحببته في الإسلام الصلاة. هذا الاتحاد أو الزواج بين الفكر والجسد. Ce marriage entre corps et esprit. فالجسد يعبّر عما يجتاح الفكر من خضوع وتسليم وخشوع. والجسم يواكب الفكر والروح. هذا الانسجام بين الفكر والجسد تعلّمه اليوغا وتشدّد عليه، أمّا في المسيحية فهو مغيّب. ولا أزال إلى اليوم أصلّي هذه الصلاة. وأحلى ذكرياتي واختباراتي فيها كانت في الهند. أقمت مدّة في أشرم(صومعة) شاندرا سوامي على ضفاف نهر اليمونا المقدّس( ). كنت أنزل صباحاً فأتوضأ في مياه النهر. وأفرش شالي على الحصى. وأكبّر وأُأَذّن. فتعيد الوديان رجع الصدى. فأشعر في الترجيع هذا وكأن الله يستجيب للنداء، وهو من يرجّع الصدى. فأغوص في الركوع والسجود، وأعيده مثنى وثلاث ورباع، وأغرق في بحر من الخشوع الصوفي الذي أتمنّى أن لا أخرج منه، وأن لا أعرف له نهاية. إنه اختبار توحّد يصعب ترجمته بالكلمات. واختبار التوحّد والاتحاد هذا عشته كذلك في مسجد دلهي الكبير. ولعلّ ما في ذاك المسجد من فقر وبساطة جعلاني أدخل بعفوية، ومن دون أي وسيط، في هذه الحال. باحةُ المسجد الداخلية غير مسقوفة. وما أن دخلتها حتى شعرت بنسمات سماوية فردوسية. فصلّيت مع المصلّين، وكنت وكأنني أسجد وأركع أمام عرش الرحمن. وجلستُ بعدها لأقرأ القرآن. فكنت وكأنني أسمع الكلمات يتلوها جبريل، ويعيدها على مسمعي. فسبحان الله، والشكر لله العليّ العظيم على ألآئه هذه ونعمه.
ولحظة أخرى من العمر لا تنتسى في مقام (دارغا:Darga) نظام الدين في دلهي. بعد الصلاة ركعت عند الضريح وأدخلت رأسي تحت غطائه، وشممت رائحة الورود، فأحسست أن عطرها أريجٌ من الجنّة.
ومن أبرز من أحببت من رجالات الإسلام وشخصياته: أبو يزيد البسطامي. ورغم ما كتبت له من أناشيد( ) وعنه من دراسات( ) ، فلا أزال جدّ مقصّر. كان حلمي أن أزور مسجده ومحرابه في بسطام. وأتيح لي أن أُحقّق حلمي هذا عند زيارتي لإيران في أيار 2009. فبعد الحجّ إلى مشهد( ) زرت بسطام في طريق العودة إلى طهران، وأقمت فيها يومين. وأتيحت لي الخلوة في محراب أبي يزيد. والمحراب هذا غرفة مربّعة لا يتجاوز طولها المتر تقريباً. وما أن دخلتها وأُقفل الباب عليّ، حتى انهمرت الدموع غزيرة من عينيّ. وبدأت أحداث حياتي تتوالى في صور وكأنني أشاهد شريطاً سينمائياً. صلّيت في محراب أبي يزيد، ثمّ جلست أمارس التأمل، فلمعت في الفكر رؤيا الشيخ الصوفي مصلّيا على محرابه، وخالجني شعور عميق أنها ليست أول مرّة أصلّي فيها في هذا المحراب. لم أشعر بالوقت يمضي، ولم أعرف كم انقضى منه، ولكنني تمنّيت لو أن جلستي هذه تمتدّ سحابة العمر.
