لبنان في دوامة الجيوسياسة: قدره أم خياره؟ 1969 – 2010

مؤتمر “جغرافية لبنان السياسية عبر التاريخ”. تنظيم كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني/قسم التاريخ، 28 و29 نيسان 2010.

 

 

 

لبنان في دوامة الجيوسياسة: قدره أم خياره؟

1969 – 2010

 

 

                                                                           عبد الرؤوف سنّو

                                                                                 أستاذ في الجامعة اللبنانية

 

 

هل تنطبق على لبنان مقولة أن الدولة تستمد قوّتها في سياستها الخارجية من لُحمة شعبها، ومن قدرتها على الإمساك به وتعبئة موارده الاقتصادية والبشرية والوصول إلى وحدة داخلية، وكذلك من ما تقدّمه الجيوسياسة لها من عناصر القوة والوزن السياسي في علاقاتها الخارجية؟ في العادة، عندما تكون الجيوسياسة عبئاً على الدولة وذات تأثير سلبي فيها، ويكون هناك في المقابل مجتمع موحد في ظلّ رابط إيديولوجي مجتمعي ونظام سياسي توحيدي ودولة مستقرة تصنع قرارها بنفسها، عندها تستطيع الدولة، بفضل تسخير مواردها ولُحمة مجتمعها واستعداده للدفاع عنها وعن النظام، أن تصوغ إستراتيجية لحماية سيادتها واستقلالها، ولا تستجيب للتحديات الخارجية فحسب، بل يمكن أن تجعل من نفسها قوة جيوسياسية في فضائها الخارجي. وهذا هو حال إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.

 

1-إشكاليات البحث والفرضية

 

إن تضافر عوامل عدة، كجغرافية لبنان السياسية، ونظامه الطائفي السياسي وعدم تلبيته حاجات كل طوائفه، شكل عبئاً على لبنان وعلاقاته بالخارج، وأفقد بالتالي اللبنانيين اللُحمة الوطنية في ما بينهم، وجعل الدولة اللبنانية ضعيفة ومشوشة القرار. يُضاف إلى ذلك، أن وقوع لبنان كدولة حاجز بين فكي كماشة جيو- بوليتيكية، على الأقل منذ إنشاء دولة إسرائيل وطموحاتها التوسعية، وتطلع الأنظمة الحاكمة في سورية عبر حدودها الغربية لتصحيح “خطأ تاريخي”، جعل وضعه مأساوياً، بعدما تحوّل في زمن الحرب الباردة والخلافات بين الأنظمة العربية، إلى ساحة كبيرة للسياسات والإيديولوجيات والمصالح وتصفية الحسابات أو التوافقات. وما من مرة اختلف فيها اللبنانيون على قضية داخلية إلا وفُتح المجال أمام الخارج للتدخل في ما يتنازعون عليه، أو أن يستنجد بعضهم بالخارج لتحقيق مصالحه والاستقواء على “الآخر” في الداخل، مندون أن يحاولوا إيجاد حلول لبنانية لمشكلاتهم، فيؤدي كل ذلك إلى نتيجة منطقية، وهي تحكم الخارج بالقوى اللبنانية التي تستنجد به، وربما افتعال مشكلات في ما بينها قد لا تكون من صلب خلافاتها الداخلية، وإنما مدفوعة من الخارج. وفي تاريخ لبنان الحديث والمعاصر شواهد على صحة هذه المقولة، لا مجال لذكرها هنا.

 

بدلاً من أن ينطلق لبنان موحداً غداة إنشاء “دولة لبنان الكبير” في العام 1920 بتضافر كل أبنائه للانتقال من مرحلة عثمانية قائمة على التمايز الديني إلى مرحلة الوطن، ظهرت بوضوح، في ظلّ الانتداب الفرنسي عليه، خلافات الطوائف اللبنانية حول هوية الكيان الجديد ودوره في محيطه العربي، أو في إطلالته على الخارج. فأوجد الموارنة المدافعون عنه والخائفون من محيطهم العربي – الإسلامي قومية له لها خصوصياتها الثقافية، فيما انشد المسلمون بشغف، وخاصة السنّة منهم، إلى الوحدة مع سورية غير مكترثين بالحدود الجديدة لكيانهم الجديد وفق ما رسمه اتفاق سايكس – بيكو لعام 1916. فأدى ذلك، عن قصد أو من دون قصد، إلى ابتعادهم مرحلياً عن الإدارة، وعدم انخراطهم في الحياة السياسية اللبنانية. وما لبث دستور الجمهورية اللبنانية أن كرس طائفية سياسية صيغت على أنها “موقتة”،[1] لكنها استمرت من دون انقطاع حتى اليوم.

 

إن التسوية التي اتفقت عليها الطائفتان الرئيسيتان، الموارنة والسنّة، في العام 1943 حول التعايش الطوائفي بين المسيحيين والمسلمين بتقاسم السلطة على قاعدة النسبية العددية لكل طائفة، والتوافق على صيغة ملتبسة لهوية لبنان، لم تؤسس لولادة وطن. فالمسلمون، نظروا بحسد إلى تفوق الموارنة الاقتصادي والثقافي عليهم، وتطلعوا إلى مشاركة أكبر في السلطة التي وضعها هؤلاء في أيديهم، حتى مع تغيّر الديموغرافيا لصالح المسلمين، الذين كانت عروبتهم مشبعة بالإسلام. في المقابل، جعل بعض الموارنة من “لبنانيتهم” انسلاخاً عن عروبتهم، وتمسكوا بأبدية الصيغة وبمفاتيح السلطة التي وضعوها في أيديهم.[2] وفي ضوء عدم إعطاء تسوية الميثاق الوطني المسيحيين الاطمئنان، في ظلّ رياح العروبة والناصرية والحرب الباردة، ونمو النشاط العسكري الفلسطيني في لبنان،[3] تطلعوا نحو الغرب، وكذلك نحو سورية بداية، ثم إسرائيل من أجل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، فيما تطلع المسلمون إلى خارج حدود بلدهم بحثاً عن حليف لتغيير المعادلة في الداخل لمصلحتهم. ثم تضافرت عوامل خارجية إلى الخلافات حول هوية لبنان ومسألة المشاركة في السلطة، في مقدمها دور لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي، ما زاد من الانشقاق بين الطوائف الدينية في لبنان.

 

صحيح أن لبنان تجنب بنجاح تأثيرات الناصرية فيه منذ التفاهم الشهير بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر في العام 1958، إلا أن الانقسام في لبنان ما لبث أن تصاعد منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. إن ما جعل اللبنانيين يحتكمون إلى السلاح في العام 1975، هو سلسلة من العوامل الخلافية الخارجية، كنمو المقاومة الفلسطينية على أرضه، والصراع العربي – الإسرائيلي، ووصول حافظ الأسد إلى السلطة في سورية، وولوج مصر طريق السلام مع إسرائيل، وأخيراً اشتداد الحرب الباردة بين القطبين. ودلت هذه التطورات على أن لبنان كان يتأثر بشدة بما يحصل في محيطه، وأنه تربة خصبة للتدخل الخارجي، من الفلسطيني إلى السوري فالإسرائيلي والعربي والدولي، ما جعل الطوائف تتطلع نحو الخارج وفق صراعاتها ومصالحها الذاتية ودرجات مخاوفها. فكان تضافر الخلافات الداخلية، وافتقار اللبنانيين إلى الوحدة الوطنية، وعجز الدولة اللبنانية على الإمساك بمجتمعها، مع مأساوية الجغرافيا السياسية، والجيو – بوليتيك السوري والإسرائيلي، مدمراً لسيادة لبنان وتعايش أبنائه.[4]  

 

        تطرح هذه الدراسة الفرضية بأن النظام الطائفي في لبنان وما يتفرع عنه من مذهبية ومناطقية وإيديولوجيات وثقافات ومصالح شخصية، شكل عاملاً قوياً في استدعاء الجماعات اللبنانية الخارج إلى الداخل اللبناني. كما جعل الموقع الجغرافي السياسي لبنان في مهب الجيو – بوليتيك الإسرائيلي والسوري. صحيح أن هذا الموقع هو قدر لبنان، إلا أن خيار اللبنانيين كان على الدوام التطلع نحو الخارج واستجلابه إلى الداخل، والتحول بالتالي إلى أدوات لتحقيق مصالحه. فلم يُظهر اللبنانيون في ما بينهم لُحمة وطنية، ولا تماسكاً وراء دولتهم للتصدي للجيو – بوليتيك المتربص بهم. فتركوه ينخر بنيان دولتهم ومجتمعهم ويدخل إلى أعماق خلافاتهم وأزماتهم. إن تضافر النظام الطائفي السياسي والجيو – بوليتيك، كانا مدمرين لوحدة اللبنانيين وللاستقرار السياسي والمجتمعي في البلاد.

 

2- لبنان عشية الحرب: الخلافات الداخلية والجيو – بوليتيك الإسرائيلي والسوري

 

عندما أتى “الميثاق الوطني” في العام 1943 بعد مخاض، على أساس أن يردع الطوائف اللبنانية عن التطلع نحو الخارج، لم تكترث الطوائف جميعها إلى مقولة “لا شرق ولا غرب”، وبقيت تتطلع نحو الخارج، أو تحركها سياساته وإيديولوجياته، في ظلّ نظام طائفي يفرّق ولا يجمع. صحيح أن المسائل الاجتماعية التي يبرزها الجدول رقم (1) حول شكوى المسلمين الدائمة من عدم مشاركتهم الحقيقية في السلطة، ومن قانون الانتخاب، والمطالبة بالتالي بإلغاء الطائفية السياسية من أجل انتزاع الهيمنة على الدولة من أيدي الموارنة مسوغين ذلك بتزايد أعدادهم، وفي المقابل، عدم إدراك الموارنة مساوئ الحفاظ على دولة طائفية ضعيفة هشة، ورفضهم تطوير النظام اللبناني، كانت كلها عوامل مسببة للنزاعات بين أبناء الوطن الواحد، إلا أنها لم تؤد جميعها إلى احتكامهم إلى السلاح. فتمكن اللبنانيون من إدارة نزاعاتهم بشكل لا تصل بهم إلى التصادم العسكري، وفق ما سمي بـ “الديمقراطية التوافقية”. لكن القضايا الداخلية هذه، أضحت وقوداً للصراع مع تأثر لبنان بسلسلة من العوامل الخارجية الإقليمية والدولية التي أتينا على ذكرها، يُضاف إليها قيام الثورة الإسلامية في إيران.

 

عشية الحرب، تصادمت ثلاثة مشاريع ذاتية للقوى اللبنانية مع بعضها بعضاً، قابلتها ثلاثة مشاريع خارجية مكملة لها أو محتضنة:

1-    المشروع الإسلامي لتحسين نسبة المشاركة الإسلامية في السلطة والتعبير عن هوية عربية، عبر التحالف مع الفلسطينيين.

2-  مشروع اليسار، المدعوم فلسطينياً، لتقويض الدولة اللبنانية ونظامها الطائفي وبالتالي الإطاحة بالمارونية السياسية وإقامة نظام علماني بديل.

3-  مشروع الموارنة للحفاظ على لبنان، الدولة والنظام، وإبقائهما في أيديهم بأي ثمن، وإبعاد لبنان عن الصراع العربي الإسرائيلي، ما استدعى الاستنجاد بكل من سورية وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

 

جدول (1)                  مـجـالات الـنـزاع بـيـن اللبنانيّين بُعيد اندلاع حرب لبنان

مطالب/مواقف الحركة الوطنيّة/ القوى الإسلاميّة

الموضوع

مطالب/مواقف الجبهة اللبنانية /اليمين المسيحيّ

إلغاء الطائفيّة السياسيّة/علمنة/اعتماد

الديمقراطيّة العدديّة/نظام يقرّره الشعب

انتخاب رئيس الجمهوريّة من قبل الشعب/مداورة الرئاسة/مجلس رئاسة

انتخاب رئيس الوزراء من قبل المجلس النيابيّ

النظام السياسيّ

إلغاء الطائفيّة السياسيّة مع علمنة الأحوال الشخصيّة/رفض ديمقراطيّة الأكثريّة

رئاسة الجمهوريّة هي للموارنة

 

رئيس الجمهوريّة يكلّف رئيس الوزراء/قبول

تعديلها/ رفضها

الصيغة

التمسّك بها/رفضها/الفيدراليّة

المشاركة في الصلاحيّات

الصلاحيّات

رئيس الجمهوريّة هو الحاكم الفعليّ

قبول

 

المناصفة في المجلس النيابيّ

تخلق وضعاً لمصلحة الآخرين/القبول بالمناصفة

لبنان محافظة انتخابيّة واحدة/محافظتان انتخابيّتان

قانون الانتخاب

الإبقاء على الدائرة الانتخابيّة الصغيرة

وإشراك المغتربين في الانتخاب

قبول/ إعطاؤه إلى الدروز

مجلس للشيوخ

رفض/يجعل المسلمين يسيطرون على 3 مجالس

إحصاء جديد للسكّان

إحصاء السكّان

التمسّك بإحصاء 1932 /ضمّ المغتربين

قبول

قانون جنسية

رفض/الخشية من تجنيس مسلمين

اعتماد النسبيّة في الجهاز الإداريّ

إلغـاء الحصص

إبقاء طائفيّة الوظيفة في الفئة الأولى

المجتمع الاندماجيّ

التعايش

التعدّدية الحضارية وخصوصيّة الطوائف

أساس التعايش والتفاهم

حوار الطوائف

القوّة العسكريّة تسبقه

القيادة في مجلس أعلى/وزير الدفاع

الجيش

القيادة بيد قائد الجيش

سياسة الجبهة اللبنانية

مسؤوليّة الحرب

الوجود الفلسطينيّ/السوريّ

ضروريّة لأجل حلّ الأزمة

الإصلاحات

إنهاء الوجود الأجنبيّ ثمَّ الإصلاحات

وطنيّ/طائفيّ

طبيعة الصراع

طائفيّ/قوميّ لبنانيّ

العروبة

الهويّة والانتماء

القوميّة اللبنانية /عروبة اللغة والمصلحة الاقتصاديّة/العروبة مخالفة للدستور

عدم فصل لبنان عن محيطه العربيّ

عروبة لبنان

تحييد لبنان عن الصراعات العربيّة

لبنان عضو مؤسّس يلتزم بميثاقها

الجامعة العربيّة

التعاون معها في ضوء خصوصيّة لبنان

علاقات تتجسّد في الجغرافيا والتاريخ

سورية

رفض الوجود السوريّ/رفض التقارب معها

تضامن بلا حدود/تضامن

الفلسطينيّون

خطر على الامتيازات/يجب تصفيتهم

خطر على لبنان والأمّة العربيّة

إسرائيل

لا خطر منها/ تعاون وتحالف أقليّات

 

وفي مقابل الاصطفاف الداخلي، وُجدت ثلاث قوى إقليمية مباشرة في داخل الأزمة اللبنانية منذ العام 1967، وهي الفلسطينيون والإسرائيليون والسوريون، ولكل منهم مشروعه الخاص الموازي لمشاريع الطوائف اللبنانية، كما يُظهر ذلك الجدول (2). فاستغل الأولون حاجة المسلمين واليسار لهم في صراعاتهم الداخلية، من أجل تثبيت مواقعهم في لبنان. إن عدم وجود دولة قوية في لبنان كان ينسجم مع مخططات المقاومة الفلسطينية للهيمنة على البلاد.[5] وهذا ما جعل من لبنان قاعدة لها، وعملياً وطناً بديلاً، في ضوء انسداد آفاق تحرير فلسطين أمامها.

 

جدول (2)              مشاريع الطوائف اللبنانية والمشاريع الجيو – بوليتيكية الإقليمية

المشاريع الداخلية

المشاريع الإقليمية

الطائفة

المشروع

الدولة

المشروع

الموارنة

الإصرار على الميثاق، والحافظ على خصوصية لبنان والابتعاد عن الصراع العربي – الإسرائيلي، والاستنجاد بسورية وإسرائيل في حال تعرضهم للخطر.

إسرائيل

دعم إنشاء كيان ماروني، أو تثبيت حكم ماروني على لبنان، وتغذية التناقضات بين الموارنة والفلسطينيين، وصولا إلى حالة غليان تشغل المقاومة عن مهاجمة إسرائيل.

المسلمون

التحالف مع الفلسطينيين لتحقيق مكاسب على الموارنة – إلغاء الطائفية السياسية – بالنسبة إلى الشيعة إخراج الطائفة من حالة الحرمان.

المقاومة الفلسطينية

إبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة – الإمساك بالمسلمين وباليسار لجعل لبنان قاعدة دائمة وأخيرة لها.

اليسار

ضرب النظام الطائفي والهيمنة المارونية، وإقامة نظام علماني بالتحالف مع الفلسطينيين.

