جريدة اللواء 21 و22/10/2011
لبنان الطائفي والطريق المسدود إلى الدولة الحديثة
الطائفية المجتمعية سبقت الطائفية السياسية
عبد الرؤوف سنّو
أستاذ في الجامعة اللبنانية
تترسخ الطائفية والمذهبية، كما هو معروف، في البنيان الاجتماعي والسياسي والثقافي في لبنان يوماً بعد آخر، وتمنعانه من الانتقال إلى مصاف الدولة الحديثة، على الرغم من أن اللبنانيين يتكاذبون بأن ديمقراطيتهم التوافقية الفريدة في منطقتهم جعلتهم يعيشون حالة من العيش المشترك أو العيش الواحد. لكن الواقع على الأرض يدحض ذلك تماماً، ذلك أنهم أسسوا دولة طائفية فاشلة أعاقت بناء الدولة الديمقراطية والمواطنة وقيام الدولة المدنية. فما هي الدولة الحديثة، وما هو واقع لبنان الطائفي والمذهبي، ولماذا لا يتحول إلى دولة حديثة؟
سأقارب الموضوع من خلال رصد مقومات الدولة الحديثة، والدولة الطائفية بمكوناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكذلك في إطار هوية لبنان وعلاقته بالخارج، طارحاً الفرضية بأن الطائفية المجتمعية سبقت تاريخياً الطائفية السياسية، وأن الأخيرة هي نتاج الأولى، وأن الحالة المجتمعية الطائفية تتأثر إيجاباً وسلباً بباروميتر التوافقات السياسية أو الخلافات. أخيراً، أن الطائفية موجودة بقوة في الحالات المذكورة، وأصبحت مستعصية في الجسم اللبناني، وتمنع لبنان من التحوّل إلى دولة حديثة ووطن لجميع أبنائه.
1- الإطار النظري: ماهية كل من الدولة الحديثة والدولة الطائفية
الدولة الحديثة، على الصعيد الاجتماعي، هي تلك المؤسسة التي تبني سلطتها وفق أسس وآليات قانونية ديمقراطية يتفق عليها أفراد المجتمع ويرتضون بها، وتعمل على تطوير قيم المساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وتحمي التعددية في مجتمعها بأشكالها الدينية والسياسية والثقافية. وفيها يتساوى جميع أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات بعيداً على المحسوبية والمحاباة، وتتماسك فئاته ومكوناته وراء فكرة الدولة والهوية الوطنية، ما يؤدي إلى قيام مجتمع مدني فاعل يراقب سياساتها ويوجهها. أما من الناحية الثقافية، فتسود في الدولة الحديثة ثقافة الحوار والتسامح والاعتراف بالآخر بين مكوناته البشرية والرغبة في العيش معاً، رغم الاختلاف والتعددية. والدولة الحديثة هي، على الصعيد السياسي، تلك التي يساهم الشعب في قراراتها، وتقوم على المؤسسات التمثيلية والتنفيذية وفصل السلطات، وعلى تداول السلطة بطرق ديمقراطية سلمية وسليمة، وكذلك على قانون انتخاب يتمثل فيه الجميع، ويكون لديها القدرة على توحيد شعبها وصونه من المنازعات الداخلية، والإسهام في اتخاذ القرارات لحل المشكلات الدولية. كما توفر الدولة الحديثة الخدمات لمواطنيها من دون استثناء وتوزع الثروات بعدالة ومساواة، وتجعل التنمية الشاملة تصيبهم جميعاً. لكن يبقى أن من أهم مقومات الدولة الحديثة، هو الفصل بينها وبين والدين، وبينها وبين المجتمع. وكل المقومات المذكورة للدولة الحديثة، تؤدي إلى ظهور هوية جامعة يستظل تحتها المجتمع، جماعات وأفراداً.
أما بالنسبة إلى الطائفية والمذهبية، فهما في الأساس معطى اجتماعي يتعلقان بالجماعات التي ترتبط كل واحدة منها برباط ديني أو مذهبي مختلف عن الأخرى، بغض النظر عن مستوى تدينها. وقد تنشأ عن الطائفية/المذهبية المجتمعية هوية ثقافية تقوم على الدين وعلى خصوصية الطائفة في محيطيها الضيق والواسع، وعلى تمجيد ماضيها وتجاربها التاريخية، ويحصل تمركز على الذات، وتقتصر العلاقات بين الطوائف في هذه الحالة على الوظيفية والبروتوكولية وحدهما، اللتين لا تؤديان إلى حدوث اندماج مجتمعي. لكن الطائفية/المذهبية المجتمعية تنتج معطى سياسياً، عندما تعمل كل طائفة أو مذهب على تسويق أهدافها وسياساتها وفق انتمائها الديني أو المذهبي، فيتشكل نتيجة ذلك نظام طائفي سياسي تتفق فيه قيادات الطوائف والمذاهب على تقاسم السلطة ومؤسسات الدولة وفق محاصصة طائفية ومذهبية. وبذلك، تتحول الطائفية الاجتماعية إلى ولاء سياسي للطائفة، ينتج عنها تعصب طائفي أو مذهبي، في العلن وفي الخفاء، فضلاً عن خطاب طائفي/مذهبي وتحاسد وصراع على المناصب والمراكز والثروات. ولا يكون للأفراد وكفاءاتهم ومؤهلاتهم في مثل هذا النظام فرصاً للنهوض ببلدهم، فيتقدم الانتماء الطائفي ويغيب الانتماء الوطني، وتنشأ عن ذلك المحسوبية والمحاباة وعلاقة زبانية تربط المواطن بالدولة ومؤسساتها عبر الزعيم الطائفي أو الحزب الطائفي. وفي ظل الطائفية/المذهبية السياسية، لا وجود لمجتمع مدني يراقب ويصحح ويوجه، إذ تنقسم مكوناته على أساس تبعية طائفية، ولا تنشأ كذلك ديمقراطية حقيقة يتساوى في ظلها المواطنون في الحقوق والواجبات، ولا يُكرس مبدأ المواطنة. وبعض المجتمعات التي تقوم على أساس الدين أو العرق أو الاثنية، تدعي تطبيق ما يُسمى بـ “الديمقراطية التوافقية”، حيث يتم تقاسم المناصب على أساس حصص للطائفة أو المذهب، وتتخذ قرارات الدولة بالتوافق بين الطوائف والمذاهب. لكن خطورة هذا النوع من الديمقراطية أنه قد يتعطّل عند أول خلاف بين مكونات المجتمع الطائفية على إدارة الحكم أو على نسبة الحصول على المنافع من الدولة، ويجعل بعض المناصب والمراكز السياسية حكراً على طائفة دون أخرى. كما يؤدي هذا النظام إلى تغييب ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر. وإذا ما بنيت “الديمقراطية التوافقية” على أساس النسبية لكل طائفة أو مذهب في المغانم من النظام الطائفي وفق حجمهما الديموغرافي، فقد تتحول تلك الديموغرافيا إلى “مشاغبة”، عندما تطرأ تغييرات على الحجم السكاني للطوائف والمذاهب، ما يدفع بعضها إلى المطالبة بحصص أكثر أو أكبر، أو ربما فرض هيمنة ما، ويؤدي بالتالي حدوث صراعات داخلية، ما يجعل كل طائفة تتطلع إلى الخارج للحصول على الدعم منه وفق الانتماء الطائفي أو المذهبي وبالتالي الاستقواء به على خصومها من الطوائف الأخرى. ولهذا السبب، لا يمكن أن ينتج عن النظام الطائفي قيام مجتمع متلاحم أو مندمج، بل مجتمع قائم على التعايش. ويحمل هذا النمط من العلاقات احتمالي الوفاق أو الصدام بين مكونات المجتمع والاستنجاد بالخارج.
2- الطائفية المجتمعية سبقت الطائفية السياسية
رغم أن لبنان لم يعرف الطائفية السياسية إلا منذ العام 1861، إذ كانت الصراعات حتى تاريخ الاحتلال المصري للبنان العام 1831 تقوم على النزاعات الحزبية والتحالفات الإقطاعية – السياسية التي كانت أقوى من الطائفية. كان بإمكان التحالفات حول المصالح في جبل لبنان أن توحد ما بين مختلف الطوائف الدينية من القمة الإقطاعية حتى القاعدة الفلاحية. لكن وحدة المصالح هذه لم تخترق جدار العزلة الاجتماعية لكل طائفة، وخاصة في القرى، وتؤمن “العيش المشترك”، أي إطار للعلاقات في المجتمعات المندمجة، إذ بقيت كل طائفة، على دينها ويقينها تمجد قيمها وتطور ثقافتها بمعزل عن الأخرى، ولم يتعد تعاونها معاً حدود تلبية المصالح المتبادلة على أساس العلاقات الوظيفية والتعاون في المجالين العسكري والسياسي. وفي مدن لبنان، عاش المسلمون والمسيحيون بشكل عام في أحياء منفصلة، حتى أن أحياء بكاملها اقتصرت على جماعات وطوائف وعائلات معينة. وهذا ما أعاق حصول اندماج مجتمعي تلقائي. إن ما منع مثل هذا الاندماج، هو نظام الملة العثماني الذي لم يؤسس لمواطنة، وأعطى الأقليات الدينية استقلالية في إدارة شؤونها الداخلية؛ فقوى من شخصيتها الطائفية والثقافية ومن تطلعاتها نحو الخارج. وفي لبنان، استفادت الطوائف المسيحية من نظام الملة بتكوين حضورها المستقل وخصوصيتها بمعزل عن محيطها الإسلامي. كما أن نظرة المسلمين إلى أنفسهم على أنهم الأمة صاحبة السيادة في “دار الإسلام”، أسهمت في الانفصام المجتمعي بين مسلم وذمي، وأعاق بالتالي عملية الدمج الاجتماعي.
لقد تعززت الطائفية المجتمعية مع إنشاء دولة لبنان الكبير، عندما توسعت حدود جبل لبنان بضم طوائف إسلامية من “بلاد الشام” إليها. وقد كرس الدستور اللبناني لعام 1926 في مادتيه 9 و10، بعدما تخلى عن دوره في الدمج الاجتماعي، استقلالية الطوائف في إدارة شؤونها الداخلية والدينية وأحوالها الشخصية، فعادت الطوائف المسيحية بذلك إلى ما يشبه نظام “أهل الملة” العثماني، حيث تمتعت كل طائفة دينية باستقلالية وخصوصية في شأن إدارة أحوالها الشخصية وشؤونها الدينية والتربوية، ومعها هذه المرة الطائفة الإسلامية. وما لبثت الطائفية المجتمعية أن تعززت في لبنان المستقل، عندما صدر العام 1955 قانون ينظم الطوائف الإسلامية، جاعلاً من “دار الفتوى” المرجعية الرسمية للمسلمين في لبنان. وبحلول العام 1967، جرى تنظيم شؤون الطائفة الشيعية والاعتراف باستقلاليتها في إدارة شؤونها الدينية وأوقافها ومؤسساتها بشكل منفصل على الطائفة السنّية، التي كانت حتى ذلك الحين تحتكر تمثيل الطوائف الإسلامية. فظهر إلى الوجود “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” إلى جانب “دار الفتوى” السنّي، وتحول الأول إلى قوة سياسية للطائفة الشيعية، وأسهم في ظهور مذهبية سياسية. وفي العام 1995، جرى الاعتراف بالعلويين اللبنانيين طائفة إسلامية مستقلة، وحصلت على حقوق سياسية واجتماعية. وفي العام 2000، صدر “قانون تنظيم مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز” الذي نظم أحوال الطائفة الدرزية. من هنا، يصح القول إن لبنان شكل كونفدرالية مجتمعية طوائفية/مذهبية تحت مظلة دولة موحدة.
عشية استقلال لبنان، تضافرت جهود اللبنانيين من مختلف الطوائف على ترسيخ الكيان اللبناني عبر ميثاق اجتماعي سمي بـ “الوطني”، قضى بتعايش المسيحيين والمسلمين على أساس انخراط الجميع في الدولة والنظام من خلال التفاهم على نسب المشاركة في السلطة السياسية (الصيغة)، وفي اتخاذ القرارات وفق ما سمي بـ “بالديمقراطية التوافقية”. لكن هذا التوافق، حمل معه مخاطر كثيرة، وهي أن الديمقراطية تلك صنفت المواطنين على أساس طائفي/مذهبي، وانتهكت مبدأ تساوي الفرص بينهم، وأغرقت الإدارة بفائض من الموظفين غير الأكفاء لاعتبار التوازن الطائفي، وكانت تتحول إلى نزاعية في غياب التوافق والتفاهم بين الطوائف حول موضوعات كثيرة، ومنها الصلاحيات والمناصب، وعدم التزام الطوائف بالبعد الخارجي للميثاق الوطني، باعتماد الحيادية في سياسية لبنان الخارجية؛ فشلّت كل هذه المسائل عملية صناعة القرار. من هنا، لم يؤد الدستور اللبناني ولا الصيغة أو الميثاق إلى قيام دولة حديثة في لبنان، إذ أبقت على الانفصام المجتمعي على أساس طوائف ومذاهب، بدلاً من صهرها في إطار وطني على أساس تأمين العدالة والمساواة للجميع في الحقوق والواجبات.
ظلت الطوائف اللبنانية تتكاذب على بعضها بعضاً في شأن تعايشها بأنها تعيش حالة فريدة من الديمقراطية، متجاهلة تنامي الشكوى الداخلية حول المشاركة السياسية والإنماء المتوازن، وحول ضرورة تحييد لبنان عن الصراع العربي – الإسرائيلي. فأزاحت الأحداث بين الأعوام 1968 و1975 الستار عن هشاشة الديمقراطية التوافقية، عندما تعطل التوافق بين الرئاستين الأولى والثالثة بسبب الخلاف حول دور لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى المقاومة الفلسطينية. فاندلعت الحرب الداخلية العام 1975، وتورطت الطوائف في العسكرة وفي لعبة الأمم. كان أهم ما سببته الحرب على الصعيد الاجتماعي، هو تلاشي الاختلاط الطوائفي السابق، بعدما حلّ الفرز الطائفي في مؤسسات الإنتاج والخدمات تبعاً للمنطقة الجغرافية، وأدى التهجير القسري والإرادي، بسبب التخويف، دوراً مهماً في ضرب التعايش بين الطوائف اللبنانية، وفي التواصل في ما بينها، وأفسح في المجال أمام التقوقع الطوائفي – المناطقي. كما أدى تهجير المسيحيين أو هجرتهم من ناحية أخرى، إلى وقوف وليد جنبلاط ضد بيع العديد من المسيحيين أراضيهم وممتلكاتهم في مناطق عاليه وساحل الشوف إلى الشيعة، خشية إقامة حزام شيعي يطوق الجبل، ما يُفقد الجبل بالتالي هويته الدرزية – المسيحية.
وبسبب الطائفية المجتمعية، لم يلعب الزواج المختلط أو الاختلاط في الجامعة أو في المدرسة والأنشطة الاقتصادية فوق الطائفية دوراً في التواصل أو التلاحم الاجتماعيين أو التقريب بين القيم والثقافات. كما لم تتمكن المنظمات والهيئات والنوادي المختلطة التي وجدت خارج الانتماء الطائفي من تشكيل قنوات انفتاح واتصال بين طوائف المجتمع اللبناني وفئاته، أو أن تكون أداة لتغيير اجتماعي – سياسي. وقد ظلت أعداد الزواج المختلط قبل الحرب ضئيلة جداً بين المسلمين والمسيحيين، ثم تلاشت خلالها. وهذا طبيعي جداً في ظل “الأنا” و”الآخر”، والثقافة والتربية المجتمعية الطائفية، وفي ظل التشريعات الدينية القائمة، وخصوصاً زواج المرأة المسلمة من رجل مسيحي. حتى الزواج المدني الاختياري لم يجد طريقه إلى التشريع في العامين 1998 و2002 فوقفت الطوائف الدينية، وأولها الإسلامية، ضد المشروع. سبق ذلك، استطلاع قامت به صحيفة النهار لعينة من اللبنانيين حول موقفها من الزواج المدني، ففضّلت نسبة 80% منهم أن يكون عبر الهيئات الشرعية لطوائفهم. وفي خريف العام 2007، شكل الزواج المدني المعقود في خارج لبنان نسبة 2.3%، أي 700 حالة من أصل 30 ألف حالة زواج وفقاً لقوانين الأحوال الشخصية الدينية الإسلامية والمسيحية. ووفق استطلاع قامت به “الدولية للمعلومات”، أيدت الزواج المدني نسبة 62% من المسيحيين الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس، مقابل 43.8% في الجانب الإسلامي السنّي والشيعي والدرزي. أما المعترضون عليه، فشكلوا نسبة 30.9% من مسيحيي الطوائف الثلاث، و51.4% من المسلمين بطوائفهم المذكورة. أما من لا رأي له، فشكلوا نسبة 7% في الجانب المسيحي، و4.7% في الجانب الإسلامي. وقد بين الاستطلاع، أن الموارنة هم أكثر الطوائف قبولاً بالزواج المدني بنسبة 65%، في حين كانت الطائفة السنيّة الأكثر اعتراضاً عليه بنسبة 60%، وذلك نتيجة سوء فهم لمعنى فكرة “العقد المدني” بتأثير رجال الدين المسلمين، خصوم الزواج المدني التقليديين. أما الشيعة والدروز، فكانت نسبة المعترضين على الزواج المدني تحت 50% بقليل. على كل حال، فتصريح البطريرك الراعي بأنه يؤيد الزواج المدني الإلزامي، يجعل الكنيسة المارونية في موقف معارض للمؤسسات الروحية الإسلامية، التي لا ترفض الزواج المدني الإلزامي، بل لا توافق حتى على الاختياري منه.[1]
(الدولية للمعلومات، تشرين الأول http://www.lebanonissues.com/ar/?p=117
بعد الحرب، فُتحت المناطق بعضها على بعض، وعاد التواصل التدريجي بين أبناء الطوائف، لكن أكثر من نصف مهجري الحرب لم يعد إلى مسكنه بسبب الخوف من “الآخر” وانعدام الثقة بالعيش إلى جانبه. وقد عمل الاحتلال السوري للبنان على تغذية التناقضات بين الطوائف والمذاهب لتسهيل سيطرته على البلاد، فقوى الشرخ المجتمعي بين “مسلم عروبي”، و”مسيحي خائن” يحمّل أرث التعاون مع إسرائيل، وقرّب إليه الشيعة من حركة أمل، ومن حزب الله بعد العام 1990 كمقاومة ضد إسرائيل تتبع حليفه إيران. وأبقى النظام السوري على تحالفه مع الدروز، فيما جعل من رفيق الحريري مرجعية أحادية للسنّة، بعدما أضعف قياداتهم خلال الحرب أو قضى عليها، ما تسبب بحالة خوف مزمنة لدى السنّة، وبالتالي الانصياع لأوامر المخابرات السورية. أما بالنسبة إلى المسيحيين، فأحاط النظام السوري نفسه بمجموعة من أصحاب المناصب والمنافع، مقابل شريحة واسعة من المسيحيين المقاومين لوجوده العسكري والسياسي (بكركي، قرنة شهوان، ميشال عون). لقد انحسرت مقاومة الاحتلال السوري للبنان بمجموعة من الشبان والشابات المسيحيين، ما تسبب بشرخ مجتمعي، بين مسيحي مقاوم للوجود السوري، ومسلم عاب عليه المسيحيون صمته عن هذا الوجود، بل تأييده على حساب السيادة اللبنانية – هذا السيادة التي كانت يومها شعاراً مقتصراً على العونيين والقواتيين والكتائبيين في تظاهراتهم الشبابية. لكن الوضع هذا ما لبث أن انقلب جذرياً منذ العام 2005.
إن اغتيال الحريري وقيام “ثورة الأرز”، جعل اللبنانيين من مختلف الطوائف يتجمعون في ساحة واحدة (ساحة الحرية) للتعبير عن إرادتهم في استقلال حقيقي للبنان. فوحدتهم السياسة وليس القيم المشتركة والعلاقات الاجتماعية، وظهر تقارب كبير في المواقف السياسية بين المسلمين والمسيحيين حول رفض الوجود السوري في لبنان. وعلى ذمة دراسة ميدانية أُجريت مؤخراً، فإن الزواج المختلط تصاعد إلى النسب الضئيلة التي كان عليها في مرحلة ما قبل حرب لبنان، لكن بين مسلمين ومسيحيين من تيارات سياسية متحالفة: بين مسيحيي ومسلمي من 14 آذار، وبين مسيحيين من تيار التغيير والإصلاح وشيعة من حزب الله وحركة أمل، ما يدل على أن السياسة في لبنان تقرب الناس إلى بعضهم بعضاً، وليس العلاقات الاجتماعية التي من المفترض أن تقوي الاندماج المجتمعي. وطالما أن السياسة متقلبة وغير ثابتة، فمعنى ذلك أنه لا يمكننا أن نتحدث عن ثبات في العلاقات الاجتماعية، طالما أن الأخيرة تتأثر بالأولى. وظهر هذا بوضوح في الأحداث التي شهدها لبنان منذ أواخر العام 2006، نتيجة الخلاف بين الطائفتين السنيّة والشيعة على المحكمة الدولية وعلاقة لبنان بسورية. فأدت السياسة، على الرغم من التحالف “الرباعي” الإسلامي في انتخابات العام 2005، إلى شرخ اجتماعي بين السنّة والدروز من جهة، وبين الشيعة من جهة أخرى، توج بالتباعد الخطير بين السنّة والشيعة في مطلع العام 2007 وبعد أحداث أيار 2008، وتُرجم في تدهور العلاقات المجتمعة بين أبناء الطائفتين في الشارع والحي. حتى الانفتاح الاقتصادي بين المناطق والطوائف وتردد المسلمين على المطاعم والملاهي في المناطق المسيحية وتقديم لهم ما يتناسب مع عاداتهم وتقاليدهم، لم يحدث بسبب انفتاح “الأنا” على “الآخر”، أو بسبب السياسة، وإنما لأسباب وظيفية. وعلى كل حال، فإن تنامي بيع أراضي المسيحيين إلى مسلمين، وخاصة من الشيعة، في مرحلة ما بعد الحرب، زاد من الشرخ الاجتماعي. صحيح أن المسيحي الذي يبيع أرضه أو عقاره وينتقل قسراً للسكن في منطقة أكثر أمانا أو يهاجرً، يفقد مع الوقت ذكريات عن موطنه الأصلي، إلا أن بيع الأراضي بشكل واسع في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، وبعد تحرير الجنوب، وتحديداً منذ أن بدأ حزب الله يفرض ظله على الأرض وعلى الدولة اللبنانية بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان العام 2006، تسبب بمخاوف كبيرة لدى المسيحيين وجعل البطريركيات المسيحية تدق ناقوس الخطر. وعلى الرغم مما يقدمه ميشال عون من دعم لسياسة حزب الله، فإن المخاوف الدرزية والمسيحية من جراء عمليات شراء واسعة لربط المناطق الشيعية في الجنوب بالبقاع الغربي، والخلاف مؤخراً في ضواحي جبيل حول أراضي تدعي البطريركية المارونية أنها تملكها، وأخيراً وليس آخر، انتقال ملكية معظم الأراضي في الضاحية الجنوبية (الحدث وسقي الحدث والوروار ووادي شحرور) إلى شيعة، كل هذه المسائل تسبب نقمة اجتماعية وكراهية ومخاوف بين الطوائف.
3- الثقافة والهوية: وجه آخر للطائفية المجتمعية
من الثابت تاريخيّاً، أن المسيحيين كانوا من رواد فكرة القومية العربية في بلاد الشام للتخلّص من الحُكم العثماني. وقبل سقوط الدولة العثمانية بقليل، جاهروا بالعروبة وبالوطن السوري عبر جمعيّاتهم الأدبية والسرية لإيجاد قواسم مشتركة بينهم وبين المسلمين للتحرر من الحُكم العثماني. وعلى الرغم من تأثر المسيحيين بالثقافة الفرنسيّة، إلاَّ أن اللغة العربية لم تضعف عندهم، بل ظلّوا يتباهون بإجادتها والحفاظ عليها، فضلاً عن المجاهرة بانتمائهم إلى الثقافة العربية. كانت الأمّة العربية في نظرهم من أعظم الأمم في التاريخ، وكان لها حضارة قبل الإسلام وصار لها حضارة أرقى بعد الإسلام.
عقب الحرب العالمية الأولى، ومع إنشاء “دولة لبنان الكبير”، وفي ضوء المسار التاريخي للطائفتين الرئيسيتين المارونية والسُنّية وموقفهما المتعارض من “لبنان الكبير” وهوية الوطن الثقافية والسياسية، وتحوّل القومية العربية إلى مشروع بأيدي المسلمين، خشي المسيحيون الموارنة والروم الكاثوليك، في ضوء الاتّجاهات الوحدوية العربية وخلط المسلمين بين العروبة والإسلام، من أن يتحوّلوا إلى أقلّية في بحر عروبي – إسلامي وبالتالي الذوبان في الثقافة الإسلامية ويُهمش بالتالي دورهم؛ فتحولوا إلى القومية اللبنانية. وحاول المسيحيون تكريس هويتهم الثقافية في “الميثاق الوطني” تحت عنوان “لبنان ذو وجه عربي”، أي أن لبنان متعدد ثقافياً، وأن الثقافة العربية هي وجه من وجوه ثقافته. في المقابل، فهم المسلمون أن لبنان عربي الثقافة والانتماء، ورفضوا مقولة التعددية الثقافية. فأصر المسيحيون خلال حرب لبنان على التعددية الثقافية، في حين تشبث المسلمون بوحدة الثقافة العربية، ولم يدركوا أن التنوع الثقافي هو مصدر غنى للبنان. كما اعتبر المسلمون أنفسهم جزءاً من أمة عربية لها ثقافتها الإسلامية وحضارتها، وأنهم يشاركون في مصيرها وفي الصراع العربي الإسرائيلي. في المقابل، تخوف المسيحيون من عروبة مختلطة بالإسلام، ومن تورط لبنان في صراع عربي – إسرائيلي يجعلهم يخسرون كل منجزاتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية.
من هنا، فإن أكبر عيب في التجربة الميثاقية أنها غيبت فكرة الوطن عند جميع اللبنانيين، وجعلت من لبنان حيزاً جغرافياً تتعايش فيه طوائفه الدينية بثقافتها المتنوعة وتجاربها التاريخية، وتسعى كل واحدة إلى تأكيد هوية متغايرة عن الأخرى. فبدأت المسألة الثقافية تُوظّف من قبل كل طائفة في الكيان الجديد، لتأكيد خصوصيّاتها وماضيها وقيمها في النزاعات الطائفيّة، وصولاً إلى هوية طائفيّة، وتوظيفها في الصراع السياسي، مع العلم أن الخلافات لم تكن بالضرورة ذات منحى ديني، ودارت في معظمها حول دور لبنان السياسي وموقعه بين العالمين العربي والغربي. وبسبب الاختلاف على ثقافته وعلى الماضي وعلى حاضره حول علاقته بمحيطه العربي ومجتمعه الدولي، لا يزال لبنان حتى اليوم من دون كتاب تاريخ رسمي موحد.
إن حسم اتفاق الطائف مسألة هوية لبنان وانتمائه، أكد ما كان المسلمين ينادون به منذ ما قبل حرب لبنان. لكن الاتفاق من جهة أخرى، أضعف مقولة المسيحيين الموارنة حول هوية لبنان، وانبرى البعض منهم إلى رفض تلك العروبة. وكان لا يزال هناك من المسيحيين الموارنة في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين من يرى بشكل مناقض لاتفاق الطائف، أن الثقافة العربية والهوية العربية ليستا سوى وجه من أوجه الثقافة والهوية عند اللبنانيين. وقد انبرى أحد الباحثين اللبنانيين المعاصرين قبل سنوات إلى التفريق ما بين الهوية الثقافية والهوية السياسية. فرأى أن اللبنانيين متفقون بعد الطائف على هوية لبنان العربية من الناحية السياسية، لارتباط مصيره بمصير الوطن العربي. لكنه اعتبر أن الهوية الثقافية للبنان متعددة، وخلص إلى أن التحدي الكبير الذي يواجهه لبنان هو الظهور أمام العالم وطناً متعدداً ثقافياً وموحداً سياسياً، وأن هذا وحده يحقق “العيش المشترك”. وبرأينا، إن التطورات التي تحصل منذ العام 2005، أفقدت لبنان الوحدة السياسية المنشودة، وحتى الهوية القديمة التي شكلت لعقود عديدة قاعدة استقرار مجتمعي مقبولة تلاشت في ظل استيلاد هوية جديدة، وحيث أضحى الصراع على الهوية، ليس بين الهوية اللبنانية والهوية العربية، كما جرت العادة منذ تاسيس دولة لبنان الكبير، بل بين الهوية اللبنانية والهوية الإسلامية (الفارسية)، أي بين مسيحيين، ومسلمين سُنّة ونخب شيعية طوت غالبيتهم إلى حين صفحة العروبة “السورية” الزائفة عقب اغتيال الرئيس الحريري وتحولت إلى الهوية اللبنانية، وبين قوى إسلامية، غالبتها شيعية بزعامة حزب الله تخضع لولاية الفقيه، وتسعى لفرض قيمها على اللبنانيين يرفضونها.
4- النظام الطائفي السياسي: طريق الأزمات المفتوحة؟
إن ما يعانيه لبنان اليوم من مشكلات، هو تراكم سلسلة من الأخطاء منذ نشأة الكيان اللبناني العام 1920، عندما جرى توحيد لبنان الحالي من جماعات دينية مختلفة، ذات توجهات إيديولوجية وثقافات متباينة وتجارب تاريخية متباينة. ما حدث قبل الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها، شكل إشكالية نافرة في تاريخ لبنان. فقد اعتُمد التوزيع الطائفي النسبي في الإدارة اللبنانية منذ عهد المتصرفية العام 1861، فتم بذلك زرع بذور الطائفية السياسية. في ذلك التاريخ، حصلت كل طائفة دينية في جبل لبنان على نسبة من التمثيل في مجلس الإدارة وفق حجمها الديموغرافي، مع الإشارة إلى أن نسبة 80% من سكان الجبل كانت في حينه من المسيحيين، غالبيتهم من الموارنة. لقد جرى الاعتراف بست طوائف دينية (الموارنة والأرثوذكس، والكاثوليك، والدروز، والسنّة والشيعة)، ولكل منها ممثلان. لكن الموارنة اعترضوا على تلك “المساواة”، وطالبوا باعتماد الأكثرية العددية باعتبار أنهم يمثلون ثلثي سكان الجبل. فتم لهم ذلك العام 1864، وحصلوا على أربعة أعضاء، واختير رئيس مجلس الإدارة من بينهم. وسوف ترتبط قاعدة التمثيل الطائفي وتوزيع السلطات والمناصب والصراعات عليها، منذ ذلك الحين، بالديموغرافيا لكل طائفة، صعوداً أم هبوطاً. وفي العام 1912، طالبت الطائفة المارونية بمقعد خامس لها استناداً إلى أكثريتها العددية، وحصلت عليه.
وما لبثت الطائفية أن تكرست في الدستور اللبناني العام 1926، بموجب المادة 95 منه، التي اعتبرت الطائفية حالة مؤقتة في النظام اللبناني من أجل استتباب العدل بين الطوائف. لكن هذا المؤقت، أضحى منذ ذلك الحين ثابتاً غير قابل للتعديل أو التغيير أو الإلغاء. فأفرز هذا النظام صراعاً تاريخياً بين الطوائف علىالمشاركة في الحكم، وعلى الصلاحيات في الرئاسات الثلاث الأولى، وعلى الإنماء المتوازن، ما جعل كل طائفة تتطلع نحو الخارج للاستقواء به على شريكاتها في الداخل.
وعلى الرغم من أن الدستور اللبناني اعتبر الطائفية حالة مؤقتة، إلا أنه لم تجر منذ ذلك الحين أية محاولة جادة لإلغائها. على عكس ذلك، تجذرت وأصبحت ركناً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية، وتولدت عنها المذهبية. ففي التسوية الشفوية التي سميت بـ “الميثاق الوطني” بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح العام 1943، جرى التوافق على صيغة للتعايش بين المسلمين والمسيحيين تقضي بتوزيع السلطات والمناصب بشكل نسبي على 6 مسيحيين مقابل 5 مسلمين، وأن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس المجلس النيابي شيعياً، ورئيس الحكومة سنيّاً. فساد نتيجة ذلك توافق على مستوى القيادات السياسية العليا في البلاد، على الرغم من هيمنة واضحة للمسيحيين (الموارنة) على المراكز الحساسة في الإدارة، وإمساكهم بالقرار من خلال صلاحيات رئيس الجمهورية الواسعة، ومن خلال ما سمي بـ “الضمانات”.
مع تغير الديموغرافيا تدريجياً لصالح المسلمين بعد الاستقلال، ومطالبتهم بمشاركة أكثر في السلطة، وفق ما اعتبروه غبناً لاحقاً بهم، بدأ لبنان يشهد توترات داخلية، ما حدا بالرئيس فؤاد شهاب (1958 – 1964) أن يجري إصلاحات شملت المناطق المتخلّفة (معظمها إسلامية) في الأطراف. وتضمنت إصلاحاته التساوي في عدد موظفي الفئة الأولى، مع بقاء المراكز الحساسة في أيدي الطائفة المارونية. لكن ذلك لم يكن كافياً، سواء للمسلمين أو لليسار اللبناني. فاستخدم الأولون إستراتيجية الحرمان الإنمائي والغبن السياسي للحصول على نصيب أكبر في نسبة مشاركتهم في السلطة السياسية، من دون الانقلاب على النظام، بعدما اتهموا الدولة اللبنانية باستبعاد مناطقهم من برامج التنمية. فنادوا بإلغاء الطائفية السياسية واعتماد نظام يؤمن العدالة والمساواة للجميع. أما القوى اليسارية، فطرحت استبدال بنظام علماني النظام اللبناني الطائفي، وكان ما يجمع المسلمين واليسار هو تفكيك السيطرة السياسية المارونية على الدولة. في المقابل، تشبث الموارنة بالدستور وبالميثاق الوطني، واعتبروهما أزليين. وما لبثت الخلافات الداخلية أن تصاعدت نتيجة انفتاح الطوائف على الخارج، في ذروة الصراع العربي – الإسرائيلي. فدخل لبنان في حرب داخلية العام 1975، استمرت حتى العام 1990. فبقي النظام الطائفي اللبناني على حاله ولم يتعدّل أو يُلغى، فيما ترسخت الطائفية المجتمعية والثقافية، نتيجة الإيديولوجيات المتضاربة ومشاريع الطوائف والميليشيات للاستيلاء على إرادة الدولة ومؤسساتها.
عندما نص اتفاق الطائف العام 1989 و”وثيقة الوفاق الوطني” على تشكيل هيئة لدراسة السبل لإلغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، بقي ذلك حبراً على ورق، وفقد اللبنانيون بذلك كل أمل في الإصلاح والتغيير. صحيح أن المسيحيين احتفظوا برئاسة الجمهورية، لكن رئيس الجمهورية الماروني خسر الكثير من موقعه وصلاحياته ونفوذه، سواء في النصوص أو في الممارسة. لكن أهم شيء، برأينا، في اتفاق الطائف، أنه أكد المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المؤسسات الثلاث، وفي مناصب الفئة الأولى، بغض النظر على حجم الديموغرافيا لكل منهما. وأعتُبر هذا يومها انجاز أن يقبل المسلمون بالمناصفة مع نسبة 40% أو أقل من شركائهم في الوطن. لكن الانتخابات التي كانت تجري على أساس لوائح ودوائر يتحكم فيها السوريون وحلفاؤهم اللبنانيون بأصوات الناخبين والمرشحين المسيحيين، قضت عملياً على تلك المناصفة منذ الانتخابات الأولى بعد الحرب العام 1992، التي قاطعها معظم المسيحيين. فكان هذا سبباً كافياً للشحن الطائفي والتوتر. من هنا، جاءت صرخة البطريرك صفير خلال الانتخابات العام 2005 بأنه لا يُترك للمسيحيين فرصة انتخاب نوابهم. إن عودة اللبنانيين عام 2009 إلى قانون الانتخاب القديم للعام 1960، كانت انتكاسة إلى الوراء، فهو يكرس الطائفية السياسية أكثر عبر الدوائر الصغيرة، حيث ينتخب المسيحي بشكل عام المرشح المسيحي والمسلم المرشح المسلم. وعلى المنوال نفسه، فأن دعوة البطريركية الأرثوذكسية علناً إلى أن تنتخب كل طائفة نوابها، وتأييد القيادات المارونية التي اجتمعت في بكركي ذلك الطرح، هي خطوة أكثر تراجعية الوراء من قانون 1960.
وقد يصح القول إن المذهبية هي بنت الطائفية والوجه الآخر القبيح لها، خصوصاً عندما يكون هناك شرخ سياسي على صعيد الوطن. لقد كانت هناك خلال حرب لبنان وبعدها دعوات شيعية لتطبيق ديمقراطية الأكثرية، أي أن يحكم المسلمون باعتبار أنهم الطائفة الأكثر عدداً. وبما أن الشيعة هم الطائفة الإسلامية الأكبر كما يدعون، فإن السير في هذا المشروع يؤدي إلى إخافة ليس المسيحيين فحسب، بل المسلمين السنّة أيضاً. وأثناء المفاوضات في الطائف، كانت هناك مقترحات لنواب شيعة بأن تعتمد المثالثة في التوزيع، وأن يكون للشيعة حصة الثلث في توزيع المناصب، ويكون الثلث الأخر لباقي المسلمين والثلث الأخير للمسيحيين. وعلى الرغم من فشل هذا الاقتراح، إلا أنه لا يزال يطرح اليوم بشكل مبطن، من خلال الدعوة إلى طائف جديد، أهم مقوماته إلغاء المناصفة واستقواء فريق على آخر.
هناك سؤال يطرح نفسه منذ العام 2005: هل يمكن للتحالفات الأفقية فوق الطائفية بين القوى السياسية أن تؤدي إلى الاتفاق على إلغاء الطائفية السياسية أو تحسين مركز المسيحيين في المعادلة السياسية، وتحديداً في رئاسة الجمهورية؟ وهل يعيش لبنان منذ عام 2005 حالة من الديمقراطية التوافقية؟ وهل “الفيدرالية” هي الحل لمعضلة لبنان الطائفي؟ الجواب كلا بالنسبة إلى الأسئلة الثلاثة.
منذ “اتفاق الطائف” تكرر الزعامات السياسية والروحية المسيحية، وخاصة المارونية، رفضها إلغاء الطائفية السياسية، لأن ذلك، يعني بالنسبة إليها، “إلغاء المشاركة والتوازن”، وتشدد في المقابل على عقد اجتماعي جديد ينطلق من الميثاق الوطني وتصحيحاً لوثيقة الوفاق الوطني.[2] وهذا يعني أن يتوافق اللبنانيون على ما “خربه” الطائف في ضوء العودة إلى الميثاق الوطني، والإبقاء على التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث وفق العرف الراهن. فهل قصد البطريرك الراعي من العودة إلى الميثاق الوطني وتطويره مارونية الرئاسة الأولى، أم صلاحيات رئيس الجمهورية التي فقدها بموجب الطائف؟ إن ما يجمع بين حزب الله وميشال عون ليس التوافق على النظام السياسي، بل عل العكس المصالح السياسية المشتركة والمتبادلة، ويوم تبتّ مسألة النظام المنشود بينهما بجدية، فلن يوافق الشيعة على تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني كما يرغب عون، ولا على أن يمسك الرئيس بالسلطة كما كان قبل العام 1989. وهذا ينطبق على التحالف بين الحريري وجعجع والجميل، فتقاطع المصالح هو الذي يجمع بينهم، وهم لم يطرحوا رؤية لمستقبل النظام السياسي اللبناني حتى الآن. أما بالنسبة إلى السؤال الثاني، فقد أثبتت الديمقراطية التوافقية منذ العام 2006 أنها في أسوأ فتراتها. ففي ذلك العام وبعده، أدى الخلاف بين القوى السياسية حول المحكمة الخاصة بلبنان في مسألة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى انسحاب الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة. ومنذ ذلك الحين، وحتى أحداث أيار 2008 وتوقيع اتفاق الدوحة، عملت المعارضة اللبنانية لحكومة السنيورة إلى استخدام مطلع الدستور اللبناني حول أنه “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك“لقلب الأمور لصالحها. وجاءت بدعة “الثلث الضامن” (المعطل) ليشلّ العمل الحكومي خلال رئاسة السنيورة الثانية لمجلس الوزراء وكذلك رئاسة الحريري للحكومة حتى مطلع العام 2011. يُضاف إلى ذلك، تعطيل العمل بالمجلس النيابي والتهميش الذي لحق برئيس الجمهورية إميل لحود، وتراجع دوره في أن يكون حكماً بين المؤسسات وحامياً للدستور. أما في ما يتعلق بالسؤال الثالث، فتغيب الفيدرالية في الواقع عن خطاب جعجع اليوم، إلا أن أوساط حزب الكتائب تطرحها من حين إلى آخر كحل للمعضلة اللبنانية. فديمقراطية الأكثرية المرغوبة من قبل المسلمين الشيعة، والفيدرالية المرغوبة من قبل بعض المسيحيين الموارنة، تحتاج كل واحدة إلى ثقافة سياسية واجتماعية ووطنية غير طائفية، أهم مقوماتها الاعتراف بالآخر والتساوي معه، والرغبة في العيش معه. وفي ضوء الثقافة الطائفية والتجربة التاريخية والافتقار إلى الثقة، والارتباطات مع الخارج، لا يزال اللبنانيون غير مؤهلين أو مستعدين لذلك. فالفيدراليّة، يمكن أن تكون مشروع حرب بين الطوائف حول الجغرافيا والموارد والثروات، في حين إن حكم الأكثريّة، بالتزامن مع الدعوات المستترة والعلنية إلى أسلمة لبنان، سواء من قبل “حزب الله” أو من قبل تيّارات سلفية سُنّية متشددة، يعني فرار المسيحيين من لبنان ومعهم بعض المسلمين المتنورين، ودقّ “إسفين” في التعايش الإسلامي – المسيحي.
5- الطائفية/المذهبية وعلاقات لبنان الخارجية
لا يمكن، في الواقع، النظر إلى موضوع علاقات لبنان مع الخارج بعيداً عن الطائفية والمذهبية. منذ الحكم العثماني، نظر المسلمون السنّة إلى الدولة العثمانية كمظلة سنيّة تحميهم من الاستعمار ومخططاته. في المقابل، نظر المسيحيون إلى الغرب المرتبطين دينياً وثقافياً به على أنه الحامي لهم من الحكم الإسلامي. وفي العام 1860 أنزلت فرنسا قواتها في لبنان بذريعة حماية الموارنة. وفصلت الدول الكبرى جبل لبنان المسيحي عن الحكم العثماني المباشر، واستمر ذلك حتى الحرب العالمية الأولى. وبعد تأسيس “دولة لبنان الكبير” حتى اندلاع حرب لبنانالعام 1975، تطلع المسلمون إلى محيطهم الإسلامي المتمثل بسورية وسعوا إلى الوحدة معها، على أساس أنهم ينتمون إلى بلاد الشام. فيما رحب الموارنة بلبنان المستقل تحت الانتداب الفرنسي. ولم يحصل اللبنانيون على استقلالهم، إلا بعدما تلقوا دعماً إنكليزياً ضد فرنسا. وعندما حصلت التسوية بينهم العام 1943، في ما سمي بالميثاق الوطني القاضي بتحييد لبنان عن الوحدة العربية المطلوبة من قبل المسلمين، وعن تطلع المسيحيين للحصول على حماية الغرب، لم تلتزم الطوائف بالميثاق، في ضوء خلافاتها الداخلية. فأدخل رئيس الجمهورية الماروني شمعون لبنان في مشروع أيزنهاور العام 1957، فيما تطلع المسلمون نحو مصر الناصرية، فوقعت الحرب الأهلية العام 1958، التي لها أسبابها الداخلية أيضاً. ثم عاد التوتر الطائفي من جديد مع ظهور العامل الفلسطيني في منتصف الستينيات ليؤجج الخلاف حول هوية لبنان وعلاقته بالصراع العربي الإسرائيلي، ويؤدي إلى فرز طائفي. فاندلعت حرب لبنان العام 1975، وانحاز المسلمون إلى الفلسطينيين لتفضيلهم عروبتهم على لبنانيتهم، وللاستقواء على شركائهم في الوطن. في المقابل، طلب الموارنة المساعدة من سورية بشكل غير مسبوق تارة ومن إسرائيل تارة آخر للحفاظ على امتيازاتهم، وربما وجودهم. ثم وقع المسلمون والمسيحيون ضحية مشروع سوري إسرائيل لتقاسم النفوذ في لبنان، فارتمى المسلمون في أحضان سورية، والموارنة في أحضان إسرائيل. فكان جانب كبير من أسباب تقاتل اللبنانيين يعود إلى التدخل الخارجي السوري والإسرائيلي. وخلال الحرب، تقاسم الخارج طوائف لبنان ومذاهبه وأحزابه وميليشياته، حتى أنه يصح القول إن حرب لبنان كانت تدار من الخارج، ولم تتوقف من دون هذا الخارج.
كان من التوقع أن يعيد اتفاق الطائف للدولة اللبنانية سيادتها، ويؤدي إلى خروج الجيش السوري من لبنان، لكن ما حدث هو أن سورية بقيت في لبنان بموافقة دولية وعربية حتى العام 2005. ولكي تستفرد بلبنان، أبقت دمشق على الخلافات بين الطوائف الدينية، وعلى توازن في ما بينها بشكل لا تسيطر فيه أية جماعة على الأخرى. كما تمكنت من أن ترعى التوازنات والخلافات داخل القوى السياسية والطوائف الدينية. وفي ظل الوجود السوري، حصل أتباع سورية اللبنانيين من الأحزاب والميليشيات على هامش حركة أوسع من المعارضين للوجود السوري. فنشأت نتيجة ذلك فئتان سياسيتان تستفيد الأولى، ومعظمها من المسلمين، من الوجود السوري ومن أخطائه وتستقوي به، وتعارض الفئة الثانية، وغالبيتها من المسيحيين، التوازنات الداخلية التي أفرزها الوجود السوري وسوء تطبيق اتفاق الطائف، وتكتفي بالاحتجاجات والتظاهر ورفع الصوت، وصولاً إلى السكوت على مضض. ومن ضمن التوازنات الداخلية بأبعادها الإقليمية، إبقاء سورية حزب الله على سلاحه والمخيمات الفلسطينية جزراً سياسية مسلحة بشكل مخالف لاتفاق الطائف، من أجل خدمة صراعها أو تسوياتها مع إسرائيل. وقد عاب المسيحيون على المسلمين صمتهم على مساوئ الوجود السوري في لبنان، وبأنهم لم ينضموا إلى شركائهم المسيحيين في مقاومة هذا الوجود. حتى أن “دار الفتوى” و”المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” كانا، بأمر من المخابرات السورية، يصدران في كل مناسبة بيانات وتصريحات تدعم الوجود السوري في لبنان وسط استهجان مسيحي، ما أكد نظرية المسلم العروبي المساند لسورية، والمسيحي “الخائن” المتربص بالعروبة.
استمر الحال على ما هو عليه من شرخ حول مواقف اللبنانيين من محيطهم، إلى أن وقعت حادثة اغتيال الحريري. فوقف قسم كبير من اللبنانيين وراء استقلال لبنان (ثورة الأرز)، في حين فاجأ حزب الله الجميع بوقوفه وراء “الوفاء” لسورية، ثم انضم إليه ميشال عون لاحقاً، متناسياً صراعه العسكري ضد الجيش السوري قبل خمسة عشر عاماً. صحيح أنه أصبح لدينا جبهتين في لبنان فوق الطائفية: قوى 14 آذار، من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وحزب الكتائب اللبنانية، وقوى 8 آذار من حزب الله وحركة أمل وتيار التغيير والإصلاح لميشال عون وغيره من القوى المارونية، إلا أن الصحيح أيضاً أن الانقسام المذهبي جعل الشيعة يقفون إلى جانب إيران الشيعية والنظام العلوي في سورية ويتحالفون معهما، فيما وقف السنّة إلى جانب السعودية واعتبروها سندهم. أما المسيحيون، فانقسموا بين شيعة لبنان وسنّته، أي بين متحالف مع إيران وسورية (ميشال عون)، وبين من ينشد الدعم من السعودية (الكتائب والقوات اللبنانية). أتت كل هذه التحالفات في ظل توترات ضخمة في المنطقة حول الحرب والسلام، وحول نفوذ إيران في الشرق الأوسط وملفها النووي، والمحكمة الدولية التي تضطلع اليوم بمحاكمة المتهمين في اغتيال الحريري. لكن الأخطر من ذلك، هو أن حزب الله بسلاحه سلب الدولة اللبنانية سيادتها بالكامل منذ اتفاق الدوحة العام 2008، وأصبح عملياً هو من يصوغ علاقات لبنان مع الخارج وفق مصالح وتحالفاته.
ورغم أني متشائم من إمكانية خروج لبنان من أزمته الطائفية في الزمن القريب أو المتوسط، فإني أتلمس بداية الخلاص عبر الآتي:
1- وضع قانون انتخاب عصري يتيح للبنانيين أن يأتوا بممثليهم الفعليين إلى البرلمان.
2- تنفيذ ما ورد في اتفاق الطائف حول مجلس شيوخ انتقالي لفترة محددة، يقوم على أساس التوزيع الطائفي، فيما يتم العمل بجدية وتدرج على أساس مجلس آخر غير طائفي.
3- الفصل بين السلطات الثلاث، وتفعيل سلطة القضاء وضمان استقلاليته.
4- تطبيق اللامركزية الإدارية بشكل شامل وصحيح.
5- إنماء المناطق المتخلفة.
6- استعادة مزارع شبعا بالطرق الدبلوماسية والقانونية وإعلان حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية.
7- جعل الدولة اللبنانية وحدها مرجعية السلاح والقرار، وتفعيل دور الجيش اللبناني في الأمن القومي.
8- تطبيق الخطط الاقتصادية المحلية والدولية للنهوض باقتصاد لبنان، وخاصة في الأطراف.
9- إعادة بناء الوحدة بمفاهيم تربوية واجتماعية تعزز مفهوم الوطن والمواطنية بين اللبنانيين.
في حال نجح لبنان في تحقيق ذلك، يمكن الانتقال تدريجاً إلى إلغاء الطائفية السياسية وإقامة الدولة المدنية.