وممّا أزعجني في تجربتي في عيش الإسلام الرغبة، الظاهرة أو الخفية، ولكن الدائمة عند معارفي من المسلمين، في أن أسلم وأدخل في هذا الدين. أذكر على سبيل المثال هنا الشيخ الأزهري الذي كنتُ أحضرُ دروسه، فهو لم يكن يوفّر أية مناسبة يمكنه فيها أن يدعوني فيها إلى الإسلام، حتى إنني مرّة، ولرفع الحرج، بادرته قائلاً: هب أنني لبّيت دعوتك ودخلت في الإسلام، ثمّ شئت، في يوم ما، ولسبب أو لآخر أن أخرج منه، فهل يتاح ذلك لي؟ وكيف؟ فأجاب: هوَّ دخول الحمّام زيّ خروجه؟ وكان يشير بهذا المثل المصري المعروف إلى حدّ الرِدّة. وإذ كنت أتوقّع سلفاً جواباً من هذا النوع قلتُ: خيرٌ لي إذاً أن أبقى على ما أنا. ومذّاك امتنع عن تكرار دعوته. وعندما زرت إيران للمرّة الأولى كان وفد من المشايخ وطلاّب الجامعة التي درّست فيها يزورني كلّ ليلة ليدعوني إلى الإسلام، وكنت محرجاً، وصدف في زيارتهم الأخيرة أن جاءني أستاذ صديق، فأفهمهم بلباقة أن لا يكرّروا هذه المحاولة. وبعض الداعين كان يرغب في أن يوظّف ذلك إعلامياً. أذكرُ أنه خلال زيارتي الأولى لكربلاء صلّيت جماعة مع المشاركين في المؤتمر الذي حاضرتُ فيه. فعمد بعضهم إلى تصويري مصلّياً، وأنزل الصور العديدة هذه على صفحته على الفيس بوك. أزعجني جدّاً هذا العمل، وطلبت منه سحبها فوراً، ففعل. ومن يومها امتنعت عن تأدية الصلاة جماعة وعلناً.
وممّا أزعجني أيضاً أن البعض يريد أن يدخلك في الانقسام السنّي-الشيعي رغماً عنك، ويلحّ على ذلك. فللشيعة مثلاً طريقتهم في الوضوء والأذان والصلاة التي تختلف شكلاً وتفاصيلاً عن طريقة أهل السنّة. وقد تعلّمت ومنذ البدء هذه الأخيرة، وألفتها. والعلم في الصغر كالنقش في الحجر، يقول المثل. ولكن الشيعي عموماً لا يستسيغ أن تصلّي معه على طريقة أهل السنّة، فيُدخلك في نقاش لا نهاية له، ليفهمك أن طريقته هي الصحيحة. وكنتُ أرى أن ما زاده التشيّع في الأذان والشهادتين والصلاة(السجدة) مجرّد بدَع، فتجنّبت اعتمادها، وذلك رغم إلحاح أصدقائي الشيعة عليّ في ذلك. وأذكر هنا ما حدث في زيارتي لمقام أبي يزيد في بسطام/إيران. فالمقام والمسجد التابع له لأهل السنّة، ويحيط به مقام لأحد أبناء الإمام جعفر الصادق. ولم أنتبه بداية لهذا الأمر وحراجة الموقف. فبعد دخولي محراب أبي يزيد وخروجي منه، دعتني إحدى الجماعات الزائرة كي أصلّي معها داخل المسجد، فلبّيت بطيبة خاطر، ولاحظت أن من بقي خارج المسجد كان ينظر إليّ شزراً( ). وحين خرجت، كانت الجماعة الكبرى تستعدّ للصلاة خارج المسجد، فصلّيت معها كذلك، في حين امتنع من دخلت المسجد وصلّيت معهم عن هذه الصلاة.وكانوا ينظرون إليّ بدورهم شزراً. عندها فطنت إلى أن السنّة يؤدّون صلاتهم داخل المسجد، في حين يؤدّيها الشيعة خارجه، وما من أحد من الفريقين يشارك الآخر صلاته! وكلّ يريدك أن تصلّي معه وحده دون الآخر.
وختاماً هذه باختصار تجربتي في دراسة الإسلام من الداخل.ومن عاش تجربة روحية حقيقية في الإسلام، هل بوسعه إلاّ أن يحبّه؟! ومن باب أولى أن لا يتحامل عليه؟ وهل يتوجّب عليه أن يذكّر دوماً بهذا الحبّ؟لا أقول ذلك دفعاً لأية حملة محتملة لاحقة، ولا حتى درءاً لها. فإنني أعلم علم اليقين أن مشكلة الباحث في الدراسات الإسلامية تبقى هي هي. فالمسلم التقليدي ينتظرُ منه أن يُسمعه ما يحبّ سماعه من مديح لتراثه وتقليده وعقائده، وأن لا يضع أياً من مسلّماته الموروثة موضع بحث. وما دور الباحث إذا لم يفعل هذا الأمر الأخير؟ ومتى شكّك بالمسلّمات، أو بدا أنه في سبيله إلى ذلك، فالتهمة جاهزة سلفاً: فإن كان هذا الباحث غير مسلم، فهي تهمة معاداة الإسلام والتحامل عليه وكراهيته، إلى ما هنالك من أوصاف. وما من مستشرق، ولا أي دارس غير مسلم للإسلام، نجا من هذه التهمة. أما إذا كان الباحث مسلماً، فالتهمة التقليدية أدهى وأخطر: الرِدّة وحدّها سيف حقيقي مسلّط على رقاب كلّ المفكّرين المسلمين المجدّدين. ما يجعل كلّ باحث غير مسلم… يحمد ربّه.