سورية

استخدام الجغرافيا والتاريخ والأمن للإمساك بلبنان – لا قرار في الصراع العربي – الإسرائيلي من دون سورية – فرض الوصاية على لبنان وعلى م. ت. ف. – الحصول على اعتراف بدورها في المنطقة.

 

بين اتفاق القاهرة في العام 1969 واندلاع حرب لبنان في العام 1975، أضحت “منظمة التحرير الفلسطينية” سيدة نفسها في المخيمات الفلسطينية وحولها على حساب سيادة الدولة اللبنانية. ولم يكتف الفلسطينيون بذلك، بل أدى تدخلهم في التوازنات الطائفية لصالح اليسار والمسلمين وعسكرتهم إلى إدخال عامل خلافي جديد إلى قلب الأزمة اللبنانية. فكان الفلسطيني هو القاسم المشترك لتحالفات كل من المسلمين واليسار اللبناني، مع اختلاف أهداف مشروع كل منهما، وكذلك اختلاف مشروع المقاومة الفلسطينية عن مشروعي اليسار والمسلمين، حيث عملت المقاومة الفلسطينية على استغلال التناقضات بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين واليسار اللبناني، من أجل تكريس هيمنتها في الداخل اللبناني. كما كانت هناك قواسم مشتركة بين الموارنة والمسلمين حول رفض العلمنة الشاملة التي طرحها اليسار. لكن خلاف الفريقين المسيحي والإسلامي على هوية لبنان ونظامه وعلى دوره في الصراع العربي – الإسرائيلي، كان أكبر من أن يوحدهما رفضهما لمطلب اليسار بالعلمنة الشاملة. كان شعارا “القومية العربية” الذي رفعه المسلمون، و”القومية اللبنانية” الذي رفعه الموارنة، يجعل الطائفتين في مسارين تاريخيين متباعدين. من هنا، انضوى المسلمون واليسار تحت جناح المقاومة الفلسطينية، غير مكترثين بأن الوجود العسكري الفلسطيني هو على حساب السيادة والمصلحة الوطنية اللبنانية، ويشكل تهديداً لصيغة التعايش، فيما بحث الموارنة عن حلفاء لهم من الجيو – بوليتيك المتربص بلبنان، من سورية وإسرائيل، مرتكبين الخطأ نفسه.

   

هكذا، كانت التناقضات الداخلية اللبنانية وانقسام المجتمع اللبناني على بعضه بعضاً عاملاً فاعلاً في تمكين المقاومة الفلسطينية من فرض سيطرتها على لبنان، حتى أن ياسر عرفات صرح في أحد مجالسه الفلسطينية أنه الحاكم الفعلي للبنان، وكان يطرح السؤال الآتي: “كيف سيكون عليه وضعُنا لو حكمت الحركة الوطنية“،[6] أي لو انتصرت “الحركة الوطنية اللبنانية” وتبوأت السلطة. من هنا، كان من مصلحة الفلسطينيين ألا تُحسم حرب لبنان لصالح “الحركة الوطنية اللبنانية”، وألا تصل إلى السلطة، ما يعني أن الفلسطينيين كانوا يستفيدون من الحرب، ومن عدم استعادة الدولة اللبنانية سيادتها وسلطتها على شعبها، أو تحقيق السلام في لبنان.

 

أما إسرائيل، التي كان لها مشاريعها تجاه الموارنة، حتى قبل إنشاء كيانها، تسعى لأن يكونوا حلفاءها الطبيعيين في كيان لبناني ديني على الطراز الصهيوني،[7] بالتزامن مع أطماعها في أراضي لبنان ومياهه. وقد استغلت الدولة العبرية مساعي الموارنة للحفاظ على تفوقهم في الكيان اللبناني الجديد، وفي الوقت نفسه مخاوفهم من نمو المسلمين عددياً،[8] وفي ما بعد خشيتهم من أن يتحوّل  التوازن لمصلحة المسلمين جراء الوجود العسكري الفلسطيني، من أجل تغذية التناقضات بينهم وبين المسلمين، وبينهم وبين الفلسطينيين المستقوين على الدولة اللبنانية، وبالتالي توريط المقاومة في المستنقع اللبناني وجعلها تنشغل عن مهاجمتها.[9] فكانت اعتداءاتها على لبنان، قرى في الجنوب ومرافق في بيروت، بين العامين 1968 و1974، إنذاراً لما ينتظر الاقتصاد اللبناني من تعطيل وأضرار تصيب المسيحيين بشكل أساسي.[10] ومن جهتهم، رأى الموارنة أن إضعاف الدولة اللبنانية، كما خطط له الفلسطينيون وحلفاؤهم، يقضي على السيادة اللبنانية، ويؤدي حكماً إلى إضعافهم وبالتالي خسارة امتيازاتهم ودورهم التاريخي الرائد في لبنان والمنطقة. من هنا، عملت إسرائيل في مراحل مختلفة على استغلال مخاوف الموارنة من أجل ضرب الصيغة اللبنانية، أو تقسيم لبنان، أو تثبيت حكم ماروني عليه كله. لقد استنجد الموارنة بإسرائيل، عندما تضعضع مركزهم العسكري بين نهاية العام 1975 وربيع العام التالي. ولما تلكأت الدولة العبرية عن نجدتهم في تلك المرحلة، تواصلوا مع سورية و”دعوها” إلى الدخول إلى لبنان،[11] فكانت تلك الفرصة الذهبية التي خطط لها السوريون وانتظروها.

 

كجزء مقتطع من بلاد الشام على يد الاستعمار، نظر السوريون إلى لبنان. فهم لم يوافقوا على إنشاء “دولة لبنان الكبير” في العام 1920، ولم يقيموا معها علاقات دبلوماسية. وعلى الرغم من اعترافهم بلبنان المستقل في العام1943 ، في إطار تسوية أثناء المباحثات لإنشاء جامعة الدول العربية، ظلّ لبنان مرفوضاً في الوعيين الرسمي السوري والشعبي، نتيجة قناعة راسخة بوحدة الشعبين في البلدين وعروبتهما وانتمائهما بشرياً وجغرافياً وتاريخياً إلى “سورية الكبرى” أو إلى “سورية الطبيعية” أو”الهلال الخصيب” أو”الأمة السورية”.[12]  ومع أن بلاد الشام كانت مصطلح جغرافي بحت ويعود إلى المرحلة العثمانية، إلا أن السوريين رأوا أن هذه “البلاد” كانت وحدة سياسية واحدة ودمشق قلبها النابض، وأن اتفاق سايكس – بيكو لعام 1916 الذي جزأها، كان انتهاكاً صارخاً لهذه الحقيقة،[13] خصوصاً أن لبنان المستقل أو المحايد، غير المقبول سورياً، شكّلحاجزاً طبيعياً وعسكرياً على حدود دمشق.[14]  لكن السوريين أدركوا بواقعية أن “إعادة الفرع إلى الأصل” يبقى مشروعاً خيالياً بوجود دولتين معترف بهما نشأتا على حساب “بلاد الشام”، ولا يمكن إزالتهما، هما لبنان وإسرائيل.[15] من هنا، قرروا الاكتفاء بممارسة هيمنة ووصاية عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية على الدولة الأضعف، لبنان، حتى قبل مجيء حافظ الأسد إلى السلطة في العام 1970. وبالنسبة إلى إسرائيل، استخدم السوريون شعار العروبة لمناهضتها في البازار السياسي الإقليمي، من دون أن ينجحوا في مقارعتها.

 

وفي ضوء غياب نظام حليف لها في لبنان، دعمت سورية نمو المقاومة الفلسطينية فيه وشجعتها على شنّ عملياتها الفدائية ضد إسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، لأن ذلك يعزز دور دمشق الإقليمي، عبر تحويل لبنان إلى مُقاوم “غير رسمي” يستنزف إسرائيل. من هنا، جاءت ضغوط دمشق المؤثرة على الحكومة اللبنانية (إقفال الحدود البرية والجوية مع لبنان)[16] من أجل تشريع العمل الفدائي الفلسطيني، وذلك في كل مرة كانت تتعرض فيه المقاومة الفلسطينية لمحاولات التحجيم على يد السلطة اللبنانية، من دون أن تصل إلى نهايتها “السعيدة”، كما حدث في الأردن، وذلك بسبب الانقسام الطائفي في لبنان. إشارة، إلى أن رصاصة واحدة لم تُطلق من هضبة الجولان المحتلة بعد الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1973.

 

منذ وصوله إلى السلطة في سورية في العام 1970، وضع الرئيس حافظ الأسد ثلاثة مبادئ رئيسية لسياسة بلاده الخارجية، وهي: مناهضة إسرائيل، وتحقيق التوازن الإستراتيجي معها، والحصول على اعتراف بمركز بلاده في الشرق الأوسط.[17] فعمل، بعد طرد المقاومة الفلسطينية من الأردن في العام 1970/1971، على فرض وصايته عليها في لبنان، وقدم كل التسهيلات لها لجعل لبنان قاعدة عسكرية لعملياتها ضد إسرائيل. فتطلع المسلمون واليسار إلى المقاومة الفلسطينية للاستقواء بها على الموارنة لحسابات مختلفة، ما رفع من درجة مخاوف المسيحيين. فكانت التناقضات بين اللبنانيين والفلسطينيين وبالتالي بين اللبنانيين أنفسهم، وسيلة استغلها النظام السوري للتدخل في المسألة اللبنانية بذرائع شتى، منها القومي والعسكري، وصولاً إلى ترويج مقولة منع تقسيم لبنان على أيدي الموارنة، والتهديد بإعادة ضمه إلى سورية، إذا ما أقدموا على ذلك. [18]

عشية اندلاع حرب لبنان، دعا حافظ الأسد الفلسطينيين رسمياً في 8 آذار 1975 إلى توحيد قيادتيهما السياسية والعسكرية مع سورية. كان الهدف هو الإشراف على القرار الفلسطيني، ومن خلاله الإمساك بخيوط اللعبة في أزمة الشرق الأوسط، أي في حالتي السلم والحرب. وبالنسبة إلى لبنان، رأى الأسد أن أمن سورية مرتبط بأمنه ويحتم على بلاده التدخل فيه، لأنه يشكل “خاصرتها الضعيفة”، حتى من دون أن يطلب اللبنانيون ذلك (القومية التدخلية).[19] وخلف هذا الشعار، عمل السوريون على تحقيق خمسة أهداف في لبنان:

 

1-  منع المقاومة الفلسطينية وحلفائها اليساريين في لبنان من السيطرة على الدولة اللبنانية المشلولة القرار.

2-  منع الموارنة من تنفيذ تهديداتهم بتقسيم لبنان.

3-  منع الحكومة اللبنانية من توقيع معاهدة سلام وتطبيع مع إسرائيل.

4-  إلحاق لبنان بسياسة بلدهم عن طريق الاتفاقات والمعاهدات.

5-  أن يكون لسورية في لبنان كلمة مسموعة.

 

3-الخطوط الحمر 1976 ولبنان: تفاهم جيو – بوليتيكي سوري – إسرائيلي “من تحت الطاولة”

 

لم يكن أحد يتوقع عشية الدخول العسكري السوري الرسمي إلى لبنان في صيف 1976، حنى كمال جنبلاط نفسه زعيم “الحركة الوطنية اللبنانية”، أن يكون الدخول المذكور بناءً على توافق سري بين سورية وإسرائيل حول لبنان. إن الجهل بما كان يطبخه الجيو – بوليتيك السوري والإسرائيلي للبنان برعاية أميركية، يطرح احتمالين: الأول عدم وعي اللبنانيين بسلبيات الجغرافيا السياسية التي وجد لبنان نفسه فيها، وبتقاطع المصالح بين الجيو – بوليتيك الإسرائيلي والسوري حول لبنان، والاحتمال الثاني أن خلافات اللبنانيين في ما بينهم جعلتهم عميان عن تبصر تقاطع المصالح هذا، فيتحالفون تارة مع السوري وتارة أخرى مع الإسرائيلي، وفي كل الأحوال على حساب سيادة لبنان واستقلاله، وتحقيقاً لمصالح الدولتين “العدوتين”.  

 

تعود قصة “اتفاق الخطوط الحمر” إلى خريف العام 1975، عندما بدأت واشنطن تعمل بعد اتفاق سيناء الثاني بين مصر وإسرائيل في أيلول 1975، على تخفيف حدة التناقضات بين إسرائيل وسورية حول لبنان، ووجدت أن إمساك سورية عسكرياً بالبلد المذكور، سيؤدي إلى نتيجتين: الأولى منع المقاومة الفلسطينية الصاعدة المتحالفة مع المسلمين واليسار من السيطرة على لبنان، والثانية ضبط عملياتها من الحدود اللبنانية ضد إسرائيل. إن رغبة الإدارة الأميركية ألا تكبر المقاومة الفلسطينية وتؤثر في معادلة النزاع العربي  – الإسرائيلي، إقليمياً ودولياً، جعلها تقنع إسرائيل بالموافقة على احتلال سورية أجزاء من لبنان. وتبيّن الوثائق، أن واشنطن انصب اهتمامها على القوى التي تتصارع في لبنان، وليس على لبنان نفسه. فبعد العام 1973 لم يعد يهمها لبنان، الدولة والكيان، بقدر ما تهمها “القنابل الموقوتة” التي يحتويها والتي تلمس مصالحها في الشرق الأوسط. [20]لكن المشكلة كمنت في كيفية الحصول على موافقة تلّ أبيب على دخول الوحدات السورية إلى لبنان؟

 

بعبقريته الدبلوماسية، وإدراكاً منه للجيو – بوليتيك الإسرائيلي والسوري تجاه لبنان، استطاع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر أن يقنع القيادة الإسرائيلية بأن تأمين سلامة شمال إسرائيل من عمليات المقاومة الفلسطينية يفرض عليها “إعطاء لبنان لسوريا” (كذا).[21] وعندما وجدت الحكومة الإسرائيلية، التي كانت تدرك شهوات النظام السوري التاريخية تجاه لبنان، أن دخول جيشه إلى لبنان سيلجم “منظمة التحرير الفلسطينية” عن مهاجمتها، وحتى يمنع من إقامة نظام إسلامي هناك،[22] جرى تفاهم بينها وبين دمشق عبر الأميركيين ووساطة الإردنيين حول تقسيم لبنان إلى منطقتي نفوذ سورية في البقاع والشمال، والجنوب حتى نهر الليطاني، وإسرائيلية داخل لبنان بعمق 40 كيلومتر شمالي الحدود الدولية لإسرائيل مع لبنان، وفق ما سمي بـ “اتفاق الخطوط الحمر”.[23] وصرح أسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي إبان الصدام العنيف بين الوحدات السورية التي دخلت إلى لبنان والمقاومة الفلسطينية في صيدا وجبل لبنان في صيف 1976، بأن لا شيء يتهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وأن “السوريين … إذا أرادوا متابعة مجزرتهم ضد الفلسطينيين… فإنهم يمكنهم متابعتها“.[24] وأضاف يقول: “إن القوات السورية في لبنان تقاتل منظمة التحرير الفلسطينية واليساريين والمسلمين المتطرفين… لست أرى أي سبب لحدوث تغيير في سياسة إسرائيل ما دامت السياسة السورية والقوات السورية في لبنان تهدفان إلى تحقيق هذه الغاية“.[25]

 

رغم التناقضات بين دمشق وتلّ أبيب على الأصعدة الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية، التي يشير إليها الجدول رقم (3)، وُضع “اتفاق الخطوط الحمر” موضع التنفيذ عشية الدخول السوري إلى لبنان. فضمن هدوءاً لشمال إسرائيل (طالما شاءت سورية ذلك ولم تتضارب مصالحها مع مصالح الدولة العبرية)، بالتزامن مع إقامتها حزاماً أمنياً في جنوب لبنان متاخماً لحدودها الشمالية. لكن الاتفاق من جهة أخرى، جعل سورية سيدة الموقف في المناطق اللبنانية التي لا تمسّ الأمن القومي الإسرائيلي في جنوب لبنان.

