كاهــِـنَ الكلمــَـة إلى المونسنيور ميشال الحايك في انتقاله

كاهــِـنَ الكلمــَـة

 

(إلى المونسنيور ميشال الحايك في انتقاله)

 

 

       قلتَ يومًا لطالب كهنوت : “هذا الطريق طويل ومليء ٌ بالأشواك. بس بدّك تمشيه، وبدّك تصير قدّيس”. ذلك أنّ الكاهن في اقتناعكَ علامة ُ حضور الله في العالم. والعالم، فيه من مفترقات الطرق غير المؤدّية إلى الله، المتمسّـكة بالأرض ومفاتنها، التي تحجب بهاءَ النـور الإلهيّ الوهّـاج، لِما تلهي به العيون البشريّـة ببريق ٍ زائف ٍ كذّاب.

 

ولكنـّـكَ رجلُ المذبح. من قربانه تغتذي قوتًا للحياة، تـُشبع منه نفسكَ عن خبز ٍفان ٍ، سرعان ما يحلّ مكانه جوع ٌ فارغ إلى مثله، ولا ما يكفي. ومن المذبح تقتات بكلمة السيّـد، نهجًا لمسيرتكَ نحو الملكوت، وأنماطًا لسلوك ٍ تتجلبب به، عباءة ًتقيكَ بَرْد عُرْي الرذيلة، وحرّ التلوّع من الخطيئة.

 

وكنتَ الكاهن الملتزم كهنوتك بمجده وصليبه. ولم تساومْ في قناعاتك، وأنتَ على ما أنتَ من صفات ٍعالية، ميّـزتكَ، ومكّنَتكَ من اعتلاء الأمجاد العلميّـة والثقافيّـة، التي جعلَت منكَ رجل مشورة لكبار الأمّـة وعلى امتداد الاغتراب.

 

وها أنتَ في كهنوتك رجلُ صلاة، عبّرتَ عنها من خلال موهبة ٍ من فوق، شعرًا. فإذا بصلاتكَ قصائدُ تناجي الخالق، وبأبياتكَ تتصاعد صلاة ًتدغدغ الآذان الإلهيّـة بأعذب سمفونيّـة لاهوتيّـة، على وقع قوافي التسبيح، وأوزان الشكر اللامتناهي.

 

قال فيكَ مارون عبّـود، يوم سمعكَ تنشد شعرًا، الخوري يوسف الحدّاد المنتقل من هذه الدّنيا: “هذا شاعرٌ يضيّـق عليه ثوبه”. لكنـّـه لم يقرأ في مرثيّـة أديب صعيبي للحدّاد ما يردّ عليه لمّـا قال :

” شيخ َالبلاغة من حِجاكْ       هبني لأبدع في رثاكْ

   الطـّــهر يَبـْــكي كاهنـــًا       والشعر مطرانًا بكـاكْ “

لأنّ الشاعر فيكَ يعانقك كاهناً في أنشودة ٍ تصلـّيها نفسك، في انخطاف ٍ ملائكيّ يجذبكَ نحو الكاهن الأزليّ بطهارة ٍ كهنوتيّـة خالصة، وشاعريّـة ٍ حَبريّـة نادرة .

 

يا كاهنَ الكلمة الذي تجلـّى في كلمة الكاهن صوتًا صارخًا على المنابر، ليعلنَ إلهًا يعبده المرء في الإنجيل فاديًا على الصـليب، وعلى صفحات القرآن رحمنَ رحيم. آمنتَ بالكلمة المتجسّـد مسيحًا، لتزفـّـه نبيّـًا عيسويّـًا لم يلده رجل، ولم يمسّـه موت. إنـّـكَ كاهن الله الذي يسمو على المدارك الإيمانيّـة، لتطاله القلوب البشريّـة في عالم ٍ ليس من عالمها.

يا حَبر الكلمة التي استحالتْ بحِبركَ آيات ٍ تصلـّي بالوزن والقافية، وتنطق بخطـّـكَ أدبًا لاهوتيّـًا، يعصر قلبكَ قطرات ٍ رسوليّـة، أسمعَتْ بلاغة َ الحبّ السّماوي، آذانَ المعمورة في جامعات الشرق ومعاهد الغرب على السواء.

 

ها أنتَ تدخل اليوم عالماً تقتَ إليه دوماً. وناجيتـَـه حياتكَ كلّها. وعملتَ عمركَ الكهنوتيّ على معرفته. وقد رافقتَ سابقيكَ إليه مرافقة ً إبداعيّـة ً ملهَمة، هي لكَ اليوم أدعية محبّيك ومواكبة عارفيك. هي تمتمات قادريك، والمفيدين من إرثكَ الزّاخر بشذرات الأبد.

إجلس الآن، يا من أطعمت من أطايب الله، إلى مائدة الملكوت، وذق المجدَ المعدّ لكَ منذ أنتَ في فكر الله. وأنشِدْه شعركَ بعذوبة الحبّ الذي تحيا فيه مدى الدّهر.

 

 

                                                     في 2 أيلول 2005

 

                                                   عماد يونس فغالي

      

 

شاهد أيضاً

جدليّةٌ… إشراقاتُ خلود!

  دفعتَ إليّ بمخطوطٍ عنونتَه: “جدليّةُ الحضور والغياب”، فأشعرْتَني أنّكَ تضع بين يديّ سِفْرًا غاليًا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *