رؤيا موسيقية/رواية بقلم ريما داغر

 

 

 

 

 

رؤيا

موسيقيّة

 

 

 

 

ريما داغر
إسم المؤلفة: ريما داغر

إسم الكتاب: رؤيا موسيقيّة

النوع: قصّة

عدد الصفحات: 52

سنة النشر: 2021

بريد ألكتروني: Rimadagher2014@hotmail.com

Rima.L.Dagher@gmail.com

 

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلّفة

الرواية بصيغة pdf  اضغط على الرابط التالي:

رواية الموسيقى – Copy

 

 

إنّها الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم الأربعاء من أول أيّام أيلول. تتوجّه رؤى مثل عادتها من مكان عملها إلى منزلها وسط زحمة سير خانقة. ولا تكفي الزحمة كي يستشيط الجميع غيظاً في سياراتهم، لتكون حرارة الطقس أيضاً مرتفعة.

من الطبيعي أن يشهد لبنان ارتفاعاً في الحرارة في مثل هذه الأيام، بيد أن الطقس يتّجه نحو التغيّر المناخي كما والحال في كل العالم، وبالتالي نحو درجاتٍ حراريّة غير معهودة.

من ناحية أخرى، تسود البلاد هذه الأيام اضطرابات سياسية واجتماعية. فمنذ ما يقارب الشهرين، دخل لبنان أزمة اقتصادية حادةّ، كانت نتيجة سياسات حكومية فاشلة وفساد مستشري منذ سنوات طويلة في مؤسسات الدولة عامة. ما أدّى إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية، وانتشار البطالة، وتضخّم في الأوساق المالية، وارتفاع في أسعار السلع الغذائية الضرورية.  الأمر الذي دفع بإثارة الشعب وبدء التحرّكات الشعبية التي أخذت تتنقل من منطقة إلى أخرى. وهذا ما كان يزيد من زحمة السير أكثر فأكثر.

الضجيج في الخارج لم يمنع رؤى من سماع الموسيقى التي لا تستطيع القيادة من دونها. هي المولعة بالفنّ بأنواعه كافة، وهي معلّمة رقص في معهد. تدرّس رؤى الرقص لثلاثة أيام في الأسبوع بعد الظهر. واليوم، الأربعاء، لا صفوف لديها. أما بالنسبة للأمور السياسية، فهي لا تكترث لها إلا في إطار تأثيرها على البلد والأعمال والمستقبل. فقد لاحظت كما العديد من الشركات، تردّي في الأعمال وانخفاض واضح بنسبة الاستثمارات. الأمر الذي ينذر بكارثة حقيقية آتية. لذلك، كانت تشارك رؤى أحياناً في التحرّكات وتضمّ صوتها إلى صوت الباقين، القلقين على مصير البلد.

إذاً، تدرّس رؤى الرقص. أما عملها الأساسي، فهو في مجال الإعلانات. فمنذ تخرّجها من الجامعة، أي منذ حوالى الثلاثة عشرة سنة، وهي تعمل في كبرى شركات بيروت للإعلانات. وقد تقدّمت في عملها بفضل كفاءتها وذوقها وبراعتها كي تصبح المديرة التنفيذية منذ عامين للشركة وكل فروعها في لبنان.

أثناء مرندحتها لأغنية تسمعها على الراديو، رُنّ هاتفها الخلوي. أطفأت راديو  السيارة كي تجيب، والتقطت الهاتف من على كرسيّ خاص به، علّقتتها رؤى عند واجهة السيارة. إنه هشام، حبيبها يطمئنّ عليها كالعادة، ويسألها عن حال الطرقات.

هشام ورؤى على علاقة منذ سنتين، وهما متحابّان. ويبدو أن علاقتهما عقلانية أكثر منها عاطفية، أقلّه بالنسبة إليها. رؤى، وهي تبلغ من العمر الخامسة والثلاثين من العمر، لم تكن تفكّر بعلاقة جديّة إلا مؤخّراً، حين تحرّكت غريزة الأمومة بداخلها، ففكّرت بتوطيد العلاقة مع هشام وتطويرها للزواج بما أنّه رجلٌ محترم، ورصين وفيه صفات الزوج المناسب لها.

أما بالنسبة لهشام، فالعلاقة طابعها عاطفيّ بحت. لقد أَحبّها  من أول يوم لقائه بها. وقد استنزف الكثير من الوقت والمجهود كي يتقرّب من رؤى، وكي تسمح له بأن يكون رفيقها بادئ الأمر، ومن ثم تطوّر الأمر وبذل الكثير كي تقبل به كحبيبٍ لها.

أنهت الاتصال بهشام، وأعادت فتح الراديو، تتنقل من إذاعة إلى أخرى لا تجد ما على ذوقها لسماعه. لا تريد سماع الأخبار وتعكير مزاجها.  تقفل الراديو مجدداً… هي الأغاني باتت عشوائية، ساذجة. تُحضَّر بسرعة مثل كل شيء في هذه الأيام، من دون مجهود ولا معنى. تفتقر للحسّ الموسيقي الراقي الذي تحبّه رؤى. ولأن كل الأقراص الموسيقية التي في سيارتها قد سمعتها مراراً وتكراراً، قرّرت التوقف عند المجمّع التجاري على طريقها،  لشراء البعض الجديد منها.

غالباً ما تشتري حاجياتها من ذاك المجمّع، إذ إنه يحتوي على العديد من المحال  ومختلف البضائع متوفرة فيه. فالخيارات كثيرة وتستطيع الإتيان بحاجيّاتها وحاجيات المنزل التي تطلبها إليها والدتها وهي في طريقها من العمل إلى المنزل.

ها هي تقترب من المجمّع التجاري، وتتحضّر للالتفاف إلى جهة اليمين. وبعد لحظة، سمعت وسط الضجيج وفي خضمّ الزحمة الخانقة التي منعت السيارات من السير بسرعة، صوت موسيقى آتية من سيارة تمرّ من جانبها. أصاب رؤى دُوار مفاجئ، وشعرت بأنّ الأرض تتحرّك تحتها، وكأن الزمن والوقت قد توقفا برفّة عين. لم تعد تعي ما يدور من حولها، لقد أصبح عالمها فجأة: تلك الموسيقى. تغيّرت حالها تماماً. فما الذي أصابها حين سمعت تلك الموسيقى؟

ألغت فوراً نيّتها في التوقف عند المركز التجاري لشراء أقراص  موسيقية، وركزّت على مصدر الموسيقى. التفتت يمنة ويسرة، ولم يكن بالأمر الصعب لاكتشاف أيٍّ من السيارات تصدر الموسيقى، بما أن الجميع يسير ببطء وفقاً للزحمة.  ها هي السيارة التي إلى جانبها على جهة اليسار، تقودها سيدة وفي الخلف طفلتين، سبب توتّر رؤى المفاجئ. حين أدركت مصدر الموسيقى التي بدّلت حالها بلحظة، عمدت إلى أن تصبح وراء تلك السيدة في القيادة وتلحق بها.

***

 

 

 

قصّة رؤى مع الموسيقى والرقص قديمة جداً. فمنذ نعومة أظافرها، وهي تحبّ الغناء والرقص. وقد سجّلها أخاها سامر الذي كان يكبرها بخمس سنوات في معهد حيث بدأت بتعلّم الرقص مذ كانت في العاشرة من العمر. حين بلغت الرابعة عشر، توقّفت عن ارتياد المعهد وصفوف الرقص، بسبب فاجعة عائلية ألمّت بوالدها وأخيها اللذين قضيا إثر حادث سير.

بعد سنتين من الانقطاع عن المعهد، عاودت رؤى الرقص في معهد آخر بحيث إنّها انتقلت مع والدتها للسكن في منطقة أخرى، إلى حين تخرّجها من الجامعة حيث بدأت بالعمل بمجال اختصاصها، الإعلان، وتعليم الرقص في آن.

تتميّز رؤى بشخصية جذابة، مليئة بالفكاهة والذكاء والإبداع. هي اجتماعية بالدرجة الأولى، تحبّ الناس والرفاق والسهر واللقاءات. إنه عالمها الذي لا تتخلّى عنه، ولا تتأخر عن الخروج إلى سهرة مع الرفاق مهما كانت الظروف. إلا في حال عياء والدتها التي تكنّ لها كل العاطفة التي تحتويها في قلبها، والتي حُرمت من توزيعها على أفراد عائلتها الأُخر بسبب غيابهم المبكر.

وهشام، حبيبها، يرافقها في كل تحرّكاتها تقريباً. هو لا يحبّ السهر مثلها، لكنّه اعتاده من أجلها، فمن أجل رؤى، يتخطّى هشام كل المعوقات.

يعمل هشام في شركة مقاولات هو مالكها وقد ورثها عن أبيه. كما ورث منزلاً كبيراً في سفوح جبل لبنان، وبناءً من ست شقق في وسط بيروت. إّنه ميسور الحال، ولا مشاكل ماديّة لديه.

هشام شاب رصين، محترم، كريم، لكنّه يحرص دائماً على خلق مسافة بينه وبين الناس. فهو من هذه الناحية لا يتّفق مع رؤى التي لا تجد حجة لوضع تلك المسافات بينها وبين الجميع.

بالنسبة لرؤى، الطبع يغلب التطبّع. وهذا طبعها. وهي لا تقوم بأي مجهود لاختيار تصرّفاتها ولا التحكم بخياراتها. ودائما ما تقول لهشام بأنها لا تمانع من الاختلاط بأيّ من الناس والتعرّف إلى آخرين جدد، ولا ضير عندها إن اكتشفت أنها أخطأت في ذلك. فالحياة عندها لا تساوي شيئاً كي تحمل الهمّ والقلق والترقب لما سوف يحصل، أو لما قد يظهر من الناس لاحقاً، كما وأن الحياة في النهاية مدرسة نتعلّم منها على الدوام.

أما هشام، فمفهومه للعلاقات الاجتماعية مغاير تماماً. إذ يظن بأنه لا ضرورة لأن نتقرّب ممن ليس لنا معهم أيّ شأن، فإن هذا الأمر يُبعد المشاكل ويقفل الباب أمام عراقيل هو بغنى عنها.

مهما يكن من أمرٍ واختلافات في الآراء بينهما، يجد هشام ورؤى دائماً الحلّ في احترام كلّ منهما لخيارات ومعتقدات وتصرّفات الآخر. ولأنهما ناضجان كفاية، يجعلان العقل هو الذي يتحكّم بالعلاقة بينهما القائمة على الاحترام والتفاهم.

***

 

 

 

ها هي رؤى تلحق بالسيارة بترقّب. لا تبتعد عنها ولا تدعها تغفل عن عينيها للحظة. متمسّكة بالمقود بكل قوتها، جاحظة عيناها، ونبضات قلبها متسارعة. هاتفها يرنّ مجدداً. لا تلتفت نحوه. إنّها والدتها ربما تريد أن تسألها إن كانت قد اقتربت من الوصول، أو لتطلب منها أن تحضر معها بعض الحاجيات.

وفي خلال القيادة، أخذت تستذكر ماضيها، وبالتحديد سنين مراهقتها وأيّامها في المعهد الموسيقي التي ارتادته أولاً. راحت تفكر- وهي تقود وتلاحق تلك السيدة في السيارة- بتاريخ مراهقة عنوانه تلك الموسيقى الصادرة منها. فهذه الموسيقى مِلكٌ لرؤى. كيف ذلك؟

لقد ألّفها ولحنّها لها شابٌ في المعهد، كانت مغرمة به عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها. كان أول حبّ في حياتها. أهداها إيّاها وتواعدا على أن لا يفرّط أيٌّ منهما بهذه الموسيقى وأن لا يُسمعها أحدٌ منهما إلى أحد آخر ثالث، فتبقى صلة التواصل بينهما مهما افترقها ولكلّ العمر. تحتفظ رؤى بنسخة من هذه الموسيقى لديها تستذكر من خلالها حبّها الأول، ذاك الحبّ العظيم الذي يجتاح كيان مراهقة ولا تنساه طوال حياتها.

لقد أخذ الوقت وضجيج الحياة من أهمية تلك الموسيقى لديها. فبعد أن كانت تسمعها كل يوم، كادت رؤى أن تتوقف عن سماعها تماماً. لكنّها بقيت عالقة في ذهنها، ولم يكن ممكناً أن تنساها. خاصة وأنها تعود إلى فترة المراهقة، والمشاعر المتدفّقة المجنونة، كذلك أوقات المعهد التي كانت من الأجمل لديها.

ارتبكت رؤى لسماع موسيقاها في سيارة امرأة غيرها. فكبرياؤها قد تحطّم. أو ربما قد شعرت بالغيرة. أفكارها مشوّشة في هذه اللّحظات، ومشاعرها ليست بواضحة.