 

جدول (3)                   أهداف كل من سورية وإسرائيل في لبنان

سورية

إسرائيل

تجسيد الجغرافيا والتاريخ المشترك/شعب واحد في دولتين

فصل لبنان عن سورية

القوميّة التدخّليّة/منع تقسيم لبنان/احتواء المقاومة الفلسطينيّة/الإمساك بالملفّ اللبنانيّ

تفتيت لبنان إلى دويلات طائفيّة/ضرب المقاومة

عدم الإخلال بالتوازن بين الطوائف

تدمير صيغة التعايش الطوائفيّ

منع قيام نظام لبنانيّ معادٍ لها

جرّ لبنان إلى معاهدة سلام وتحالف

الإشراف على سياسة لبنان الخارجيّة

جعل سياسة لبنان الخارجيّة تتوافق مع مصالحها

منع انضمام لبنان إلى مثلّث السلام المصريّ – الإسرائيليّ

ضمّ لبنان إلى مثلّث السلام لتعميمه على الدول العربيّة

منع إسرائيل من تحقيق نفوذ لها في لبنان

حزام أمني في جنوب لبنان لحماية المستوطنات الشماليّة

جعل أمن البلدين مشتركاً

تهديد خاصرة سورية الجنوبيّة – الغربيّة

إقامة علاقات مميّزة بموجب نصوص

التشديد على الخصوصيّة اللبنانية ضمن المحيط العربيّ

استقرار لبنان عامل مؤثر في النظام العربيّ

زعزعة استقرار لبنان للتأثير في العالم العربيّ

التكامل الاقتصاديّ والثقافيّ

ضرب دور لبنان الخدماتيّ والتجاريّ والثقافيّ

تنسيق الثروة المائيّة

الاستيلاء على مياه الأنهار في جنوب لبنان

 

وعلى الرغم من إدراج دمشق على قائمة الدول الداعمة للإرهاب منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، انصب اهتمام واشنطن حول ضمان حماية شمال إسرائيل والمجتمع الدولي من ضربات الفدائيين، وجعل “منظمة التحرير الفلسطينية” ممسوكة من قبل السوريين. [26] مع ذلك، أرادت واشنطن من دمشق أن تنفذ لاءات ثلاث: ألا تقوم بضمّ لبنان، وألا تدفع (في ما بعد) بحزب الله إلى مواجهة شاملة مع إسرائيل، وألا تعارض عملية السلام الإسرائيلية  – الفلسطينية. كما طُلب من النظام السوري الإبقاء على هامش للمعارضة المسيحية في لبنان.[27] وظلّ “الطلب” الأميركي هذا ساري المفعول طوال الهيمنة السورية على لبنان. وقد حصل الدخول السوري إلى لبنان على تغطية من جامعة الدول العربية، واعتبرت القوات السورية التي دخلت إليه جزءاً من “قوات الردع العربية” التي أقرتها الجامعة. لكن بانسحاب الوحدات العربية من لبنان في العام 1979، أصبحت قوات الردع تلك سورية خالصة، ما أتاح للنظام السوري أن يتصرف بلبنان وفي لبنان كما يشاء.

 

4-لبنان بين سورية وإسرائيل 1977 – 1990: صراعات الجيو- بوليتيك

 

صحيح أن القيادات المارونية هي من طلب التدخّل العسكري السوري في لبنان ورحب به، بعدما تلكأت إسرائيل عن نجدتها، إلا أن “الجبهة اللبنانية”، الممثلة الرئيسية للموارنة، كانت أول الرافضين لهذا الوجود بعد العام 1978، بعدما طورت تحالفاتها مع الدولة العبرية، في سياق تغيّر التوازنات في الشرق الأوسط عقب زيارة السادات إلى القدس في أواخر العام 1977 وبالتالي خروج مصر من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي. وبعد وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل في أيار 1977، حصل كميل شمعون وبشير الجميّل من إسرائيل على ضمانين لقاء انقلاب “الجبهة اللبنانية” على سورية، وهي: ألا تسمح إسرائيل بإبادة المسيحيين في لبنان، وألا تسمح للطيران السوري بقصف المناطق المسيحية. ولم ينفذ الإسرائيليون التعهدات تلك إلا أثناء أحداث زحلة في العام 1981، عندما حدثت صدامات بين الجيش السوري و”القوات اللبنانية”.[28]

 

في المقابل، كان المسلمون واليساريون والمقاومة الفلسطينية، الذين رفضوا استخدام الجيش اللبناني في ضبط الأمن الداخلي اللبناني، وعملوا على تفريغ تلك المؤسسة من مضمونها في الدفاع الوطني كي يحلو لهم السيطرة على البلاد، كانوا أول الرافضين للدخول السوري إلى لبنان في العام 1976، لكنهم أضحوا منذ العام 1978 يدورون من جديد في فلك سورية. فالفلسطينيون، اعتبروا أن كمب ديفيد يمحو قضيتهم، وساروا ومعهم المسلمون واليساريون وراء النظام السوري. يُضاف إلى ذلك، أن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، شكل نقطة تحول بارزة بالنسبة إلى لبنان، إذ أدخل إليه لاعباً خارجياً جديداً منذ مطلع الثمانينيات هو إيران، والذي أوجد بدوره لاعباً داخلياً جديداً، عسكرياً وإيديولوجياً، هو حزب الله.[29] فتعايش النفوذان السوري والإيراني في لبنان، بعدما وحدهما عداؤهما المشترك للعراق، والدعم الاقتصادي الإيراني لسورية، وعلاقات سورية المضطربة بمحيطها العربي والدولي. أما حزب الله، فابتعد عن الشأن الداخلي اللبناني وأزقته في مرحلة التحرير، مستفيداً من الدعم الإيراني ومن التسهيلات اللوجستية السورية، ومن النضال ضد إسرائيل لبناء قاعدة جماهيرية واسعة في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، بفضل ما قدمه لبيئته من خدمات اجتماعية وتعليمية واقتصادية وتنموية.[30]

 

رغم توافقِ سورية وإسرائيل حول لبنان، إلا أن ذلك لم يمنع تضارب مصالحهما. فكانت سورية تريد احتواء المقاومة الفلسطينية، وليس الإجهاز عليها كما أرادت إسرائيل، لحاجتها إليها واستخدامها كيفما تشاء في ملفاتها الشرق أوسطية. وكانت دمشق ترى في تقسيم لبنان أو قيام نظام فيه معادٍ لها، أو حتى حدوث خلل في التوازن الطائفي، خطراً عليها. فأرادت أن تربط لبنان بها من خلال علاقات مميزة واتفاقيات، وأن تكون سياسته الخارجية تحت إشرافها لمنعه من الانضمام إلى مثلث السلام الإسرائيلي – المصري، فضلاً عن تكامل اقتصاد البلدين. من هنا، حدث تضارب بين الجيو – بوليتيك السوري والجيو – بوليتيك الإسرائيلي. فأرادت تلّ أبيب فصل لبنان عن سورية وجعله يعقد معها معاهدة سلام، وإدخاله في إستراتيجيتها ضد سورية، وضمه إلى مثلث السلام مع مصر.[31] ولهذا السبب، نقضت إسرائيل “اتفاق الخطوط الحمر” مع سورية في مناسبتين.

 

خلال العامين 1978 و1982، اجتاحت إسرائيل لبنان مرتين. في التاريخ الأول، اندفعت بقواتها إلى نهر الليطاني، من دون أن تصطدم بالسوريين.[32] وبعدما تضاربت مصالحها مع سورية بشكل خطير في العام 1981 (أحداث زحلة بين الوحدات السورية و”القوات اللبنانية”، ونشر دمشق شبكة صواريخ في البقاع)[33]، اجتاحت إسرائيل لبنان مرة أخرى في حزيران 1982، لتحقيق ثلاثة أهداف طال انتظارها: طرد المقاومة الفلسطينية والسوريين من لبنان، وإيصال حزب الكتائب اللبنانية إلى الرئاسة الأولى، وضم لبنان إلى مثلث السلام في الشرق الأوسط كمحمية إسرائيلية،[34] وهو الذي جاء التعبير عنه في اتفاق 17 أيار 1983، الذي كان يخرج لبنان من الصراع العربي – الإسرائيلي ويؤدي إلى تطبيع علاقاته بالدولة العبرية، وجعله شوكة في خاصرة سورية، كما ادعى السوريون. لكن هذا الاتفاق، أمّن نظرياً، في ما لو نُفذ، خروج كل من الجيشين السوري والإسرائيلي من لبنان.[35] فعقب اجتياح لبنان مباشرة، وما لحق بسورية من هزيمة على يد إسرائيل، تذرعت كل من تلّ أبيب ودمشق بخروج قوات الأخرى أولاً من لبنان كشرط لسحب وحداتها منه. وفي حين أرادت تلّ أبيب أن تنسحب من لبنان، “في ضوء ضرورات إسرائيل الأمنية“،[36] وجد السوريون أعذاراً قومية وإستراتيجية لعدم الانسحاب من لبنان. إن إسراع موسكو بتعويض السوريين عن الخسائر العسكرية التي لحقت بهم جراء الحرب، قوّى من ممانعة سورية لاتفاق 17 أيار ومن مركزها في لبنان المنطقة.[37]

 

كان أحد أهداف العدوان الإسرائيلي على لبنان، كما أراده وزير الحرب الإسرائيلي آرييل شارون، أن يطيح بالخطوط الحمر ويطرد السوريين نهائياً من البقاع، ما يحرر لبنان من نفوذ سورية عليه، ويفسح في المجال أمام تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل. إلا أن الإدارة الأميركية ارتأت الاكتفاء بسحق “منظمة التحرير الفلسطينية”، ودفع لبنان والدولة العبرية قدماً نحو السلام. من هنا، رفضت واشنطن إخراج السوريين من البقاع اللبناني خشية اتساع دائرة القتال وإمكان انفتاح المنطقة على احتمالات عديدة، ومنها تدخل السوفيات في النزاع. وفي ما بعد، اتهم شارون واشنطن بأنها عرقلت جهوده لإلحاق هزيمة كاملة بالسوريين في البقاع.[38]

 

وفي توافق مصالحهما أو تناقضها، كان اللبنانيون بكل جدارة أدوات الصراع بين سورية وإسرائيل. فالإسرائيليون أعلنوا منذ مجيء الليكود إلى السلطة في إسرائيل في العام 1977 أنهم لن يسمحوا بإبادة المسيحيين في لبنان، ويريدون ضمه إلى مثلث السلام مع مصر، ما جعل “الجبهة اللبنانية” منحازة تماماً إلى المشروع الإسرائيلي، مع انتهاء “شهر العسل” (تقاطع المصالح) بينها وبين النظام في سورية.[39] وفيما تحدث السوريون، في المقابل، عند دخولهم إلى لبنان في العام 1976 عن منع سحق المسيحيين على أيدي اليسار والمسلمين وحلفائهم الفلسطينيين، أعلنوا بالتزامن مع اتفاق 17 أيار، عن أنهم يريدون منع المسيحيين المتعاونين مع إسرائيل من الهيمنة على المسلمين. [40] فكشفت مواقفهم هذه عن مدى تلاعبهم بالقوى اللبنانية المتنافسة، واصطفاف الطوائف اللبنانية خلف إسرائيل وسورية، في الوقت الذي عملت كل من الدولتين على التضحية باستقرار لبنان وبحياة بنيه للحفاظ على مواقعها فيه.

 

تحت الضغط السوري وتردي الوضع الداخلي، تلكأ الرئيس أمين الجميل عن إبرام اتفاق 17 أيار 1983 مع إسرائيل، ما جعل الدولة العبرية تسحب وحداتها العسكرية من الجبل انتقاماً في 3 أيلول 1983، من دون التنسيق مع الجيش اللبناني، تاركة مئات من المسيحيين ضحية مجازر قام بها الدروز. كذلك الحال، استخدمت دمشق حلفاءها اللبنانيين، من مسلمين ومسيحيين ويساريين (جبهة الإنقاذ الوطني) وفلسطينيين، لإشعال حرب أهلية جديدة أشد دموية من “حرب السنتين”. وجرى كذلك تفجير مقرّ السفارة الأميركية في بيروت في 18 نيسان 1983، تبعه تفجير مقري المارينز الأميركيين والمظليين الفرنسيين في 23 تشرين الأول من العام نفسه. وفي خريف 1983، كانت البحرية الأميركية أكثر تورطاً في الرمال المتحركة اللبنانية. وفي 8 شباط 1984، أي بعد اليوم التالي على اندلاع “انتفاضة 6 شباط 1984″، سحبت الولايات المتحدة مشاة بحريتها إلى السفن قبالة الساحل اللبناني، ثم غادرت لبنان نهائياً في 26 منه.[41]

 

إن تحوّل اللبنانيين إلى أدوات في الصراع السوري – الإسرائيلي، يظهر بوضوح في إفشال سورية اتفاق 17 أيار”الإسرائيلي” بحلفائها اللبنانيين، مستخدمة شعاراتها القومية المعتادة.[42] واضطر الجميّل إلى الإذعان لمشيئتها بالتراجع عنه والعودة إلى الانفتاح عليها بوساطة الدبلوماسية السعودية، والدخول في حوار وطني مع حلفائها في جنيف أولاً في خريف العام 1983، ثم في لوزان في ربيع العام التالي، من دون أن يسفر عنهما هدوء سياسي وأمني على الأرض.[43] وكان الموارنة بعد إلغاء اتفاق 17 أيار أشد انقساماً من السابق، فيما تصارع حلفاء سورية على المغانم وعلى القرار في بيروت الغربية التي أخلتها الوحدات السورية عنوة في آب 1982 كمحصلة للاجتياح الإسرائيلي للبنان.[44] كذلك، كان الجيش اللبناني بعد انتفاضة 6 شباط 1984 في أعلى درجات الانقسام. وعلى خطً موازً، رعت سورية الانشقاق على عرفات داخل حركة فتح، ثم وقفت وراء طرده من مدينة طرابلس، والقضاء على “حركة التوحيد الإسلامي” المدعومة من قبله في أيلول 1985.

 

وكما أفشلت سورية اتفاق 17 أيار مستخدمة حلفائها اللبنانيين، أفشلت “القوات اللبنانية”، متحالفة مع أمين الجميل، ومدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، “الاتفاق الثلاثي” الذي “صُنع في دمشق” في أواخر العام 1985،[45] ما دلّ بوضوح على مدى خضوع لبنان لتأثير الجيو – بوليتيك، وانقسام بنيه بين خيار سوري وآخر إسرائيلي. كان هذا الاتفاق الذي استبعد عنه السنّة بعد القضاء على تنظيم المرابطون السنّي على أيدي ميليشيات حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في ربيع العام 1985، يلحظ تعديلات جذرية في النظام السياسي اللبناني، كما “الوثيقة الدستورية” (السورية) لشباط 1976. لكن الجديد في “الاتفاق الثلاثي” أنه يقضي على الزعامات التقليدية اللبنانية، ويضع الحكم في أيدي ميليشيات مسلحة تتبع النظام السوري، الذي ابتدع لها إيديولوجية عروبية لعمل مشترك غلف التناقضات في ما بينها وتضارب مصالحها. فضلاً عن ذلك، جعل الاتفاق علاقات سورية مع لبنان مميزة بأطر قانونية، وصولاً إلى التكامل الإستراتيجي والاقتصادي والسياسي بينهما.[46]

 

تعود معارضة إسرائيل والولايات المتحدة للاتفاق الثلاثي إلى شعور الدولة الأولى بمرارة فشل سياستها في ضمّ لبنان إلى مثلّث السلام مع مصر.[47] فاعتبرت، ومعها واشنطن، أنّ دمشق هي المسؤولة عن إفشال اتفاق 17 أيار. فتقاطعت أهداف تلّ أبيب مع أهداف واشنطن على حثّ أمين الجميّل وسمير جعجع على معارضة “الاتفاق الثلاثي”.[48] فأعطيت الإشارة إلى القوى المسيحيّة في لبنان للثبات على موقفها المعارض له، وعدم تقديم تنازلات وتسهيلات لتمريره. ومع أن واشنطن امتنعت عن انتقاد الاتفاق علناً كمضمون، متوقّعة سقوطه بشكل طبيعي نتيجة رفضه من قبل “الجبهة اللبنانية” ومن أمين الجميّل،[49] إلا أنها لم تكن تعارض تسوية للأزمة اللبنانية تقوم على تقاسم جديد للسلطة في لبنان يُحقّق مشاركة أوسع للمسلمين في القرار السياسي، بل انفراد سورية وحدها بالملف اللبناني. كانت الإدارة الأميركية تريد ربط موافقتها على الاتفاق بموافقة سورية على ترتيبات أمنية بين إسرائيل ولبنان في جنوبه، وأن تعيد الدولة العبرية تموضع وحداتها في بعض النقاط التي قد تشكّل تهديداً لأمنها.[50] من هنا، فإنّ وقوف إسرائيل والولايات المتّحدة وراء إجهاض “الاتفاق الثلاثي” حمل رسالة من الدولتين إلى سورية، بأنّ عليها الوصول إلى اتفاق مع المسيحيين وليس رعاية صدام دموي في ما بينهم.[51] وقد اتهم الرئيس الأسد الدولتين بمساعدة جعجع في الانقضاض على حبيقة، أحد أعمدة الاتفاق وإطاحته عبر الهجوم على قوات حبيقة والسيطرة عليها.[52]

 

إن اعتقاد التحالف الماروني (“الجبهة اللبنانية” وأمين الجميل) أن إجهاض “الاتفاق الثلاثي” السوري سوف يُضعف نفوذ دمشق في لبنان، كان قصير النظر. فسورية لم تكن بعد العام 1985 أقلّ قوة من السابق على الساحة اللبنانية، رغم خروج وحداتها من غرب بيروت في العام 1982. فكانت وراء الانشقاق في “القوات اللبنانية” بين جناح سمير جعجع وجناح الياس حبيقة جراء “الاتفاق الثلاثي”، وكانت كذلك وراء محاولة الأخير الفاشلة للسيطرة على بيروت الشرقية في أواخر أيلول 1986.[53] ووقفت سورية وراء مقاطعة حكم أمين الجميل من قبل حلفائها المسلمين واليساريين عقب اغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي في الأول من حزيران 1987، ما زاد من الشرخ الداخلي. كذلك، كانت وراء انشطار الحكومة اللبنانية عقب انتهاء ولاية أمين الجميل في أيلول 1988، وإيصال لبنان إلى حالة من الانهيار الدستوري. وقد سمح لها إمساكها بملف الرهائن الأجانب المخطوفين في لبنان، بابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، خاصة منذ عودتها إلى بيروت الغربية في مطلع العام 1987، من دون إذن الحكومة اللبنانية إثر الاقتتال المبرمج بين حلفائها الميليشياويين. أثناء الاقتتال المذكور، هرع زعماء المسلمين السياسيين والروحيين إلى دمشق يستنجدون بالأسد لضبط الأمن في بيروت الغربية. فكان ذلك قمة الاستتباع لسورية: سورية التي تحرض الميليشيات على بعضها بعضاً، وسورية التي يُستنجد بها لوقف الاقتتال.[54]

 

رغم الخلاف بين سورية والولايات المتحدة على “الاتفاق الثلاثي”، ظلت قنوات الدبلوماسية بينهما مفتوحة. وتمكن النظام السوري، بتدخله المباشر في الأزمة اللبنانية، من التفاهم مع واشنطن على الانتخابات الرئاسية في لبنان التي استبعدت الجنرال ميشال عون، وأوصلت رينيه معوّض ثم الياس الهراوي إلى الرئاسة الأولى بعد اغتيال الأول، وسط تضعضع المعسكر الماروني بين العامين 1988 و1990. ثم جاء احتلال العراق للكويت في مطلع آب 1990، ليفسح في المجال أمام تفاهم أميركي – سوري على لبنان، بعدما عرف النظام السوري كيف يستشرف المستجدات الإقليمية ويتكيف معها ويحافظ بالتالي على موقعه على خارطة الشرق الأوسط. فحصل على موافقة ضمنية أميركية – إسرائيلية للقضاء على “تمرد” عون (استخدام سورية طيرانها ضد قصر بعبدا في تشرين الأول 1990)، ومارس دوره في لبنان، مستفيداً من سياسة الولايات المتحدة في الإبقاء على “الخطوط الحمر”، ورغبتها في ضبط الأوضاع في لبنان، ودفع مفاوضات السلام بينه وبين تلّ أبيب إلى الأمام. إن اشتراك سورية مع الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية في مطلع العام 1991، جعلها أقوى قوة في لبنان بعد العام 1990.[55]

 

 

 

 

5-لبنان: من مظلة الطائف إلى الوصاية السورية

                               

صحيح أن اتفاق الطائف لعام 1989 أدخل لبنان في مرحلة من السلم الأهلي، على أساس تقاسم جديد للسلطة والتوافق حول هويته وانتمائه، إلا أن مسائل كثيرة ظلت عالقة، ولم تعمل دولة الوصاية، سورية، على حلها أو إزالتها. فاتسمت المرحلة التي تلت الاتفاق بهاجس مسيحي، هو تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، ومسألة الوجود السوري في لبنان، وما تضمنه الاتفاق من وجوب العمل على إلغاء الطائفية السياسية، فضلاً عن الانتقائية في تنفيذ بعض بنوده وتجاهل بعضه الآخر. لقد تخوف المسيحيون من أن يؤدي إلغاء الطائفية السياسية إلى قيام دولة إسلامية، أو فرض ديمقراطية الأكثرية الإسلامية، فيتحولون بالتالي إلى أقلية مهمشة، كما هو حاصل في البلدان العربية.[56] وفي الوقت نفسه، تخوف السنّة من أن تؤدي ديمقراطية الأكثرية، أو المثالثة التي سعى إليها الشيعة مواربة كبديل من اتفاق الطائف، إلى دور قيادي للشيعة في لبنان يكون على حسابهم وفق مصالح إقليمية سورية، وإيرانية تنطلق من “ولاية الفقيه” وتزايد على العرب في موضوع تحرير فلسطين.[57] وكان يهم سورية الحفاظ على التناقضات الطائفية بين اللبنانيين وتغذيتها، ذلك أن أي تفاهم افتراضي في ما بينهم، هو عامل قوة وتماسك يؤديان إلى تقليل تدخلها في شؤونهم الداخلية، حتى في ظل “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” الموقعة في العام 1991.

 

مستنداً إلى سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية، وإلى الخطوط الحمر، وإلى موافقة عربية، وإلى تحالفه مع إيران، تمكن النظام السوري من الإشراف على هندسة أوضاع لبنان في مرحلة ما بعد الطائف، في ما استمر حزب الله في شنّ “حرب التحرير” بإيقاع إيراني وضوابط سورية.[58] وعلى صعيد الحياة السياسية، استطاعت سورية أن تضبط التوازن (الخلافات) بين القوى السياسية اللبنانية والطوائف الدينية، حتى في داخلها. فنشأت نتيجة ذلك فئتان سياسيتان لبنانيتان، تألفت الأولى من خليط طوائفي وتستفيد من الوجود السوري وتستقوي به، فيما عارضت الفئة الثانية، وهي أقلية مسيحية، التوازنات الداخلية التي أفرزها الوجود المذكور، وسوء تطبيق الطائف “السوري”، والمعاهدات والاتفاقات التي عُقدت بين البلدين منذ العام 1991، وذلك عبر الاحتجاج والتظاهر ورفع الصوت عالياً (التظاهرات الشبابية).[59] ومن ضمن التوازنات الداخلية بأبعادها الإقليمية، إبقاء سورية حزب الله على سلاحه والمخيمات الفلسطينية جزراً مسلحة بشكل مخالف لاتفاق الطائف، وذلك من أجل خدمة الصراع أو التسوية مع إسرائيل، من دون أن يؤدي ذلك إلى ضرب “الخطوط الحمر” بينها وبين الدولة العبرية.[60]

 

ليس قمع احتجاجات الموارنة على أيدي الأجهزة الأمنية اللبنانية الدائرة في فلك النظام السوري هي سمة المرحلة ما بعد الطائف. ففي ظل الوصاية السورية، جرى استبعاد رموز الطائف، وانتهاك الدستور، وظهور بدعة الترويكا، واستشراء النهب والفساد في الإدارات والمؤسسات، وولادة رئاسات جمهورية ومجالس نيابية ووزارية في ظل “الطبخات الدمشقية” و”المحادل” الانتخابية، وهبوط سياسيين وموظفين وأزلام “بمظلات سورية” على المجالس النيابية والوزارية والإدارات، وصدور قوانين انتخاب وإعلام وجنسية على قياس الأشخاص والمصالح. فابتلعت المحادل الانتخابية عملياً كل ما نصّ عليه اتفاق الطائف من مناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجالس النيابية والوزارية، حيث كانت اللوائح الانتخابية، وكذلك الصوت الإسلامي (السوري) هي التي تحدد النائب المسيحي الذي يصل إلى الندوة البرلمانية، أو المسيحي الذي يصل إلى مجلس الوزراء. فكان السوري هو الذي يشرف على اللوائح الانتخابية، حتى أنه أُطلق على قانون الانتخابات النيابية لعام 2000 تسمية “قانون غازي كنعان” للدلالة على أنه “صنع في سورية”.[61]

 

كذلك، أدارت سورية منفردة سياسة لبنان الخارجية و”المسار الواحد” في المفاوضات مع إسرائيل، ونصبت الرئيسين الهراوي ولحود، ومددت لهما، واضطهدت المعارضة وإعلامِها. باختصار، لم تعد هناك حياة سياسية لبنانية وطنية أو علاقات لبنانية سيادية مع الخارج، بعدما أضحى كل شيء يدار من قبل النظام السوري، وأضحت طريق بيروت – عنجر – دمشق “محجّة” لمعظم الرؤساء والوزراء والنواب والسياسيين والمتخاصمين، ووسيلة لاستقواء فريق على آخر. [62]

 

وبينما تمكنت سورية من استقطاب فئة من المسيحيين على أساس تبعية، أو على الأقل على أساس تقاطع “مصالح مشتركة” (بالمعنى السلبي)، مقابل تهميش الأكثرية المسيحية، أو زجّ قياداتها في السجن أو نفيها (سمير جعجع، أمين الجميل، ميشال عون)، أو تخويفها كتظاهرة السواطير لـ “جمعية المشاريع الإسلامية” (الأحباش) في وسط بيروت في 11 نيسان 2001،[63] لم تسمح بقيام صوت إسلامي واحد معارض لها، كي يظهر لبنان أمام العالم منقسماً على نفسه بين مسلمين ومسيحيين، ما يستدعي بقاء العسكر السوري في لبنان لضبط الأوضاع خشية تجدد الحرب الطائفية، كما زعم السوريون لكسب التأييد الدولي لوجودهم في لبنان. ولزيادة التناقضات بين الطوائف اللبنانية، روج النظام السوري نظرية “العروبي” و”الخائن”، فأطلق التسمية الأولى على أعوانه واتباعه، والتسمية الثانية على خصومه من الموارنة المتمردين و”المتعاملين” مع إسرائيل. إن تقبل المسلم، بشكل عام، هذا الانقسام المفروض سورياً، زاد من حدة الاحتقان الطائفي والانقسام المجتمعي المضبوطين من قبل الجهاز الأمني السوري. فكان يتم الخلط قصداً بين المسيحي الرافض للهيمنة السورية من منظار وطني ولا علاقة له بإسرائيل، وبين المسيحي المتعامل مع الدولة العبرية، والتناسي في الوقت نفسه أن مسلمين من جميع المذاهب تعاملوا  مع العدو في الشريط الحدودي المحتل، وشكلوا نسبة 80% من “جيش لبنان الجنوبي”.[64]

 

لقد عاب المسيحيون على المسلمين صمتهم على القضايا المصيرية اللبنانية، وعلى مواقفهم المؤيدة للوجود السوري على حساب السيادة اللبنانية.[65] ورغم تناقض منطلقات كل منهما الإيديولوجية، كان الشيعة من حركة أمل وحزب الله يخدمون السياسة السورية في لبنان. وقد سمح التوافق السوريالإيراني لحزب الله بمساحة عمل سياسي واجتماعي، واحتكار تحرير الجنوب المحتل بعد اتفاق الطائف. وبالنسبة إلى السنّة، فإن الخوف من سورية جراء اغتيال قادتهم منذ مطلع حرب لبنان، وخشيتهم من طروحات الفيدرالية من قبل الموارنة، أو استعادتهم امتيازاتهم السابقة بعد خروج السوريين، جعلتهم لا يحركون ساكناً ضد السوريين، حتى أن انتقاداتهم الممارسات السورية لم تتجاوز حدود الهمس والغمز، وظلت ضمن الصالونات المغلقة.  على كل حال، انعكست العلاقة الجيدة للرئيس رفيق الحريري بالسوريين، أثناء التوافق السعودي – السوري حول بنان والمنطقة، على السنّة في لبنان، بعدما تحول الحريري نتيجة عوامل داخلية وإقليمية ودولية إلى زعيم لهم ومرجعية، خاصة أنه وضع طائفة كبيرة وفق معادلة زبانية: السنّة الحريري السعودية، والسنّة الحريري دمشق، أي أن الحريري هو الوسيط بين السنّة والرياض من جهة، وبين السنّة ودمشق من جهة ثانية.[66]

 

6-تداعياتاحتلال إسرائيل للجنوب وتحريره

 

بينما تُرك لسورية هندسة أوضاع لبنان الداخلية بغض طرف عربي ودولي، احتفظت إسرائيل باحتلالها للشريط الحدودي المحتل في جنوب لبنان غير مكترثة بالقرار الأممي رقم 425 لعام 1978، القاضي بانسحابها إلى الحدود الدولية. من هنا، نمت مقاومة لبنانية في مختلف المناطق اللبنانية عقب الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، أخذت على عاتقها استهداف العدو في بيروت والمناطق، مقرات وثكن وأفراد وآليات. ومنذ مطلع العام 1982، تركزت المقاومة في المناطق الشيعية، حيث الاحتلال الإسرائيلي،واستمرت متوسلة حرب العصابات بمختلف أشكالها، حتى أجبر الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب في العام 2000.

 

اتسم الرد الإسرائيلي على عمليات المقاومة اللبنانية بشنّ الاعتداءات العسكرية على لبنان، وكان يهم تلّ أبيب إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالبنى التحتية اللبنانية، من كهرباء ومرافق، وذلك لزيادة التناقضات بين الطوائف اللبنانية، ودفعها بالتالي إلى التخلي عن المقاومة. لكن ذلك لم يحدث، بسبب الضبط العسكري السوري للأوضاع في لبنان، وسياسة الحكم والحكومة في اعتبار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي عملاً وطنياً مشروعاً، وأخيراً، إيمان معظم اللبنانيين بأن مقاومة إسرائيل عسكرياً هو أفضل الوسائل لاستعادة الأراضي المحتلة.[67]

 

خلال العامين 1993 و1996، قامت إسرائيل على التوالي بعمليتي “تصفية الحساب” و”عناقيد الغضب” بغرض القضاء على المقاومة اللبنانية، من دون أن تتصدى لها القوات السورية العاملة في لبنان، بالذريعة المعروفة والمستهلكة، وهي عدم إعطاء إسرائيل الفرصة لتحديد المعركة زماناً ومكاناً، ما شكل تناقضاً مع أحكام “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” بين البلدين الموقعة في العام 1991. كانت المعاهدة تفرض على سورية في مادتها الثالثة بألا “تسمح بأي عمل يهدد أمنه (لبنان) واستقلاله وسيادته“. وجاء في الفقرة 5 من المادة السادسة، أن “لجنة شؤون الدفاع والأمن” في البلدين، سورية ولبنان، تختص “… بدراسة الوسائل الكفيلة بالحفاظ عل أمن الدولتين واقتراح التدابير المشتركة للوقوف في وجه أي عدوان أو تهديد لأمنهما القومي...”.[68] إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث. كان النظام السوري يدرك عجزه الكامل عن كسب أية معركة عسكرية أو غير عسكرية ضد إسرائيل. لذا، اختبأ خلف المقاومة اللبنانية ليستفيد بشكل طفيلي من ورقتها لتحقيق أهداف سياسية. ولاحت الفرصة الذهبية له، عندما أُدخلت سورية، في غمرة اعتداءات إسرائيل على لبنان في العام 1996، في “اتفاق نيسان” الذي أوقف عملية “عناقيد الغضب” ضد لبنان، ما فتح الباب أمام مفاوضات السلام بين دمشق وبين تلّ أبيب.[69]

 

أثناء عملية “عناقيد الغضب”، عندما كان حزب الله يمطر خلالها شمال إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا رداً على قتل وجرح المئات من الجنوبيين (مجزرة قانا على سبيل المثال)، كان سبعة وزراء خارجية أجانب موجودين في العاصمة السورية يطلبون ودّ الرئيس السوري من أجل إيقاف العنف في المنطقة. صحيح أن الرئيس الحريري نشط دولياً لوقف العدوان، وهو ما زاد من رصيده المحلي والدولي، إلا أنه بان بوضوح، أن تمسك دمشق بورقة حزب الله في الصراع ضد إسرائيل، جعلها تحقق نصراً عبر ضمها إلى “لجنة تفاهم نيسان”؛ فتقوت أهميتها الإقليمية، ما جعلها تحبط مشاريع إسرائيل للسلام المنفرد مع لبنان في العامين 1996 و1998.[70] إن عمليات حزب الله ضد إسرائيل، ورد إسرائيل عليها بضرب البنية التحتية اللبنانية، كانت رسائل متبادلة بين تلّ أبيب ودمشق، خصوصاً أثناء مفاوضات السلام بينها، والتي وصلت إلى طريق مسدود عشية تحرير جنوب لبنان عام 2000.

 

 

شاهد أيضاً

جدليّةٌ… إشراقاتُ خلود!

  دفعتَ إليّ بمخطوطٍ عنونتَه: “جدليّةُ الحضور والغياب”، فأشعرْتَني أنّكَ تضع بين يديّ سِفْرًا غاليًا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *