المونسنيور باخـــوس الفغــَـــالي

المونسنيور باخـــوس الفغــَـــالي

( 1913 – 2002 )

                                                                                     

” تعـرفون الحقّ والحقّ يحرّركم ” (يو8/ 32)

 

هذا هو شعار النصف الثاني من القرن العشرين في عمل الحقّ القانوني الكنسيّ الماروني، الموقـّع باسم المونسنيور باخوس الفغالي. فقد حرّر أحكامه بأمانة القاضي العادل، وحرّر ضميره الكهنوتي باستلهام روح الحقّ، وحرّر المتخاصمين من الضغينة ونيّات الخلاف التي ساقتهم إلى المحكمة، مطلِقًا في وجههم بسمة اللقاء وفرح الوفاق وسلام المسيح.

 

من أرض كفرعبيدا، مشتل الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة العريق، ونبع الثقافة الواسعة والعلوم العليا، ومقلع الرجال الكبار صانعي الإنجازات العظيمة، خرج باخـوس الفغالي كاهنًا للربّ، وخورأسقفًا في الكنيسة، وخادمًا لقضايا الناس في أحوالهم الشخصيّة.

 

قيل: جلسة مع الخـوري باخوس تنسيك أنـّك في حضرة الرئيس الدكتور الذي يهابه المتقاضون، لِما يفرض من هيبة القانون والمحكمة. فأنتَ أمام كاهنٍ عتيق، يخبرك من حلو الأيّام ما يأخذك إلى عالم تدهش لانتمائه إليه. يقودك في ذكرياته إلى أيّـامٍ مارس فيها الكرة الطائرة، وهو من أوائل لاعبيها في لبنان. وهو أوّل من اقتنى كاميرا ناطقة وبالألوان، يصوّر المناسبات الإجتماعية والنشاطات الشبابيّة في القرية. في جلسةٍ معه تقرأ في عينيه قصّة دعوةٍ إلى خدمة الربّ قديمة، وتسمع من فمه تفاصيل تحقـيقها في مسيرة حياة رافق فيها رجالاً في الكنيسة عظامًا.

 

ولادته وعائلته

 

في السادس من تشرين الأوّل سنة 1913، ولد لطنـّوس يوسف طانيوس الفغالي وعـقيلته كاترين، ولد ذكر أسمياه باخوس، لأنّ ولادته حصلت ليلة عيد القدّيسَين سركيس وباخوس، شهيدَي الإيمان المسيحي في زمن الاضطهاد الرومانيّ للكنيسة، وشفـيعَي بلدة كفرعبيدا، مسقط رأس المولود الجديد.

لباخوس ثمانية أخـوة وأخوات، منهم الدكتور جوزيف الفغالي، الطبيب الذائع الصيت في مجال التوليد والأمراض النسائيّة، وقد أسّس أوّل دار للتوليد في لبنان، وكان بذلك رائدًا على صعيد الوطن. نذكر أيضًا أخاه بطرس، القاضي البارع في محكمة الجزاء البدائيّة في بيروت، والمحامي حنّا ونسيب الذي سكن في البيت الوالدي مع عائلته. أمّا شقيقاته، فهنّ روز وماري ونسيبة ومنتهى اللواتي أسّسن العائلات وكنّ شاهدات على التربية الصالحة التي تلقّينَها في المنزل الوالديّ.

نشأ باخوس في عائلة جعل منها والداه طنـّوس وكاترين كنيسة بيتيّـة، يعيشان فيها الإيمان المسيحي الراسخ حسب قلب الله، ويشهدان لمحبّة الله أمام ثمرات حبّهما الزوجي قناعة ومثالاً .

 

بـــداياته العلميّـــة

 

واكب باخوس العلم في كفرعبيدا منذ مراحله الأولى. ورافق تطوّر المؤسّسات العلميّة منذ نشأتها. وقد بدأت المدرسة الأولى نشاطها في 2 أيّار 1840. وهي من بناء وتأسيس الخوري طانيوس نادر الذي خدم رعيّة كفرعبيدا بين 1884 و1905. كانت المدرسة عبارة عن غرفة بالقرب من كنيسة مار أنطونيوس البادواني، وقد سمّيت المدرسة على اسمه. وكان الخوري طانيوس يصرف عليها من ماله الخاصّ مبلغ 600 غرش عثمانيّ في السنة، ويعلّم فيها التلاميذ – وكانت للذكور فقط – اللغتين السريانيّة والعربيّة، بالإضافة إلى الحساب والخط والتعليم المسيحي.  