إذاً، بعد كل تلك السنوات، ها هي اليوم، تسمع موسيقاها في سيارة امرأة ما. وتنتابها الحشرية لمعرفة المرأة تلك. ووسط الأفكار التي وردت إلى ذهنها، كانت الفكرة الأبرز  عندها، تدور حول اللّحاق بالسيارة علّها توصلها إلى حبيبها الأول بسّام،  صاحب المعزوفة.

انتاب رؤى شعورٌ غريب، من التوتر والقلق، ودقّات القلب السريعة. إنه نتيجة المفاجأة التي تلقّتها، كما ونتيجة الذكريات التي حضرت أمامها وبقوّة، بعد غياب.

منذ أن انتقلت مع والدتها إلى السكن في مكان آخر، وتوقّفت عن ارتياد المعهد، رؤى المراهقة لم تعرف شيئاً عن بسّام. وكأنهما أصبحا كلّ في بلد. لم يبقَ لديها منه سوى ذكرى تلك الموسيقى. ومع ذلك، بقيت ذكراه معها عبر موسيقاه، تستمع إليها على الدوام في سرّها وتستذكر حبيباً أولاً وتشبع غرورها من ذكراه وحبّه القوي لها الذي جعله يؤلّف لها تلك الموسيقى….

ولكن، من تلك التي تسمع موسيقاي الآن؟

***

 

السيدة سعاد والدة رؤى. تبلغ من العمر ستين سنة. عانت صعاباً جمّة منذ موت زوجها وابنها. ترك لها زوجها حمل الاعتناء برؤى وحمايتها، بمفردها. أمّا ابنها، فقد ترك الحمل الأثقل، لا بل كسر لها جناحيها. فتداعيات موت الأبناء على الآباء لهيَ شديدة القسوة والصعوبة، ولا تُقارن بأي خسارة أخرى.

كانت أول سنة بعد الحادثة صعبة جداً. فقد انتقلت السيدة سعاد من المنزل حيث كانا يسكناه بالإيجار، إلى منزل يملكانه في بيروت بعد أن طلبا من المستأجرين مغادرته. وراحت تفتّش عن عملٍ لها، وهي لم تحصّل علمها الثانوي. فأخذت تتنقل من عملٍ إلى آخر: عملت أولاً كنادلة في مطعم، ثم كمحاسبة في المطعم نفسه. بعدها انتقلت للعمل كسكرتيرة لدى طبيب أسنان، وبعدها حصلت على وظيفة عامة في إحدى مراكز العدلية في بيروت. كان هذا العمل الأنسب لها، إذ أمّن لها معاشاً تقاعدياً ستتقاضاه بعد سنتين.

السيدة سعاد امرأة جميلة. لكن الحزن  أخفى جمالها، وحوّلها إلى المرأة التي لا تفارق الدمعة عينيها. فحرقة قلبها على زوجها وولدها كانت ظاهرة على مُحيّاها.  إلّا حين تلتقي بابنتها رؤى، التي هي بلسم جراحاتها. فتأتي سعاد من عملها متحمّسة لتحضير الطعام لابنتها، وتجلسان معاً  وتتحدثان في الشاردة والواردة، وتضحكان وتخطّطان لأمورهما سوياً.

لا تُخفي رؤى شيئاً عن والدتها البتة. تخبرها بأدقّ التفاصيل، وكذلك تفعل الوالدة.

وفي الأسابيع الأخيرة، فاجأت السيدة سعاد رؤى بخبرٍ، لم تكن لتتوقّعه من والدتها. فقد أخبرتها بأن هناك موظفاً في الدائرة معها، إسمه أنور، وقد توفيت زوجته منذ سنة تقريباً، تقدّم إلى السيدة سعاد وهي تكتب تقريراً، منغمسة في عملها، وأعرب لها عن إعجابه بها.

حين سمعت رؤى بذاك الخبر، أخذت تضحك من دون توقف. ما أثار امتعاض والدتها، وسألتها عن سبب ضحكها.

  • ما بكِ تضحكين رؤى؟ هلى بما قلتُه شيئاً ما يثير السخرية؟
  • لا أمّي، ليست سخرية أبداً… لكن الخبر فاجأني خاصة وأن الخجل يظهر على وجهك وأنت تخبرينني .. فقد احمرّت وجنتيكِ (تبتسم رؤى في سرّها).
  • أخجل؟ وممَّ أخجل… لقد فاجأني أيضاً مثلما تفاجأتِ… على كل حال… انتهينا من الموضوع… انتهى كل شيء..
  • كيف انتهى كلّ شيء أمي. ماذا قلتِ له؟
  • لم أقُل سوى ما يجب أن أقوله: “ما بك أنور، نحن كبيران كفاية على هذه المواضيع، أيٌّ إعجاب هذا.. لو سمحت إذهب إلى مكتبك ولا تعيد ذكر الموضوع”…
  • آه أمي… لكن لماذا؟ لماذا لا تعطي لنفسك فرصة؟ أنت وحيدة منذ زمن ويحقّ لك بأن تحظي بشريك…
  • توقفي رؤى.. شريك ماذا… لقد عجّزت ولا تهمّني هذه المواضيع…

 

باعتقاد السيدة سعاد، أنها أصبحت في الستين من عمرها،  وأنها لا يحقّ لها أن تحبّ، أو أن يكون لها علاقة عاطفية. وقد مرّ العمر من دون شريك يؤانسها، لذلك تستطيع إكمال ما تبقى على الحال عينه. مع العلم بأنها قد كانت محطّ إعجاب العديد من الرجال خلال شبابها، وقد رفضت الكثير من الفرص لعلاقات جديّة، وكل ذلك بسبب تركيزها على تربية رؤى وحزنها على ابنها وزوجها منعاها من التفكير بالأمور العاطفية، ظنّاً منها أنه ممنوع عليها التفكير بنفسها أو الزواج مرة أخرى.

***

 

 

 

لماذا ما زالت رؤى تهتمّ لهذه الدرجة بموسيقى حبيبها الأول؟ وكيف تحوّلت كل اهتماماتها في لحظة كي تعرف كل شيء عن تلك الموسيقى؟ هل أنّ ذكريات الصبا قويّة إلى هذه الدرجة وما زالت تفعل فعلها في نفس رؤى؟ هل كانت فعلاً ناسية الموسيقى وبسّام واليوم تذكرتهما؟ أم إنهما كل ذاك الوقت في بالها؟ لكن ما هذا الشعور من الامتعاض من جهة لأن الموسيقى لم تعد ملكها وحدها، والحنين من جهة أخرى لموسيقى صُنعت لأجلها؟

كلّ هذه الأسئلة كانت تدور في ذهن رؤى وهي تلحق بتلك المرأة. لم تعد تبالي بما يحدث من حولها، لا بل نسيت العالم. ظلّت تلاحق السيدة مع الطفلتين حتى وصلت إلى بناية كبيرة، دخلت من بوابّتها السيدة وركنت سيارتها. ترجّلت السيدة من السيارة ببطء، وقد ظهرت لرؤى امرأة طويلة، نحيفة، بكامل أناقتها. تسدل شعرها البنيّ على أكتافها، وتضع النظارات الشمسية. تفتح السيدة الباب الخلفيّ من السيارة وتُنزل الطفلتين منها. تُمسكهما بيديها، تحيّي الناطور الجالس على كرسيّ إلى جانب البوابة، تناديه، تعطيه المفتاح، وتطلب منه إنزال الأغراض من صندوق السيارة وتوصيلها إلى المنزل.

ورؤى في هذه الأثناء، راكنة سيارتها في الجانب المقابل، تراقب  بدقّة كل التفاصيل كما يراقب الشرطي المكلّف بتقفي أثر أحد المُطالبين للعدالة.

ما إن يحمل الناطور الأغراض، ويختفي من المكان، حتى تترجّل رؤى من السيارة وتقترب من البناية باحثة عن شيء يشفي غليلها ويجيب عن أسئلتها. وما إن اقتربت من المدخل حتى وقفت مسمّرة أمامه، مصدومة. فقد رأت لافتة باللّون الأزرق مكتوب عليها أسماء القاطنين في البناء ومن بينهم : السيدة والسيد أرسلان.

إنه هو. تهتف رؤى من دون وعي. إنه بسّام إرسلان. حبيبي الأول. لا بدّ أن هذه زوجته وولديه.

بعد الوقوف لدقيقتين أمام الاسم، تحدّق به وتتأمل في كل حرف، استفاقت من صدمتها وعادت راكضة إلى سيّارتها قبل أن يعود الناطور.

دخلت السيارة، أخذت نفساً عميقاً، وضعت رأسها على المحرّك، أغمضت عينيها قليلاً، ثم أدارت المحرّك وانطلقت للعودة إلى المنزل بعد رحلة الاستقصاء تلك.

***
يتحضّر أصدقاء رؤى لحفلة وداع الصيف. وككلّ سنة، يختارون مكاناً جديداً لهذا الغرض. يتفّقون عليه، ويخطّطون معاً. تكون الحفلة في نهاية شهر أيلول، وهي ليست الحفلة الأخيرة بالنسبة إليهم، إذ إنّه لا يمرّ أسبوع إلا ويلتقي الجميع في سهرة أو لقاء. شتاءً وصيفاً، في العواصف كما في الجوّ الهادئ. لكن حفلة نهاية الصيف عادة اتفقوا عليها منذ زمن، فلا يدعون مناسبة تمرّ إلا ويقومون بالاحتفال.

لم يحدّدوا هذه السنة بعدُ المكان. وقد ارتأوا جميعاً على اللقاء في نهاية الأسبوع، لكي يبحثوا في الموضوع. هشام طبعاً سيكون حاضراً. فبالرغم من عدم حماسته للأمر، لكنه لا يتخلّف عن الحضور ولا يفارق رؤى في مشاريعها. إنه ملاكها الحارس، الحبيب، الصديق المتفهّم دائماً لكل اهتمامها.

السنة الماضية، كان الاحتفال في مطعم في إحدى قرى الشوف. وقد قضوا بعده يومين هناك، في فندق المطعم، استمتعوا كثيراً وغرفوا المرح مع كل دقيقة مرّت.

الأصدقاء جميعهم لطفاء. عددهم خمسة مع رؤى، باستثناء هشام. ثلاثة شبان وفتاتين. التقيا منذ أيام الدراسة في الجامعة، ولم يفترقا أبداً. وكلّ منهم يعرف تفاصيل حياة الآخر.

عماد، متزوج من رفيقتهم أروى منذ ثلاث سنوات. لديهما فتاة عمرها سنة ونصف. يعيشان مع والدة أروى التي تهتمّ بالفتاة أثناء خروجهما. هما متحابّان ولطيفان جداً. يعمل عماد كمدير في محطة محروقات وزوجته أخصائية تجميل.

سعيد، الرفيق الثاني، يعمل كمصمّم ديكور. مطلّق، بعد زواج لم يدم أكثر من سنتين. فقد اكتشف بعد الزواج أن العروس تعاني من مرض عصبيّ حاد، وتتناول الأدوية. لم يكن ذلك سبب الطلاق، بل كان إخفاؤها الموضوع عنه طيلة فترة خطبتهما هو السبب.

يعاني سعيد من الضائقة المادية خاصة وأن تكاليف العرس كانت باهظة، فهي لم تقبل بأقل من حفلة ملوكية في أكبر صالات بيروت. ما ترتّب عليه الكثير من الديون، أضيفت إليها مصاريف الطلاق. وهو في الأيام الأخيرة، وبسبب الوضع العام في البلد، شبه عاطل عن العمل.

أما الرفيق الثالث، فهو  عادل. عادل محامٍ، وهو ما زال عازباً، لكنّه على علاقة بفتاة منذ أشهر قليلة. يصطحبها معه أحياناً إلى لقاءات الأصدقاء.

الرفاق الخمسة في علاقة وطيدة، ثابتة، في كل مراحل حياتهم.

***

 

 

 

أنور لم يستسلم. وقد أصرّ على التحدّث مراراً  وتكراراً  إلى السيدة سعاد مع إبداء كل الاحترام لها كعادته. والسيدة سعاد، تجافيه وتتحاشى اللّقاء به، أو حتى النظر إليه. لكنها في قرارة نفسها كانت تتمتّع باهتمامه بها. وتتمنّى أن لا يتوقف عن محادثتها والنظر إليها.

بدأت تشعر بأنوثتها التي تناستها كل تلك السنوات المريرة. كما أصبحت تهتمّ أكثر  فأكثر بمظهرها في كل صباح قبل الخروج إلى العمل. تنتقي الملابس الأنيقة، تشتري الجديد منها، تزور مصفّف الشعر بطريقة مكثّفة، تضع مساحيق التجميل وتتعطّر. ولا شك بأن رؤى دق لاحظت هذا التغيّر في تصرّفات والدتها، وقد التزمت الصمت كي لا تُحرجها. لكن رؤى كانت سعيدة بتصرفات أمّها، كما وكانت ترغب بأن تقبل بالعلاقة مع زميلها في العمل.

نجوى، زميلة سعاد في العمل، تأتي ذات يوم اثنين ومعها بطاقات دعوة لزملائها لمناسبة زواج ابنتها. الحفل في مطعم مشهور من مطاعم بيروت، والدعوة لشخصين. أكّدت سعاد على حضورها مع ابنتها، كما أكّد الجميع ذلك إيضاً. فهم زملاء من سنين، ويتشاركون المناسبات العائلية  جميعهم.

العرس بعد ثلاثة أسابيع. وأنور، الزميل المعجب، متشوّق جداً وقد سأل وأكد على سعاد مراراً وتكراراً حضورها. وهي تكرّر على مسمعه، وتجيبه: وكيف لا ونجوى زميلتنا وقد دعتنا على عرس ابنتنا؟

هي متحمّسة، ليس فقط لأنه زفاف ابنة زميلتها، بل أيضاً  لأنها ستلتقي بأنور وهي بكامل أناقتها، لكنّها لا تُظهر له ذلك. ما زال الخجل، أو الإحراج الذي تشعر به يسيطر عليها.

ذهبت سعاد إلى السوق لشراء فستان، وحذاء يناسبه. وكانت لفترة طويلة لا ترتدي سوى الألوان الداكنة. ربما هي نفسيتها التي تنعكس على مظهرها. أو ربما الألوان الفاتحة بالنسبة إليها جريئة. لكنها هذه المرة، وقبل الدخول إلى المحل، كانت قد اختارت أن تشتري لها فستاناً أحمراً.

وهذا ما حصل. في أول متجر دخلت عليه، طلبت من الموظفة أن تُريها الفساتين الحمراء الموجودة لديها. وبعد تجربة ثلاثة فساتين، اختارت واحداً أنيقاً جداً. حريريٌّ، طويل، ضيّق، ظهر مفاتن جسمها الستيني، الذي لم تشوبه شائبات الدهر الكثيرة. إنها تتمتّع بجسم جميل مع بعض الدهون على خاصرتيها، لكنها لم تخفِ مشيتها الغيداء وتفاصيلها الأنثوية.

أما الحذاء، فكان الكعب العالي، لونه فضيّ، اختارت ما يناسبه من حقيبة يدّ، صغيرة تليق بحفل عرس.

بعد شراء الفستان والحذاء والحقيبة، توجّهت نحو مصفف الشعر لتختار التسريحة المناسبة. وبعدها إلى متجر لشراء الحليّ الناعمة من أقراط أذنين، وسلسال، كذلك ابتاعت ساعة فضيّة جميلة.

***

 

 

 

كانت الحياة تسير على سجيّتها. رؤى وهشام متفاهمان على الزواج لكنهما لم يحدّدا الموعد بعد. فرؤى تؤجل دائماً معتبرة أن لديهما كل الوقت،  ما داما معاً ومتفقان على المضي سوياً طوال العمر. والوالدة سعاد بخير، طالما رؤى بخير. لكن في الفترة الأخيرة، وقد استحوذت رؤى فكرة استرجاع بسام، لاحظ هشام وسعاد التغيير البادي عليها.

لقد أخبرت والدتها بما حصل معها، ونصحتها بدورها سعاد بعدم الانجرار وراء الموضوع، بما أنه ماضٍ ولا فائدة من استرجاعه اليوم في حين كل شيء تغيّر. لكنّها لم تكن مطمئنّة لرؤى، التي لم تقتنع بنصيحة أمّها.

أما هشام الذي ضاق ذرعاً من تصرّفات رؤى الأخيرة. يطلبها على الهاتف لا تجيب، يراسلها لا تجيب، يأتي إليها إلى المنزل، تخلد إلى النوم بحجة التعب. حتى إنه كلّمها أكثر من مرة بشأن اجتماع الأصدقاء في نهاية الأسبوع، من أجل حفلة نهاية الصيف، ولم تُبد للأمر أهمية، ولم ترد الذهاب، فاجتمع الاصدقاء من دونها. وقد استاءوا هم أيضاً لأنها لم تعد تجيب على اتصالاتهم.

هشام، الهادئ، بات غاضباً جداً من سلوك رؤى المستجدّ. لا يعرف ما الذي أصابها فجأة. كان على وشك إنهاء العلاقة، لكنه قرّر إعطاءها فرصة،  أو أقلّه الابتعاد قليلاً علَّ البعد يفيد.

وكأن رؤى ضربها الجنون. فهي مستعدة الآن لخسارة الجميع مقابل استعادة بسام. بسّام الذي لديه عائلة، زوجة وطفلتين ويعيش حياته بسلام. وهي لديها هشام الذي يحبّها. باتت تتصرّف كمراهقة، تجرّها أحاسياها الجياشة من دون أن تحسب أي حساب.

لم تبالِ بما قد يحدث لعلاقتها مع هشام.

كان جلّ تركيزها حول كيفية استعادة حب بسّام لها. فهذه الموسيقى عُزفت لها، وليس لأحد الحق بسماعها سواها. وكانت مقتنعة في قرارة نفسها بأن بسام حاول أن يجدها، لكن انتقالها مع والدتها آنذاك قد حال دون ذلك.

***

 

 

 

بعد تفكير استحوذ عقلها لساعات طويلة، وجدت رؤى خطّة لدخول حياة بسام.

ستدخل منزله، عبر التعرّف إلى زوجته والتقرّب منها. تريد أن تعرف تفاصيل حياتهما. أن تكتشف أولاً طبيعة علاقته مع زوجته، إن كان فعلاً يحبّها، كيف يتعامل مع العائلة، وبعدها والأهم، تريد أن تعرف إن كانت ذكراها في قلبه وعقله ما زالت ساكنة.

ربما هو جنون من رؤى. لكن حياتها الآن أصبحت تتمحور حول حبّها الأول، وكأنها تعيش هناك الآن. سافرت عبر الزمن، وانتزعت منه الأحداث وأتت بها إلى واقعها الآنيّ.

لقد وضعت خطة لخطواتها اللاّحقة. وكان أولّها اشتراكها في النادي الرياضي الذي تتردّد عليه زوجة بسّام كل يوم لممارسة الرياضة. لقد عرفت تحرّكاتها كي تدخل حياتها. وهذا ما حصل. ذهبت رؤى وتسجّلت في النادي الرياضي عينه. لتكون الخطوة التالية في التقرّب من الزوجة والمحاولة بأن تكونا صديقتين مقرّبتين. هي الطريقة الوحيدة لولوج المنزل، ومعرفة ما يخبّئه من أسرار تريد رؤى اكتشافها.

من جهة أخرى، بدأت الحياة تسوء شيئاً فشيئاً. فقد تضاءلت ساعات العمل في القطاعات كافة بسبب الأزمة الاقتصادية. وتكاثرت التحركّات الشعبية بحيث أصبح التنقّل من منطقة إلى أخرى صعباً جداً. ومن حسن حظ رؤى، أن النادي قريب من منزلها. فهي أصبحت تعود باكراً من العمل، تذهب لتعليم الرقص الذي اقتصر على يومين بدل الثلاثة، وترتاد النادي في الأيام المتبقيّة.

***

 

 

 

دخلت رؤى النادي بحماس مطلق. ليس لممارسة الرياضة بل لتنفيذ خطتّها. كانت زوجة بسّام قد وصلت قبلها بربع ساعة، وبدأت بالتمارين على آلة المشي. جهّزت رؤى نفسها ووقفت على الآلة بقرب زوجة بسام تماماً.

بعد مضي خمس دقائق على التمارين، بدأت رؤى بالتحدث إلى المرأة:

  • مرحباً….

نظرت المرأة إليها وابتسمت ابتسامة خفيفة وأجابت:

  • مرحباً…
  • إنها المرة الأولى لي في هذا النادي…. أراه مناسباً ومشجّعاً… (تقول رؤى)
  • نعم… إنه نادٍ جيد… مضى على ارتيادي عليه نحو سنتين (تجيب زوجة بسام)
  • إذاً، إنّه جيد…. بالمناسبة أنا رؤى…
  • أهلاً بك… أنا سهام…
  • تشرّفت مدام سهام….
  • الشرف لي

(تنزع سهام من على عنقها المنشفة، تمسح وجهها، تتنهد تنهيدة عميقة، ثم تتوقف عن التمارين وتنزل عن الآلة).

  • حسناً، سأنتقل إلى آلة أخرى…. عندما ننتهي من التمارين، أتريدين أن نشرب القهوة سوياً في مقهى النادي؟ (تتوجه سهام بالسؤال إلى رؤى)
  • أه طبعاً، بكل سرور…

كانت سهام امرأة لطيفة جداً، محبة للناس وتتمتّع بشخصية مميزة تتسم بالأناقة في شكلها وحديثها. وقد وفّرت على رؤى جهداً كبيراً في التقرب منها… فهذا ما كانت تسعى إليه…

انتهت التمارين، وها هما جالستان معاً تشربان القهوة.

رؤى تحدّق بسهام وبكل تفاصيلها، تراقب تحرّكاتها، طريقة جلوسها، كلامها، أظافرها، شعرها… لم تترك شيء في سهام إلا ودرسته درساً تفصيلياً، وأثناء الدراسة كانت الغيرة تتآكلها من الداخل…

بدأتا كل واحدة بسرد حياتها للأخرى: التخصص الجامعي، الوضع العائلي …. سهام خرّيجة صحافة، عملت لسنتين بعد تخرّجها ثم تزوجت وتفرّغت لعائلتها… لديها ابنتين وزوج (بسّام) الذي، قالت لرؤى أثناء حديثها، أنه الزوج المثالي الذي تتمنّاه كل امرأة…

استشاطت رؤى غيظاً لسماع سهام تتحدث بكل هذا الحب عن زوجها… فهل هما حقاً سعيدان لهذه الدرجة؟ أخذت تتساءل….

لكن رؤى لم تظهر حنقها، لا بل كانت تبتسم دائماً لسهام… وقد أصرّت على دعوتها إلى الغداء في المرة المقبلة بعد ممارستهما التمارين الرياضية، فوافقت سهام….

***

 

 

توالت اللّقاءات، وتوطّدت العلاقة بين الاثنتين، وها هي سهام تدخل منزل رؤى وتتعرّف إلى والدتها. لم تخبر رؤى سعاد بهُوية الصديقة الجديدة. ومن جهة أخرى، كانت سعاد دائمة الحيرة بسبب تصرّفات رؤى في الآونة الأخيرة: ابتعدت عن رفاقها، باتت منشغلة على الدوام بالرغم من انعدام الأشغال وتدهور حالة البلاد، وأصبحت باردة جداً مع خطيبها….

وفي أحد الأيام، وبينما كانت سهام تتناول القهوة في منزل رؤى، رنّ هاتفها، فقالت لرؤى ووالدتها عذراً، إنه زوجي بسام، سأجيب…

ما إن سمعت سعاد بإسم بسام، حتى التفتت نحو ابنتها، وجحظت بعينيها كأنها تسألها إذا ما تفكر به صحيحاً، خاصة وأن رؤى كانت قد أخبرت والدتها بأن ذكريات الماضي عادت … هل هو ذاك البسّام؟ تتمتم سعاد بشفتيها محدّقةً بابنتها…

أشاحت رؤى بنظرها عن والدتها، وأخذت تتنصت إلى ما تقوله سهام وهي لا تنبري بعد كل كلمة مع زوجها عن قول “حبيبي” له…

***

 

دخلت رؤى دوّامة لن تستطيع الخروج منها. واقتحمت حياة بسام لتستعيد حبّاً قديماً عرفته منذ مراهقتها…

فأخذت تكثّف زياراتها إلى منزل سهام، حتى دعتها هذه الأخيرة في يوم عطلة إلى مائدة الغداء لديها مع العائلة… العائلة، أي بسام والطفلتين. لقد حان الوقت لتلتقي به، وتكتشف ردة فعله عند رؤيتها….

لم تفكّر رؤى بعواقب ذاك اللقاء، كيف سيتصرّف بسام… من الممكن أن يمرّ كل شيء بشكل طبيعي… لمَ لا؟ لقاء معرفة بعد سنين طويلة… ولكن كيف سيؤثر التعارف المستجدّ على زوجته؟ ورؤى لم تفصح من قبل لسهام بأنها تعرف بسام… رؤى التي تردّدت كثيراً إلى المنزل، ورأت صور بسام، وهي على علم باسمه الكامل، كيف لم تقل من قبل لسهام بأنها تعرف زوجها منذ زمن بعيد؟ ربما ستكون حجّتها بأنها لم تتذكره ….وربما لم تعد رؤى تهتم لكل ذلك، بل إن جلّ اهتمامها هو اللقاء ببسام….

أما والدة رؤى، فقد علمت بكل شيء… وطفحت تؤنبها على تصرّفاتها وتطلب منها الكفّ عن زيارة منزل سهام… وتردّد على مسمعها: “هو الآن رجل متزوج، وسعيد مع زوجته، ما الفائدة من كل ما تقومين به… إضافة إلى أن لديك حبيب وستقدمين على الزواج به…”.

لم يعد من كلام يجدي. ورؤى مثابرة في مخطّطاتها…. وضعت نصب عينيها هدفاً ولم تعد تبالي بما يدور من حولها… وانفصلت عن أمّها، عن خطيبها، عن أصدقائها، وحتّى عن متابعة أخبار البلد ومستجدّات التحرّكات الشعبية التي كانت تشارك بها…

***

 

 

 

جاء اليوم المنتظر…

وصلت رؤى بأناقة لافتة إلى منزل بسام.

في يدها باقةً من الورورد البيضاء…

دقّت الباب بكلّ رويّة… بخلاف دقّات قلبها الذي كاد أن يخرج من صدرها لشدّة اضطرابه وخفقانه وحماسه…

فتحت سهام الباب، والابتسامة المعهودة على ثغرها، وتقدّمت نحو رؤى تقبّلها قبلتين وتدعوها للدخول.

وبعبارات التأهيل، استلمت سهام باقة الورود من رؤى وشكرتها على ذوقها….

تقدّمت رؤى بضع خطوات، كانت بمثابة مشوار طويل وهي تنتظر رؤية الحبيب… وما إن وصلت غرفة الجلوس حتى تنبّهت لرجل يجلس على الأريكة، ويقرأ الجريدة…

إنه بسام…

ما إن لاحظ قدوم الضيفة، حتى تأهب واقفاً، واضعاً الجريدة من يده على طاولة صغيرة بقربه، مبتسماً ابتسامة عريضة مؤهلاً وقائلاً:

  • أهلا رؤى… لقد أخبرتني سهام كثيراً عنك، هي تحبك فعلاً، هذا ما شوقني للتعرف إليك..

قال بسام كلماته واقترب ليسلّم على رؤى، التي لم تعرف بمَ تجيب، وظلت صامتة إلى أن تفوّهت أخيراً بكلمتين:

  • أهلاً بك….

لم يبدُ على بسام أنه تعرّف إلى رؤى، الأمر الذي فاجأها وخيّب أملها… وقد ظهرت مظاهر الخيبة على وجهها، حتى إن سهام سألتها عن سبب تجهّمها المفاجئ، وقد تحججت رؤى بإصابتها بألم خفيف في المعدة….

جلس الثلاثة حول طاولة الغذاء، وانضمّت حالاً الطفلتين إليهما، بعد إلقاء التحيّة على رؤى… ويبدو أن بسّام كان يقرأ أخباراً سياسية غير سارة في تلك الجريدة، لأنّه ما إن جلس حتى بدأ بالتذمّر من الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية الحاصلة…. فطلبت إليه زوجته بكل رقّة أن ينسى تلك الأخبار، كي يستمتعوا بالطعام. فأمسك يدها وقبّلها، ونظر إلى رؤى مؤكّداً لها أنها ستتذوق أفضل طعام من يد زوجته….

***

 

 

في أثناء الغداء، ما برحت رؤى تفكّر بما يحدث… لم تفهم كيف أن بسّام لم يعرفها… حتى إنه لم يشبّهها بأحد يعرفه منذ زمن… كيف ذلك؟؟ لقد سيطرت التساؤلات على رؤى ما جعلها بالكاد تأكل… وبسام يروي حكايات ويضحك مع سهام ورؤى تتصنّع الضحك معهم…

لقد كان الزوجان على انسجام تامّ وبدت علامات الحب عليهما والاحترام المتبادل بينهما… ورؤى لاحظت هذا الأمر تماماً، ما أغضبها فعلاً، إضافة إلى عدم تعرّف بسام عليها…

ولأن رؤى لم يعد يهمّها شيء، وبعد أن كانت تفكّر بتجاهل بسام لها، قاطعته وهو يتحدث عن مغارمة له في العمل وسألته:

  • أستاذ بسام، أريد أن أسألك شيئاً…

استغرب بسام وزوجته من تصرّف رؤى بمقاطعته، لكنّهما وبلياقتهما المعهودة ابتسما لها معاً، وطلب بسام إليها أن تتفضل بسؤالها.

  • هل كنت منذ سنين إلى الوراء في معهد للغناء والرقص؟

متفاجئاً من سؤالها، ومستمرّاً في الابتسام، يجيب بسام على الفور:

  • نعم… أنا خرّيج المعهد الموسيقي…. كيف تعلمين ذلك؟
  • لقد كنت في المعهد عينه، لتعلّم الرقص…
  • أه، حسناً…. لكننا لم يسبق وأن التقينا أو تحادثنا، صح؟ لأننا لو فعلنا ذلك لكنت تذكرت…

حزنت رؤى جداً لما قاله بسام، وخُيّبت آمالها،  وتأكدت أنه لا يتذكرها أبداً… لكنّها استدركت الأمر وأكملت بالمحادثة…

  • نعم، نعم… لكنني لمحتك بضع مرات، لذلك وجهك لا يزال مألوفاً لي وقد تعرّفت إليك…
  • نعم بالطبع… على كل حال، هناك العديد من طلّاب المعهد الذين يعرفونني، خاصة حين نشرت الموسيقى الخاصة بي، وأخذت رواجاً…
  • أي موسيقى؟ (سألت رؤى)
  • لا شك بأنّك سمعتيها آنذاك (ويلتفت نحو سهام ويطلب إليها أن تشغل القرص المدمج لتسمع رؤى الموسيقى).

توجّهت سهام نحو الصالة وشغّلت الموسيقى…. وما إن انطلق اللّحن، حتى كادت رؤى أن يغمى عليها…. لم تفهم شيئاً، لم تعد تدرك ما الذي يحصل…

وفي هذه الأثناء، والموسيقى التي يسمعها الجميع هي الموسيقى عينها الخاصة برؤى- على حدّ عزمها- يخبر بسام وبكل فخر أنه حين لحنّ تلك الموسيقى وعرضها على أستاذه، أثنى عليه ذاك الأخير وأخبره بأنه سينشرها لتصبح بمتناول الطلاب كافة، وهذا ما حصل…

إذاً، ما الأمر؟ وما قصة تلك الموسيقى؟

أليست موسيقى رؤى؟ وكيف لا يتذكّر بسام رؤى؟

***

 

 

 

 

 

حين كانت رؤى مراهقة، طالبة في المعهد، كان بسّام يعزف البيانو والغيتار فيه. وكانت رؤى مغرمة به. حين تنتهي من صفوف الرقص، تسترق السمع إليه وهو يعزف مع أستاذه. كانت كلّ يوم تجلس ساعة على باب غرفة بسام في المعهد، وتتأمله أثناء أدائه. لقد ملأت كيانها منه ومن موسيقاه.

وكانت الموسيقى التي تظن بأنّها لها، هي التي قدّمها لأستاذه في أحد الأيام. تفاجأ بها الأستاذ كثيراً وأعجب بها وهنّأ بسام على موهبته وتمنّى له مستقبلاً موسيقياً ناجحاً. وطلب منه أن يضع نسخاً منها في المعهد كي تكون بمتناول الجميع، فليس من الشائع أن يقوم تلميذ في السادسة عشرة من عمره  بتأليف معزوفة موسيقية بهذه الروعة.

كانت رؤى من دون شك، من أول الذين اشتروا تلك الموسيقى.

وفي أحد الأيام، وخلال استراقها للسمع على باب بسّام في المعهد، جاءت أستاذة المعهد ونادت رؤى لتنقل إليها خبر مفجع، وهو أن أخاها ووالدها تعرّضا لحادث أليم. على إثر الخبر، في تلك اللّحظة، أصيبت رؤى بدوار حادّ وسقطت أرضاً. نُقلت إلى المشفى بعدها حيث أمضت أسبوعاً كاملاً، وتبيّن بعدها أنّها تلقّت صدمة قوية. عاشت رؤى لمدة شهر في ضياع تام. تضاربت المعلومات في ذاكرتها، وكأنها كانت عملية للخروج من الواقع. وبعدها استفاقت واستوعبت خبر فقدان أبيها وأخيها.

كان شقيقها أقرب شخصٍ إليها، ويجسّد لها السعادة في الحياة. علاقتهما قوية جداً، لحدّ أنها، حين فقدته، تلقّت صدمة قوية وكأن شيئاً قد سُلخ عنها.

لكن بعض  المعلومات بقيت متضاربة لديها. وقد ظنّت بأن الموسيقى التي كانت تسمعها، قد قدّمها بسام لها، الذي كانت تجمعه بها علاقة عاطفيّة قوية.

أما الحقيقة، فهي أن بسّام لم يرها في يوم، ولم يتحدّث إليها، ولم يعزف لها الموسيقى. كانت كلّها أوهام عاشتها رؤى طوال تلك السنوات نتيجة الصدمة العاطفية التي تلقّتها إزاء فقدان والدها وأخاها، خاصة أخاها الذي كان يقدّم لها كل العاطفة والدعم. وكأن بحبّها الوهميّ لبسام، استعاضت رؤى عمّا فقدته من خسارة لفردين من العائلة، وعاشت في ذكرى صوّرتها مخيّلتها لشخص قدّم لها حباً عظيماً ترتوي منه وموسيقى عُزفت لها وحدها….

***

 

 

 

بعد عناء تكبّده أنور، وصل أخيراً إلى مبتغاه وهو قلب سُعاد. فلم يترك فرصة إلا واستغلّها للاهتمام بها. من مفاجئتها بوضع وردة لها في كل صباح على مكتبها، إلى كلامه المعسول والمتقن لامرأة حسّاسة، إلى الإحساس بها إذا ما جاءت في يوم حزينة إلى المكتب. فلا مجال بعد ذلك أمام أيّ امرأة لأن ترفض رجلاً بهذا الإحساس واللّياقة.

لذلك، محت سُعاد الماضي، كي تعيش الحاضر. قرّرت أن تتنعّم بما تبقّى لها مع رجل يشاركها أيّامها، نهاراتها ولياليها. لقد أنجزت أعمالها وما طُلب منها في الحياة. حزنت، تعبت، عانت، كدّت وحققت أفضل ما كان يجب أن تحققه. وبعدُ؟ لماذا تستمرّ بطمس ما يعتريها وكبت مشاعرها وعدم التمتّع بأنوثتها؟

أعطاها أنور  حافزاً لحياة جديدة، لحاضر مشرق، ومحوٍ لمستقبل. ليس بالضروري أن يكون محواً، إنّه تخطّي ربما. تخطّي مرحلة لن تفيد إذا ما استمرّت بالتشبث بها.

أما رؤى، فما فعلته هو العكس تماماً. فقد دعت ماضيها يأخذ مكان حاضرها. أربكت حاضرها كي تسترجع ماضِ هو وهم. هو وهم بسبب  صدمة أدخلت أفكارها في استنتاجات خاطئة، بقيت معها طوال عمرها. والآن، تستغني عن حاضرها، عن مستقبلها مع هشام، لأجل ذاك الماضي.

وكما دخلت الوهم بسبب صدمة، هي اليوم مصدومة من حقيقة، لم تستطع استيعابها.

حقيقة أن بسّام ليس حبيبها وليس هناك من موسيقى خاصّتها. لكنّها بدل من أن تصلح أمورها مع هشام، وتمضي قُدماً نحو مستقبل معه، رفضت أي ارتباط بعد ذلك وأي مستقبل جديد، وأي حبّ حقيقيّ بعيدٍ عن وهمٍ، بعيدٍ عن موسيقى هي سراب!

 

 

النهاية

 

 

                     الموسيقى في رأي الكاتبة      

  • حين يخرج الإحساس ليعبّر عن نفسه، فيحتّك بأثير يحتويه ومن ثم يتفّهمه، تخرج موسيقى!
  • الموسيقى، صراخ الروح!
  • لا عجب بأن تكون الموسيقى من أقدم الفنون، كي تكون قد ساعدت الخليقة في التحمّل، كلّ تلك العصور، عبر سحرها!

شاهد أيضاً

لبنان في دوامة الجيوسياسة: قدره أم خياره؟ 1969 – 2010

مؤتمر “جغرافية لبنان السياسية عبر التاريخ”. تنظيم كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية – …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *