جريدة اللواء الخميس,6 شباط 2014 الموافق 6 ربيع االآخر 1435 ه
موقع:: ثقافية 8/2/2014
بقلم: د. عبد الرؤوف سنّو
هناك علاقة متداخلة بين قوة الدولة في الداخل وبين قوتها تجاه الخارج. فموقع الدولة الجغرافي ومتانة علاقتِها بمجتمعها وتعبئة موارده البشرية وتسخير الإمكانات والمصادر المادية والمعنوية وصولاً إلى وحدة داخلية، هي التي تقدم للدولة عناصر القوة والوزن السياسي والقدرة على التأثير في محيطها. عكس ذلك، عندما يكون المجتمع منقسماً على نفسه،
في ظل دولة ضعيفة أو مشوشة في صنع قرارها، ووجود جيش متواضع، ونظام سياسي يفرّق ولا يجمع، وإيديولوجيات متنافرة، فإن الجغرافية السياسية والحالة المجتمعية تكونان عندئذ ذات تأثيرات كارثية في مصير الدولة، وهذا هو حال لبنان منذ إعلانه دولةً وجمهورية: مجتمع منقسم في الداخل، ودولة ضعيفة هشة لا تستطيع أن تقاوم تأثيرات الخارج. صحيح أن الجغرافيا السياسية هي قدر لبنان، لكن لا شيء دل في الماضي ويدل اليوم على وعي اللبنانيين بالجيوسياسة التي تتربص ببلدهم. إن تطلعهم نحو الخارج وفق انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، كان خياراً ولم يكن إملاءً في يوم من الأيام.
بعد هذا التقديم، سأقارب الموضوع من خلال تناول التحديات التي تتعلق بمسألة بناء الدولة في لبنان، والنظام الطائفي السياسي، وهوية اللبنانيين التي تطرح إشكاليات عديدة، وأخيراً علاقة اللبنانيين بالخارج وتأثرهم به.
جرثومة الطائفية/ المذهبية: دولة هشّة و«وطن» متعثّر الولادة
إن أولى التحديات التي يواجهها اللبنانيون، تكمن في بناء الدولة القوية صاحبة السيادة على شعبها وعلى أرضها والتي تنبع سياستها الداخلية والخارجية من مصالح واعتبارات وطنية، وتحتكم إلى الدستور وإلى سلطة تشريعية، وتضطلع بشؤونها سلطة إجرائية ومؤسسات. بعد الاستقلال، لم يعمل كل اللبنانيين على الالتفاف حول الدولة واعتبارها منهم، وهو أول مطلب لقيام دولة قوية. ففيما شعر المسيحيون، والموارنة تحديداً، أن الدولة اللبنانية هي دولتهم، شعر المسلمون بالإحباط، وأن الدولة التي أضحوا يعيشون في ظلها ليست دولتهم، جراء عقدة الغبن والحرمان الذي لحق بهم وتغليب عروبتهم على لبنانيتهم الجديدة، ما جعلهم يرفضون دولة لبنان الكبير وتقديم الدعم لها، حتى بعد تسوية الميثاق، استحضروا الخارج من أجل تعزيز وجودهم في السلطة أو انسجاماً مع عروبتهم، فدقوا بذلك أكثر من إسفين في نعش الدولة اللبنانية. وفي المقابل، تخلى الموارنة في السنة الثانية لحرب لبنان عن الدولة اللبنانية، بعدما شعروا أنها لم تعد دولتهم؛ فانجروا وراء مشاريع تقسيم أو كانتونات أو تحالفات خارجية. فقضى الفريقان الطائفيان بسياسيتهما وميليشياتهما على الدولة اللبنانية.
وفي ظل دولة ضعيفة أو اللادولة، تتعامل مع اللبنانيين على أساس أنهم أبناء طوائف وليسوا مواطنين، وقبول اللبنانيين بذلك، لا يمكن الحديث عملياً عن وطن يجمع اللبنانيين. لقد شكّل هذا «الوطن» بنظامه الطائفي منذ اعتماده «الديمقراطية التوافقية» انتهاكاً لمبدأ تساوي الفرص في ما بينهم. فاحتكرت الطائفة المارونية مناصب أساسية في الدولة، منها السياسي (رئاسة الجمهورية)، ومنها العسكري والأمني (قيادة الجيش ومديريتا المخابرات والأمن العام)، والطائفتان الشيعية والسنية على التوالي الرئاسيتين الثانية والثالثة)، فيما حُرمت الطوائف الأخرى من مناصب مؤثرة. وفي وقت لاحق، خُصص للأرثوذكس منصب نائب رئيس المجلس النيابي، ونائب رئيس مجلس الوزراء. وقد قام الدستور والميثاق على أساس التعايش بين أفراد الطوائف، وفق نسبية التمثيل، وليس بين المواطنين، والتي استبدلت بالمناصفة بعد الطائف، ولم تؤد إلى طمأنة المسيحيين. ولم يستفد اللبنانيون من الفرصة التي منحها لهم الميثاق ولا من اتفاق الطائف، من أجل التفكيرِ والبناء عليهما وتحويل لبنان من دولة الطوائف إلى دولة المواطنة والقانون التي تبني المواطن الصالح على مبادئ المواطنة والديمقراطية، وتستلزم من الأفراد أن يجتمعوا داخل المجتمع، أحراراً ومتساوين، حتى مع تعدديتهم. لكن هذا لم يتحقق. يُضاف إلى ذلك التناقضات العائلية والعشائرية والاجتماعية والاقتصادية، التي هي الصورة الحقيقية للنظام الاجتماعي اللبناني.
لقد سنحت للبنانيين فرصاً قليلة للتخلص من النظام الطائفي، لم يحسنوا استغلالها، أو وقفت الطائفية المجتمعية سداً عائقاً في وحهها. في العام 1925، حاول المفوض العام الفرنسي إجراءَ انتخابات لمجلس نيابي جديد على أساس غير طائفي. لكن الحكومةَ الفرنسية وقوى مارونية عارضت ذلك. وفي العام 1932، ترشح الشيخ محمد الجسر للانتخابات الرئاسية، فتصدت له سلطات الانتداب والبطريركية المارونية. ولو نجحت تلك المحاولة، لربما أشعرت المسلمين بأنهم شركاء في وطن، وجعلتهم يرون فيه هويتهم. وفي العام 1947 صادق المجلس النيابي على قانون غير طائفي للانتخابات البلدية والاختيارية. لكن لم يُبن عليه ليُحتذى به في الانتخابات النيابية. أما المناسبة الرابعة، فكانت «اتفاق الطائف»، حيث عملت سورية على عدم تطبيق البند المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، لأنه لو تم ذلك افتراضاً، على أساس العدالة والديمقراطية وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات وبالتالي خلق ضمير وانتماء وطنيين، كان سيقرّب كثيراً بين اللبنانيين، ما يعني أن لا حاجة لوجود السوري في البلاد بذريعة انقسامهم. وفي العامين 1994 و2000، طالب الرئيس نبيه بري بإلغاء الطائفية السياسية. لكن دعوته لم تكن بريئة، بل لتخويف المسيحيين على وجودهم السياسي وحضورهم وبالتالي ترويضهم، مدفوعاً بغايات سورية. و لم تعد المسألة اليوم تتعلق وحدها بالطائفية، بل تعدتها إلى المذهبية، بعدما أدى الصراع المجتمعي السياسي إلى اختراق الطوائفِ عبر صراعات مذهبية نعيشها كل يوم. وبنتيجة ذلك، فإن «تبريد» الطائفية المجتمعية أو التخفيف من حدتها، لم يكتب لهما النجاح.
وعلى عكس ما كان متوقعاً، لم تقم الدولة اللبنانية القوية والقادرة بعد اتفاق الطائف. وما لبث شعور الإحباط أن انتقل إلى المسيحيين الذين خسروا امتيازاتهم السابقة، ما تسبب في غربتهم عن دولة الطائف. فأحجموا عن دعمها وقاطعوها أو انتفضوا عليها، بعدما اعتبروها صنيعة السوريين. في المقابل، وافق مسلمون وقليل من المسيحيين لأسباب نفعية في الغالب أو بنتجية الخوف على دولة لبنانية ضعيفة هشة لا تملك قرارها تحكمها أجهزة المخابرات السورية.
وبعد تحرير جنوب لبنان، بفضل المقاومة الإسلامية، نمت معارضة مسيحية ضد الوجود السوري باعتبار أن مسبباته قد انتفت بتحرير لبنان، بعدما طفح الكيل من ممارساته ومصادرة الحياة السياسية ومصّ الاقتصاد وترهيب المجتمع. وقد عارض المسيحيون استيلاء السوريين على الدولة اللبنانية، ما لبث أن لحق بها بعض المسلمين، وذلك بعد صمت طويل. ثم أدى عاملان أساسيان إلى تبلورِ معارضة لبنانية قوية فوق الطائفية تطالب باستعادة الدولة اللبنانية من السوريين، سيادة وقراراً وأرضاً، وهما التمديد للرئيس لحود واغتيال الرئيس الحريري في شباط 2005. فاندلعت «ثورة الأرز»، لكنها لم تحقق الدولة المنشودة.
لبنان المأزوم: هوية في ظل وصاية الولي الفقيه؟
حتى سيطرته على الدولة ومؤسساتها منذ العام 2011، مروراً بالحرب الإسرائيلية على لبنان (استقواء حزب الله بانتصاره الإلهي) وباتفاق الدوحة، عمل حزب الله على إقامة دويلته، مدعياً أن هدفه هو بناء الدولة اللبنانية القوية القادرة والعادلة. لكنه في الحقيقة، أفقد الدولة اللبنانية، سيادة ومؤسسات ومجتمعا،ً من كل مقوماتها وسلبها قرارها. فكان قيام الدولة اللبنانية القوية والقادرة يتطلب تفكيك دويلته. وهذا لم يحصل، في ظل التبعية للخارج، ووجود جيش لبناني محدود الإمكانات، ومربعات أمنية وفلتان في الشارع، وإقفال الطرقات الرئيسية (حزب الله، وآل المقداد والشيخ أحمد الأسير، على سبيل المثال)، وفساد مستشر في المؤسسات، وآخرها الهيمنة على المرافق، وملف الأدوية الفاسدة، والاستيلاء على موارد الدولة من الرسوم الجمركية في مرفأ بيروت واستباحة مطارها. هذا الفساد الذي يعم الدولة اللبنانية اليوم، تتشارك فيه أو تحميه مافيا سياسية وحزبية لبنانية من شتى التوجهات. فالفساد والنهب سرطان فوق الطائفي منتشر في كل جسد الدولة، وإلا ما فاق الدين العام 60 مليار دولار أميركي. فالوضع الاقتصادي المتدهور، والشلل الذي أصاب قطاعاته، ينعكس سلباً على كل اللبنانيين. من هنا، فإن الوصول إلى دولة قوية سياسة واقتصاداً ومجتمعاً، يشكل أكبر تحدٍ أمام اللبنانيين..
وإذا كان بناء دولة لبنانية بنظام جديد يرضى عنه الجميع يشكل تحدياً كبيراً للبنانيين، فإن عدم اتفاقهم على هوية للبنان، ارتبط بكل الصراعات الداخلية. فلا تزال هوية لبنان مصدر قلق لكثير من اللبنانيين، وبخاصة في الوقت الراهن. حتى ما بعد الاستقلال، ظهر الصراع في لبنان حول هويتين: 1- العروبة التي سبق ونادى بها المسيحيون عشية سقوطِ الدولة العثمانية ثم تخلوا عن منحاها السياسي، فالتقطها المسلمون مبتعدين عن الرابطة العثمانية، وراحوا يروجون لها عبر وحدةٍ سياسية؛ و2- هوية تقوم على خصوصية لبنان في محيطه روج لها مسيحيون. إن التناقض بين الهويتين، نشأ عنه خوف متبادل: خوف المسيحيين على انجازاتهم من عروبةٍ يخلط المسلم بينها وبين إسلامه، وخوف المسلمين من قومية لبنانية تحرمهم من فضائهم العروبي – الإسلامي. لقد استخدم الدستور اللبناني مصطلح «الأمة اللبنانية» للتعبير عن أن اللبنانيين يشكلون أمة منفصلة عن محيطهم، في حين لم يحسم الميثاق الوطني عروبة لبنان. فكان هذا الالتباس وراء الكثير من أزمات لبنان، وأحد جوانبِ حرب لبنان وفصولها.
وبموجب الطائف، أضحى لبنان عربي الهوية والانتماء، من دون أن يُسمح للمسيحيين، حتى أن يختبروا هويتهم العربية «الجديدة» بفعل الاحتلال السوري وممارساته مع أتباعه اللبنانيين وخضوع رئاسات الجمهورية والوزارة له. لقد أعطى النظام الأمني السوري، خلال احتلاله للبنان، تفسيراً على مقاسه لهوية اللبنانيين: فمن هو معه، فهو عروبي عن جدارة وحقّ، ومن هو ضده ويعمل من أجل تحرير لبنان من سيطرته، فهو غير عروبي وخائن.
عقب اغتيال الحريري في شباط 2005، انقسم اللبنانيون إلى فريقين: أراد الأول أن يدافع عن لبنان وفق مقولة لبنان أولاً، أي تقديم مصلحة لبنان على ما عداها. فضم سنّة ودروزاً إلى جانب مسيحيين، وطرح الثاني عملياً شعار «إيران وسورية أولاً»، وضم غالبية شيعية تتبع حزب الله، الذي يرفض القومية اللبنانية والعروبة، ويرى هويته في إسلام فارسي يجسده الولي الفقيه. فبنى مجتمعاً إسلامياً في مناطق سيطرته، وسعى خلال الثمانينيات من القرن الماضي إلى إقامة دولة إسلامية. وتحولت هذه الهوية إلى هوية مسلحة تعمل لصالح إيران منذ مطلع الألفية الثالثة، كغيرها من الهويات الأصولية السنية المسلحة التي عملت بدورها في شمال لبنان على إقامة إمارات إسلامية، بعضها محرض عليه من قبل النظام السوري (فتح الإسلام = شاكر العبسي).
الخارج المدمر لصيغة الوطن والتعايش والمستقبل
إن التحديات التي يواجهها اللبنانيون اليوم في بناء الدولة، وفي بناء دولة المواطنة، وفي نظامهم وهويتهم، لا يمكن أن تفسر بمعزل عن علاقات الطوائف اللبنانية بالخارج. فتأثير لبنان في الخارج، من نواحي تصدير مبادئ حرية الرأي والفكر والتعبير إلى محيطه العربي، و»تصدير» الإنسان إلى شتى أنحاء العالم (لبنان المغترب)، ودوه في التطور الإنساني الحضاري العالمي معروفة. لكن لبنان، من ناحية أخرى، يتأثر بالخارج أو يستدعي أبناؤه الخارج إلى الداخل اللبناني للتدخل في ما بينهم أو الاستقواء به، كل على قياس طائفته أو مذهبه أو مصلحته؛ فكان هذا وبالاً عليهم وشكل تحدياً متواصلاً حتى اليوم.
أثناء الخمسينيات من القرن العشرين، انجذب المسلمون بقوة نحو مصر الناصرية، وقسم من المسيحيين إلى الغرب. وبعد العام 1967 ، وقع لبنان في دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، بفضل دعمِ سورية وتأييد المسلمين واليسار اللبناني للنشاط الفدائي الفلسطيني ضد إسرائيل ورفض المسيحيين ذلك، ما تسبب بدخول لبنان في حرب داخلية. لكن لبنان تأثر كدولة حاجز أكثر بالصراع بين سورية وإسرائيل أو في توافقهما (اتفاق الخطوط الحمر بينهما لتقاسم النفوذ في لبنان برعاية أميركية). في العام 1976، تدخلت سورية في لبنان بذرائع شتى، وفرضت هيمنتَها على البلاد. وقام الإسرائيليون يجابهونها على الساحة اللبنانية، لأسباب أمنية وجيوسياسية (اتفاق 17 أيار 1983 «الإسرائيلي» والاتفاق الثلاثي «السوري». وبموجب اتفاق الطائف، جرى تشريع وجود سورية العسكري في لبنان. فوضع النظام السوري المجتمع الدولي ضمن مقولة إنه هو الضابط للسلم الأهلي في لبنان، وإن حرباً طائفية جديدة ستترتب على انسحاب جيشه منه. فصدق الخارج ذلك، أو غض الطرف تآمراً.
بين العامين 1990 و2005، تمكنت سورية من الاستفراد بلبنان، ففرضت عليه علاقات تعاهدية مميزة (معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق)، وأطلقت الدول العربية والولايات المتحدة يدها فيه بعد حرب الخليج الثانية لإدارة شؤونه ومؤسساته الدستورية. فأدارت دمشق نظاماً أمنياً – استخبارتياً، لا يؤدي إلى إخراج لبنان من براثن الطائفية، وفق «اتفاق الطائف»، وحتى تطبيق بنوده. فجرى انتهاك الدستور والقوانين، واستشرى الفساد والنهب في مؤسسات الدولة من قبل مافيا لبنانية – سورية. كما أبقت سورية «حزب الله» على سلاحه، ودعمت عملياته ضد إسرائيل كورقة من أوراقها الشرق أوسطية، وانسجاماً مع توافقها السياسي مع إيران. لكن أخطر ما قامت به، هو دق إسفين بين اللبنانيين، الذين انقسموا إلى فئتين سياسيتين، تستفيد الأولى، وهي أكثرية، من وجوده وتستقوي به على أساس التبعية، وغالبيتها من المسلمين وحفنة من المسيحيين، وتعارض الثانية المهمشة وغالبيتها من الموارنة، الوجود السوري نفسه وتدخله في الحياة السياسية، فضلاً عن التوازنات الداخلية التي أفرزها، وسوء تطبيق الطائف، بشكل خاص من ناحية عدم إعادة تموضع الجيش السوري إلى البقاع، وتكتفي بالاحتجاجات والتظاهرِ ورفعِ الصوتِ عالياً، فتتلقى القمع والتنكيل لى يد الجهاز الأمني السوري – اللبناني .
بعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000 وانسحاب الجيش الإسرائيلي منه، أعلن لبنان، مدفوعاً من السوريين، لبنانية مزارع شبعا التي أبقت تلّ أبيب على احتلالها، ما أتاح للسوري أن يستمر في استخدام ورقة المقاومة ضد إسرائيل في سياسته الشرق أوسطية. منذ ذلك الحين، مروراً بأحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة، بدأت الأمور تسير عكس ما يشتهيه النظام السوري. فانتفض الموارنة ضد تماديه في التدخل في الحياة السياسية وتدمير الاقتصاد الوطني، مطالبين بانسحابه من لبنان، فيما خرج وليد جنبلاط عن صمته للمرة الأولى منتقداً ممارسات الأجهزة السورية. فرد البطريرك صفير على موقف جنبلاط المستجد بزيارة إلى الجبل. وقد استفادت المعارضة اللبنانية من التناقضات بين واشنطن ودمشق حول الاحتلال الأميركي للعراق، ومن قانون محاسبة سورية في كانون الأول 2003، ومن التمديد السوري للرئيس لحود في أيلول 2004، على عكس الإرادة الدولية (القرار 1559) وغالبية اللبنانيين. فواجهت سورية تحالفاً واسعاً غير مسبوق ضم للمرة الأولى مسلمين بزعامة الحريري وجنبلاط إلى جانب المسيحيين المطالبين بخروج السوري من لبنان، بعدما استقوا بالسياستين الأميركية والفرنسية ضد سورية، والهدف هو استعادة الدولة اللبنانية من السوريين. فكانت محاولة اغتيال مروان حمادة في تشرين الأول 2004، مؤشراً على أن سورية ستسلك طريق ترهيب اللبنانيين من أجل الاستمرار في حكم لبنان. ثم جاء اغتيال الحريري بعد شهور قليلة.
باغتيال الحريري في شباط 2005، وقيام «ثورة الأرز»، تمكنت إيران، عبر حزب الله، من ملء الفراغ الذي نتج عن انسحاب سورية من لبنان وفرض عزلة عربية ودولية عليها. منذ ذلك الحين، ازداد الاصطفاف الداخلي وراء الخارج، في ظل محورين: أميركي ومعه إسرائيل، ومحور «الممانعة» إيران – سورية. وكشريك أدنى يدور في فلك إيران، تمكنت سورية من الخروج بسرعة من عزلتها على الساحة الإقليمية بدعم إيراني، ومن حزبالله على الساحة اللبنانية. واستقوى هذا المحور بصمود حزبِ الله أمام إسرائيل في العام 2006. بعد ذلك، انقلب حزب الله إلى الداخل اللبناني (استقالة وزرائه من حكومة السنيورة، والاعتصام في الوسط التجاري لعام ونصف العام، وأحداث كانون الثاني 2007)، وتمكن منذ «اجتياحه» بيروت في 7 و8 أيار 2008، وتحديداً منذ اتفاق الدوحة في أيار 2008، من فرض معادلة داخلية جديدة عطلت الحياة السياسية، وأصبحت الحكومات اللبنانية تخضع عملياً لمشيئته عبر «الثلث الضامن» (الثلث الضامن وفق قوى 14 آذار) ولمن يسيّره من الخارج. فشكل هذا تحدياً خطيراً لوجود الدولة وسلطتها، وأرهب اللبنانيين. فلبنان في تاريخه «الأبيض»، لم يعرف إلا التوافق والتعايش والتغلب على أزماته وفق ما أسموه «الديمقراطية التوافقية»، وها هو يخضع اليوم لهيمنة فريق مذهبي واحد، بشكل مخالف لمطلع الدستور اللبناني حول العيش المشترك.
وبعودةِ سورية بسرعة إلى الساحة اللبنانية كشريك أدنى لإيران، عقب عزلة إقليمية ودولية فُرضت عليها، ازداد الانقسام الداخلي في لبنان حول المحكمة الدولية وقضايا أخرى، أهمها علاقة لبنان بالخارج وبإسرائيل والدولة اللبنانية المنشودة. وفي تطور دلَّ على مدى الاستخفاف بالدولة اللبنانية وبرئيس الجمهورية، عُقد في دمشق في شباط 2010 لقاء قمة بين محمود أحمدي نجاد نجاد وبشار الأسد وحسن نصر الله بحث مسألة التصدي للتهديدات الإسرائيلية لسورية ولبنان. فكشف اللقاء عن سياسة حزب الله في جر طائفة وبلده خلف مصالح غير لبنانية، وهي تحسين إيران موقعها في المفاوضات حول ملفها النووي، وسورية لاستعادة موقعها الإقليمي بعد ضرب العزلة عليها منذ إجبار المجتمع الدولي جيشها على الخروج من لبنان. فكان من المفترض أن تكون الدولة اللبنانية ممثلة برئيسها، وهي المعنية بالتهديدات الإسرائيلية، لا أن يقوم حزب الله عنها في إدارة العلاقات الخارجية والدفاعية. كانت دبلوماسية دمشق هذه بتغييب الدولة اللبنانية تتناقض مع «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» حول التنسيق بينها وبين بيروت في ما يتعلق بالعدو المشترك، إسرائيل. وبسبب تبعيته للولي الفقيه، جعل حزب الله من لبنان جبهة إيرانية ضد إسرائيل، ومدرجاً لطائرات التجسس الإيرانية (الطائرة أيوب)، وثكنة للحرس الثوري الإيراني. لقد أعلنت إيران أنه أصبح بحوزتها صوراً عن المواقع الإسرائيلية زودتها بها طائرة التجسس التي انطلقت من جنوب لبنان، بدلاً من أن يقوم الحزب بتسليم الجيش اللبناني فيلماً عن الصور الملتقطة. وهذا يدل على المدى الذي يخضع فيها حزب الله للمنظومة الإيرانية. كما استخدم الحزب طاولة الحوار الوطني مضيعة للوقت، ولغة التخوين لمحاصرة خصومه. وهناك اتهامات وجهت له من قبل قوى 14 آذار بأنه يقف وراء الاغتيالات في لبنان، وفي مقدمها اتهام «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» عناصر من حزب الله باغتيال الحريري.
إن اصطفاف اللبنانيين وراء الخارج والاستقواء به، جعل السعودية تغض الطرف عن كل سيئات النظام السوري في لبنان والمنطقة (تحالفه مع إيران)، فتنفتح عليه منذ مطلع العام 2009 ، ما أدى إلى ظهور دبلوماسية «السين السين» (السعودية – سورية) لحل الأزمة اللبنانية. إلا أنه لم يُكتب النجاح لهذه الدبلوماسية، فتم إسقاط حكومة الحريري في مطلع العام 2011 بتوافق بين إيران وسورية وحزب الله لقلب الأوضاع كلياً في لبنان لصالحهم. ولعب نصر الله دوراً محورياً في اختيار رئيس لحكومة موالية لحزبه (عمر كرامي أولاً ثم نجيب ميقاتي)، ما زاد من الشحن المذهبي، حيث رأى سنّة أن الأمين العام لحزب الله أصبح من يكلف سنياً بتشكيل الحكومة اللبنانية، وأن دور رئيس الجمهورية أصبح في هذا المعنى واهياً. إن الرهان على الخارج، وعلى «السين – السين» منذ العام 2009، أو على أي «سين – سين» أخرى، هو شيء معيب بحق اللبنانيين، فيعني أن فئة منهم تمتثل لمشيئة سورية وبالتالي إيران، وفئة أخرى تقبل بما تقبل به السعودية.
وفي سياق الصراع الداخلي، يستجلب اللبنانيون أي خارج إلى الداخل اللبناني. فيقف حزب الله بأمر من الولي الفقيه مع النظام السوري ضد «المستضعفين» السوريين الثائرين، ويقمع الثورة السورية بقوة سلاحه، حيث يتدفق مقاتليه وأسلحته عبر الحدود. في المقابل، تقف قوى 14 آذار ضد النظام السوري.ولا ننسى أن ما يدور في العالم العربي من «ربيع»، وفي سورية تحديداً، ينعكس على لبنان، دولة ومجتمعاً وجيشاً: دولة لا قرار لها ولا سلطة لتنفيذ «إعلان بعبدا» بنأي لبنان نفسه عن ما يجري في سورية؛ ومجتمعاً منقسماً على نفسه على أساس مذهبي وطائفي حول ما يجري في سورية، وجيش ضعيف لا يستطيع أن يمنع حزب الله من التدخل في خارج حدود لبنان. وقد زادت الأوضاع في سورية، وتدخل حزب الله هناك لصالح الأسد، بذريعة أنه يحارب التكفيريين لمنع تمددهم إلى لبنان، من الانقسام المذهبي في البلاد. كما استجلب تدخل الحزب في سورية ويلات التفجيرات المتنقلة على لبنان، ولا ننسى الاغتيالات، وآخرها الوزير محمد شطخ. وفي العام 2013، أبدت قيادات روحية مارونية عليا خشيتها من وصول الإسلاميين إلى السلطة في حال سقط بشار الأسد، ما يعني أن الوضع هناك يؤثر بشكل كبير في التوازنات الطائفية والمذهبية في لبنان.
من هنا، فإن مسألة بناء الدولة القوية، والاتفاق على النظام السياسي المنشود، وعلى هوية لبنان، وعلى موقف وطني موحد تجاه الخارج، تشكل تحدياً مصيرياً يواجه لبنان اليوم. فكل لبناني مخلص يخاف اليوم على «وطنه»، ويتعطش إلى دولة قوية، ويريد نظاماً يوحّد ولا يفرق، وهوية جامعة لا تذوب في الهويات الأخرى. إن اللحمة المجتمعية المفقودة بين الطوائف والمذاهب، والتحدي الاجتماعي – الاقتصادي ومديونية لبنان المرتفعة، وأخيراً وليس آخر، عدم تشكيل حكومة جديدة خلفاً لحكومة نجيب ميقاتي المستقيلة، وليس في الأفق ما يدل على إمكان إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده، تزيد كلها من الهواجس والمخاوف, ولن تقوم قيامة لدولة في لبنان أو «الاستقلال» عن الخارج، من دون تخطي هذه التحديات.
استشراف المستقبل
إن أكبر تحد للبنان هو في بقائه موحداً، نتيجة للعوامل الداخلية والخارجية التي أتينا على ذكرها. فالنظام الطائفي السياسي يؤدي إلى حرب داخلية كل عقد أو عقدين من الزمن. والدولة المدنية من شروط تطبيقها إلغاء الطائفية السياسية. من هنا، فإنه من غير الممكن إسقاط نظام غير طائفي أو مدني على مجتمع طائفي منقسم، في ضوء ثقافة رفض الآخر والخوف منه وعدم الرغبة في العيش معه. والجغرافيا السياسية واستجلاب اللبنانيين الخارج للتدخل في أزماتهم، تزيدان من الانهيار السياسي والتفسخ المجتمعي. فأين يكمن الحل إذا؟
في الآونة الأخيرة، جرى الحديث بكثرة من قبل موارنة عن الفدرالية. لكن الفدرالية تتطلب ثقافة الحوار مع الآخر، والاعتراف به، والعيش إلى جانبه، والاتفاق على السياستين الدفاعية والخارجية، وهما موطن الخلاف في لبنان الموحد. وماذا نفعل بالأقليات هنا وهناك، وبالطوائف المقطعة الأوصال؟ في العراق والسودان يختلفون على النفط والحدود، فكيف سنتفق نحن اللبنانيين بثقافتنا الطائفية على النفظ والغاز المتوقعين؟ هل تذهب كل طائفة أو مذهب إلى الحرب لتصحيح الحدود وبالتالي الحصول على المنافذ أو الثروات؟ إن مشروع الحل الفدرالي يعني التقسيم، والتقسيم سيجلب الويلات على لبنان. كما أن بقاء اللبنانيين حيث هم ساكنين إزاء توسع الأصوليات الجهادية من العراق وسورية إلى لبنان المنقسم على نفسه، سياسة ومجتمعاً، بذريعة الرد على تدخل حزب الله في الأزمة السورية، يعني إن مستقبل لبنان قاتم. فلم يعد لبنان يعاني من مشروع أسلمة عبر ما أسماه المسلمون خلال الحرب وبعدها بـ «ديمقراطية الأكثرية»، بل من خلال أصولية إرهابية، كداعش، تريد إقامة دولتها الإسلامية ، ليس على حساب المسيحيين فحسب، بل باستئصال المسلمين المعتدلين والليبراليين.
*******
(*) باحث وأستاذ جامعي لبناني
كلام الصور
1- تحرير جنوب لبنان من الإسرائيليين 2000
2- اغتيال الرئيس رفيق الحريري
3- مزارع شبعا
4- ثورة الأرز
5- اغتيال الوزير محمد شطح