 

كان باخوس تلميذًا في مدرسة مار أنطونيوس البادواني قبل أن ينتقل إلى مدرسة أخرى في وسط القرية، أسّستها البطريركيّـة المارونيّة. وهي شبه مجانيّة، قسطها السنوي ثلاث ليرات فقط. مكان المدرسة غرفة مستأجرة استعملت كمقرّ شتوي للتدريس. أمّا في الصّيف فتنتقـل إلى ظلال شجرة الخرنوب في ساحة كنيسة مار سركيس وباخوس. استعادت هذه المدرسة نشاطها بعد توقّف قسريّ بسبب الحرب العالميّة الأولى. وكانت في تلك الفترة بإدارة الخوري الياس طانيوس الفغالي خادم الرعيّة آنذاك. وكان يعلّم إضافة إلى العربيّـة والسريانيّة، اللغة الفرنسيّة التي كان يتقنها.    

تلقى باخوس إذًا في مدارس قريته المتواضعة، المبادئ الأوليّـة للعلم والمعرفة، ووضع رجليه في سكّة الثقافة التي استطيب مذاقها، فكانت باكورة حياته العلميّة الطويلة. من مدرسة “تحت السنديانة” في الضيعة، تابع باخوس درب العلم في مدرسة الأخوة المريميّين في البترون سنة 1923 ومكث فيها سنتين. هناك استهلّ دروسه الأكاديميّة في مدرسة نظاميّة ذات منهج تربويّ هادف. من ناحية أخرى، كان انتماؤه إلى مدرسة الفرير في البترون، المرحلة التمهيديّة المباشرة من حياته العلميّـة للدخول في الحياة الإكليريكيّـة التي احتوته بعمر اثنتي عشرة سنة.

 

الدعـوة إلى الكهـنـوت

 

يقول المونسنيور باخوس:”تربّيتُ في بيتٍ للكهنوت كان مرجعًا، وللعلم محجًّا… كان عمّي المطران بطرس رئيس ديوان البطريرك، وعمّي المونسنيور مخايل العالِم اللغويّ. هـيبة العـمّين الكنسيّة وزهـوة الأرجواني كان لهما الأثر العميق في طفولتي”.

المطران بطرس الفغالي ولد في 7 تشرين الأول 1874 وتوفي في 20 تمّوز 1944. درس في معاد ثمّ في مار ساسين فغال على الخوري يوسف أبي صعب والمونسنيور بطرس أبي صعب الوكيل البطريركيّ على بلاد جبيل. وقد شهد هذا الأخير

لدعوته الكهنوتيّة ودفعه لتحقيقها. أوفده البطريرك يوحنـّـا الحاج إلى بلجيكا ثمّ إلى إكليريكـيّة بوردو حيث سيم كاهنًا سنة 1904. علّم في مدرسة الحكمة حيث كان الأديب مارون عبّود تلميذًا له. عيّـنه البطريرك كاتب أسراره ومحاميًا للزواج قبل أن يرقـّـيه إلى الدرجة الأسقـفيّـة سنة 1919. وقد رافقه إلى مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919.

أخوه المونسنيور مخايل الذي درس أيضًا في مار ساسين فغال، وكان رفيقًا للأديب مارون عبّود، انتقل إلى مدرسة مار يوحنّـا مارون في كفرحيّ ومنها إلى إكليريكيّة غزير. سافر أيضًا إلى بوردو حيث أنهى دروسه اللاهوتيّـة وارتسم كاهنًا سنة 1908. ثمّ نال شهادة الدكتوراه وعُـيّن أستاذ اللغات، وخصوصًا اللغة العربيّـة، في جامعتي السوربونّ وبـوردو. عـيّن نائبًا بطريركيّـًا في باريس، وكان رائدًا في نقـل الليتورجيّـا المارونيّـة إلى اللغة الفـرنسيّـة.

 

أضف إلى ذلك أنّ الحضور الكهنوتيّ لم ينقطع في كفرعبيدا خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. يُطلعنا تاريخ هذه القرية أنّها أنبتت الكهنة الذين خدموها روحيّـًا وتربويّـًا. وقد كانوا رجالاً أتقياء، يخدمون الله بصدق وأمانة، ويتفانون في سبيل الإنسان. وقد رأينا أنّ المدارس التي تأسّس فيها المونسنيور باخوس، كانت بإدارة كهنة كانوا أيضًا معلّمين فيها. كما أنّ أرض كفرعبيدا كانت حافـلة في طفولة باخوس بالجمعيّـات الدينيّـة والأخويّـات. فقد تأسّست في نهاية القرن التاسع عشر جمعيّـة قلب يسوع للرّجال وأخويّة الحبل بلا دنس للنساء. أمّـا أخويّة مار يوسف البتول فللرجال والنـساء معًا. كما تأسّست بداية القرن العشرين جمعيّة الأخوّة الدينيّـة. إنّ أخويّة الحبل بلا دنس النسائيّة لا تزال ناشطة حتى اليوم وهي تعتبر المحرّك الأساسي في حياة الرعـيّة. فتـُعنى بكنائس البلدة وتقـيم النشاطات الدينيّة في القرية وتشارك في جميع الاحتفالات والمناسبات داخل القرية وخارجها.

 

في معرض حديثه عن فترة الصبا، يذكر المونسنيور باخوس أنـّـه كان يلعب وابن خالته لعبة “الخوري والقداس”. فيحضّران المبخرة والكأس، ويخيطان بدلة القدّاس من أوراق الجرائد، ويقيمان على طريقتهما الاحتفال بالقداس. وقد أخذت هذه اللعبة محلاّ ً في نفسه، وكان لها تأثير عميق في مجرى حياته.

 

إنّ هذا الجوّ العابق ببخور الحياة الروحيّـة الخصبة، والخدمة الكهنوتيّة المتفانية، كما هذه العائلة المتضوّعة برائحة الفضيلة الحبريّة، والروح الكنسيّة والعلميّة العالية، كلّ هذا جعل آذان الصبيّ باخوس مرهفة لسماع صوت الله يدعوه إلى خدمته في الكنيسة المقدّسة على مذبح الحمل الإلهيّ.

 

الطالب الإكليريكي والسيامة الكهنوتيّـة

 

انتقل باخوس من مدرسة الأخوة المريميّين في البترون إلى المعهد الإكليريكيّ الشرقي التابع للرهبنة اليسوعيّة ثمّ إلى الكلّية الشرقـيّة في بيروت حيث تابع الدروس الفلسفيّـة والاهـوتيّة، واكتسب تنشئة روحيّة وكنسيّة.

قضى فترة ثلاث عشرة سنة طالب كهنوت، نال في نهايتها شهادة البكالوريا في اللاهوت النظري، وأعطي على أساسها

الإذن بارتقاء درجات المذبح. سامه كاهنًا في 25 أذار 1932 عيد بشارة العذراء، عمّه المطران بطرس الفغالي، في كنيسة

القدّيس يوسف في بيروت.

 

التخـصّص

 

لم يكتفِ الكاهن الجديد بما اكتسب من العلوم الأكاديميّة، وهو ابن عائلة امتاز أفرادها بالملفنة والثقافة الواسعة. فكيف يكون ابن شقـيق المطران العلاّمة والخورأسقف الأستاذ الجامعي والعالِم اللغوي كاهنًا، دون أن يطال من الشهادات أعلاها ومن الثقافة أرقاها. فسافر إلى روما يتخصّص في الحقّ القانوني في الجامعة الغريغوريّـة، وهي صرح علمي بإدارة الآباء اليسوعيّين الذين قضى في رعايتهم ثلاث عشرة سنة قـبل سيامته الكهنوتيّـة. وأمضى هناك حوالي ستّ سنوات عاد بعدها إلى لبنان سنة 1939، في بداية الحرب العالميّة الثانية.  

 

عام 1946، توجّه الخوري باخوس إلى فرنسا حيث نال مأذونيّة في الحقّ القانوني من المعهد الكاثوليكي سنة 1947. ثمّ عاد إلى روما مجدّدًا ليتابع دراسته القانونيّة وينال في نهايتها الدكتوراه بناءً على أطروحة قدّمها بعنوان “تطبيق المجمع اللبناني بشأن البطريرك”. في الوقت نفسه، درس الدكتور الجديد في معهد تابع لمحكمة الروتا الرومانيّة لتخريج القضاة والمحامين الكنسيّين. فنال شهادة “محامٍ روتالي”. وهي لا تعطى إلاّ لمن سبق له وحصل على الدكتوراه في الحقّ القانوني. وكان كاهننا أوّل شرقي ينال هذه الشهادة.

 

التـــدريس

 

لمّا عاد إلى لبنان سنة 1939، عهد إليه المثلّث الرحمة، البطريرك مار أنطون بطرس عريضة، التدريس في المدرسة الإكليريكيّة. وقد قضى في هذه المهمّة ثلاث سنوات حتى سنة 1942. وكان في عداد تلاميذه في تلك الفترة، البطريرك الحاليّ مار نصرالله بطرس صفيـــر والمطران إميل عيد.

حبّـه للتدريس دفعه لقبول مهمّة تعليم الفلسفة واللاهوت الأدبيّ والنظريّ في جامعة القدّيس يوسف في بيروت ما بين 1942 و 1946. وقد درس عليه في تلك الفترة، الأباتي مارون حريقة والأب سمعان الدويهي نائب زغرتا السابق . وبعد عودته النهائيّة إلى لبنان سنة 1950 متأبّطًا الدكتوراه في الحقّ القانوني، عاد إلى الجامعة اليسوعيّة معلّمًا في اختصاصه، وملقيًا المحاضرات الأسبوعيّـة لطلاّب القانون الكنسي والمدني في كلّية الحـقوق.

 

في المحكمة المارونيّـة

 

سنة 1950، لمّـا بدأ المونسنيور باخوس عمله في المحاكم الكنسيّة المارونيّة، كانت المحاكم البدائيّة موزّعة في مراكز المطرانيّات.

فلكلّ أبرشيّة محكمتها بإشراف المطران نفسه. أمّا المحكمة الاستئنافيّة فمركزها كان في بكركي. سيّر المونسنيور باخوس أعمال

المحاكم البدائيّة في المطرانيّات التالية :

– طرابلس سنة 1950 أيّـام المطران أنطون عـبد.

– قبرس سنة 1952 في عهد المطران فرنسيس أيّـوب.

– بيروت سنة 1954 أيّـام المطران اغناطيوس زيادة.

بقي هذا الوضع على حاله حتى سنة 1958، تاريخ توحيد المحاكم المارونيّـة على عهد البطريرك بولس بطرس المعوشي وتعـيين الخوري باخوس رئيسًا للمحكمة المارونيّة الموحّدة. وكان أوّل مركز للمحكمة، غرفة جانبيّة ملاصقة لكاتدرائيّة مار جرجس في بيروت، وكانت تكاد لا تسع إلاّ لهيئة المحكمة وبعض المتقاضين.  

انتقل المركز بعدها إلى شقة في إحدى بنايات سوق النجّارين. فكان المكان أكثر اتّساعًا والوضع أفضل حالا ً، لكن الحـرب أعادت الوضع إلى أسوأ، واضطرّت المحكمة إلى هجر بيروت نهائيّـًا، وتنقـلت بين مراكز الرهبانيّات في اللويزة ومعهد الرسل والكسليك.

تسـلّم رئاسة المحكمة البطريركيّة الاستئنافيّة مدة أربع سنوات، تركها ليعود إلى رئاسة المحكمة الموحّدة ومنذ عام 1985، عُـيّن من جديد رئيسًا للمحكمة الإستئنافيّة.

ولمّـا تبوّأ البطريرك صفير السدّة البطريركيّة المارونيّـة، كان همّه واهتمامه استحداث مركز جديد وخاصّ بالمحكمة المارونيّة. فكان لها في زوق مصبح “استقلاليّـة المكان وفخامة البناء وروعة التصميم”. وقد تمّ تدشين المركز الجديد برعاية وحضور صاحب الغبطة في 16 حزيران 1995، واستمرّ المونسنيور الدكتور في مركزه رئيس المحكمة يصدر الأحكام ويتمّ المصالحات.

 

قـريتــــــــــــه

 

أحبّ المونسنيور باخوس مسقط رأسه كفرعبيدا حبًّا كبيرًا ولم يردْ أن يعيش خارجها. وهو يقول في هذا الصـدد: “لو تعرف كم ردّتْ عنـّي مغريات روما وعروض باريس، فكنت أردّد دائماً بأني لن أعيش إلا ّ في لبنان بعامّة، وفي كفرعبيدا بخاصّة”. يتكلّم المونسنيور على قريته كمن يفعل على حبيبةٍ بينه وبينها هيام عتيق، وتاريخ من المواقف والعلاقات الحميمة. إنّها ملعب طفولته ومسرح ذكرياته في الشباب. كم من موقع يذكّره بحادثٍ طريف، وكم من نشاط له فيه طول الباع. ناهيك عمّا بذل في تطوير القرية حجرًا وبشرًا. ها هي أول طريق للسيّارات تربط أحياء القرية ببعضها، تنطق بما وضعه لشقّها سنة 1951، وعقـليّة القرية أثناءها لا تضحّي بشجرة توت فكيف بهدم زاوية قـبو قديم يقدّم للقـرية ما يقدّمه من التطوّر وتسهيل العيش. فيما يخصّ الكنيسة الرعائيّة، ماذا نقول عمّا فعل المونسنيور باخوس لتقوم هذه الجديدة على اتساع أبناء الرّعيّة وتكاثرهم.

بُنيت الكنيسة القديمة سنة 1840. لكنّ النموّ السكّاني جعل منها صغيرة الحجم، لا تستوعب عدد المؤمنين في الرعيّة. عندئذٍ نظر المطران بطرس الفغالي وأخوه المونسنيور مخايل إلى تشييد كنيسة جديدة وكبيرة، ترافق التطوّر السكاني والديموغرافي لكفرعبيدا. وبالتنسيق مع الكرسي البطريركيّ، أحضرا تصميمًا منقولاً عن إحدى الكاتدرائيات الأوروبيّة، وعدّلاه ليصبح موافقًا للطقس الشرقيّ والمارونيّ. وأطلقا مشروع البناء الذي بوشر به سنة 1912. استمرّ العمل في بناء الكنيسة زمنًا طويلاً وأوقف فترات عـدّة بسبب الحروب والأزمات. وبعد وفاة المطران والخورأسقف، استلم المهمّـة ابن شقيقهما الخوري باخوس، فتمّ تركيب الزجاج وتمهيد الساحة وبناء المدافن. وسنة 1945، تمّ تركيب القـبّة والجرس والصليب، ونـقـلت إليها صورة القدّيسين سركيس وباخوس التي كانت في الكنيسة القديمة . ولمّا اكتملت جهوزيّـتها، تمّ تدشينها في قدّاس احتفل به الخوري بطرس الورد من كفركـدّه يوم عيد شفيعَيها في 7 تشرين الأول 1948، وكان المذبح كناية عن طاولة عاديّـة.

في القرية مزار مهدّم على اسم سيّدة الخندق، لم يبقَ منه إلاّ حائط عليه صورة العذراء. وقد نبت حول المقام الشوك والأشجار البرّية التي تشابكت أغصانها حتى حالت دون وصول الزوّار إلى المكان إلاّ زحفًا. فسرى اعتقاد أنّ العذراء تريد أن يأتي إليها المؤمنون زحفًا. ولم يجرؤ أحد على قصّ الشجر وإزالة الشوك “تلافيًا لغضب السيّدة”. ولم يُفِد في الأهالي طلب المونسنيور باخوس وإلحاحه في تسوية الوضع وإقناعهم بأن معتقدهم خرافة، إلى أن نزل شخصيًّا حاملاً المنجل بادئًا بالعمل. فتحمّس الشباب عندها، وحملوا بدورهم المناجل وأكملوا إزالة العوائق إلى أن فتحوا الطريق وبنـوا مذبحًا عند المزار واحتـفلوا بالقدّاس واوقفوا عمليّة الزحف ومعتقدها الزائف.  

كان المونسنيور باخوس رائد نهضة اجتماعيّة وروحيّة لقريته في منتصف القرن العشرين يوم كانت العقـليّة القرويّـة بعد ضيّـقة، والانفتاح على المجتمع الخارجيّ بشكل عامّ والمدنيّ بخاصّة لم يكن قد بدأ اجتياحه. لقد تمكـّن هذا الكاهن بمحبّته الكبيرة وثقافته الواسعة من اقتحام النفوس الرابضة في أعماق التقاليد المتحجّرة، وأذاق أبناء بلدته طعم الحضارة الإنسانيّة والمسيحيّة حيث جعل الإنسان محور العمل الاجتماعي وموضوع الإيمان والخلاص بدل أن يتركه في خدمة التقاليد الشعبيّة وضحيّة المعتقدات البالية، الموروثة عن جهل على مدى الأجيال المتلاحقة.  

عُرف المونسنيور رجلاً اجتماعيًّا من الطراز الأول. فهو حاضر في حياة القرية اليوميّة. تراه في منزله لاعبًا طاولة الزّهر ومستأنسًا في جولة من الشطرنج. فهو لا يتهاون في بطش خصمه وإعطائه درسًا في كيفيّـة التجرّؤ على أبطال اللعبة. من ناحية أخرى، يشارك مواطنيه في مناسبات القرية العامّة. فها هو في العشاء القرويّ يحمل بسمته الثمانينيّـة التي تزرع روح شبابٍ لا يتعب، ويعكس من خلالها فرحَ انتمائه إلى قـريته الحبيب. وتراه في كرنفال السيّارات أثناء مهرجان وداع الصيف، يعلو سيّـارة بابّا موبيل، فيستعيد صورة قداسة البابا في زيارته إلى لبنان، ويوزّع بركته الفغاليّـة على من يستودعهم أرضًا أنبتته وإيّاهم، ليسلّمهم راية الحضارة الوطنيّة والرسالة الإنسانيّـة.

 

ترقيتــه وتكريمـــه      

منحه قداسة البابا بيّـوس الثاني عشر عام 1945، أعلى رتبة تعطى للكهنة، وهي تـُعرف بِ Pronotaire apostolique . ثمّ رقي إلى رتبة الخورأسقفيّة سنة 1985على يد غبطة البطريرك صفير الذي كان لا يزال النائب البطريركيّ العامّ، وذلك في كنيسة الصرح البطريركيّ في بكركي.

 

إنّ رجلاً بحجم المونسنيور الفغالي، عمل طوال ما يقارب السبعين عامًا في حقل الربّ في الكنيسة المارونيّة عمومًا، وفي المحكمة الموحّدة والاستئنافيّـة بشكل خاصّ، كما في خدمة قريته التي أحبّ، لا يترك بصماته فقط في الإنجازات العظيمة التي حقّق، بل أثرًا عميقًا في النفوس التي حفرت له فيها تقديرًا صادقًا، وعاطفة خالصة ملؤها الشكر والمودّة، تجلّت في احتفالاتٍ تكريميّـة من قبل الجماعات التي كرّس وقته وحياته في سبيلها.

 

– في احتفال تدشين المركز الجديد للمحكمة المارونيّـة في زوق مصبح، أراد الطريرك صفير ألا ّ تمرّ هذه المناسبة، دون لفتة تقدير لمن أعطى المحكمة حتى تاريخه خمسة وأربعين عامًا تميّـزت بتغليب القانون والعدالة واحترام حقوق الناس. فكان له درع التقدير الذي حفر عليه: 45 سنة في خدمة القضاء الكنسيّ إلى الخورأسقف باخوس الفغالي، عربون محبّة وتقدير من المحكمة المارونيّة”.

– قـدّمت له اللجنة الإداريّـة في نادي التضامن الرياضيّ – كـفرعبيدا سنة 1999، درعًا تكريميًّا لأنّه “من الرعـيل الأوّل الذي أدخل الكرة الطائرة إلى الملاعب اللبنانيّة وإلى القلوب المفعمة بالإيمان …”

 

– منحه الرئيس شارل حلو وسام الاستحقاق اللبنانيّ من رتبة فارس.

 

مؤلّـفات المونسنيور

الخورأسقف باخوس الفغالي مرجعيّة قانونيّـة رفيعة للكنيسة الشرقيّـة. لأجل ذلك عمل على وضع الكتب القانونيّـة التي تكوّن مراجع قيّمة في هذا المجال، ومنها:

– “في الزواج”: وهو تعليق على قانون الزواج الشرقي الجديد ومقابلته بالقانون الغربي، وإيراد الكثير من اجتهادات المحاكم الرّومانيّــة العليا.

-“مختصر اللاهوت الأدبي” للأب هاريرجون. أعدّه وعلّـق عليه مضيفًا إليه الكثير من أحكام القانونيّين اللبنانيّـة والقانون الكنسيّ الشرقيّ.

بالإضافة إلى المحاضرات والمقابلات القانونيّـة في مجـلّة المشرق وغيرها…  

 

إلى حـضـــــرة الله

غادر المونسنيور باخوس هذه الحياة بعد تسعةٍ وثمانين عامًا حافلة بالمكرُمات الكهنوتيّة والخصال الرسوليّـة، في السادس والعشرين من أيلول 2002. وهو رغم عجز الجسد، بقي حتى النفس الأخير نيّر الفكر والروح. وبقي مستشار المسؤولين في المحكمة ومرجع القضاة في أحكامهم. عاش المونسنيور المرحلة الأخيرة من عمره في عناية أولاد أشقائه، خصوصًا أبناء أخيه نسيب الذين سكن وإيّاهم تحت سقفٍ واحد. واعتبروه بركة لهم ولعيالهم، وصلاة حيّـة في منزلهم، لأجل توفيقهم في الحياة ونجاحهم في مجالاتها كافـّة.

جاء في الرقيم البطريركيّ أثناء الصلاة لراحة نفسه: “كان هو هو، الذي لا يلبّي إلاّ دعوة القانون… وداعي الضمير الذي لا يحيد عنه قيد أنملة، رضي من رضي، وغضب من غضب”. سيبقى هذا الكلام صرخة حيّـة ومدوّية في وجه من باعوا ضميرهم ليحكموا على الناس بوحي من مصالحهم وأهـــوائهم.

عاش الخورأسقف باخوس كبيرًا ومات عظيمًا. وسيحكي التاريخ قصّة رجل عمل لمجد الله طوال أيّـامه. فكافأه الله أن عاين محبّته تعالى ترافقه على دروب الحياة الوعرة وفي الصعوبات. ورأى محبّـة البشر لشخصه تفيض على الصعيدين الكنسيّ والاجتماعيّ.

 

مات المونسنيور بالجسد ولكنّه اسم لن يموت. سيرافق الكهنة بصلاته من جوار الله. سيشفع لكفرعبيدا في حضرة الذي رحمته أطيب من الحياة. سيبقى ملهم القضاة على أقواسهم، يستقي لهم من عطايا الروح فيضًا من عدل الله، وعلى المتقاضين سلامًا من قلبه القدّوس. هذا المونسنيور الذي إذا ذُكر، تُذكر صفحة لن يطويها الزمن من تاريخ الكنيسة المارونيّة، الحبريّة في شأنها، والفاضلة في روحانيّـتها، والمناضلة في مسيرتها نحو العلاء، نحو الحياة التي من قلب الله تفيض.

 

 

 

                                                                                   في 11 حزيران 2003

 

                                                                                       عـماد يونس فغالي          

 

 


 

 

 

 

 

    

 

 

 


   

شاهد أيضاً

جدليّةٌ… إشراقاتُ خلود!

  دفعتَ إليّ بمخطوطٍ عنونتَه: “جدليّةُ الحضور والغياب”، فأشعرْتَني أنّكَ تضع بين يديّ سِفْرًا غاليًا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *